هذا الموضوع دفعت للتحضير له دفعا رغم مشاغلنا المختلفة نوعيا بمركز ابن خلدون في الفترة الأخيرة لإلقائه كمحاضرة في أحد الندوات .
وهذا الموضوع لا يجب أن ينظر إليه على المستوى الأكاديمي فحسب ، بل يجب أن ينظر إليه على المستوى الفلسفي في المقام الأول .
لأنه يتناول احتياجات البشر حاضرا ومستقبلا ، وما يجب أن تكون عليه في إطار تحقيق الرغبات ، لذا أعتقد أنه يكتسب بذلك أهمية قصوى .
وفي محاولة لتبسيط المفاهيم يمكن القول :
أن العولمة تعني الانخراط في المنظومة الإنسانية في إطار الحضارة الكونية التي نعيشها ، والحريات تعني الحركة الحرة .
ومن مشاهداتنا نجد أن المنظومات التي تحكم العالم مما يعني الارتباك في الحركة الحرة " الحريات " .
وحديثنا يجب أن ينصب حول كيفية إيجاد التوازن بين الحريات والنظام العالمي ، ومعرفة موقفنا منه أهو بالسلب أم بالإيجاب " المساهمة " .
لأنه من المعلوم بأن تنظيم الحريات يؤدي دائما إلى السلام لأنه يؤدي إلى تحقيق الحد الأقصى من الرغبات للجميع ، وفوضى الحريات يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء .
والعولمة اتجاهان منها ما يحاول إيجاد توازن بين الطبيعة والإنسان مستعينين بما جاء عن المولى عز وجل " عولمة مؤمنة " ومنها المحرر من الأديان ويعتمد على القدرات الإنسانية .
ولكل من الاتجاهين مزاياه حسب إما قدرات الإنسان في فهم ما جاء عن الإله ، وإما ما وصل إليه الإنسان من تطور .
وله عيوبه الممثلة إما في الفهم الخاطئ للدين وإما القدرات الإنسانية المحدودة مهما وصل من تطور .
وهذا ما نراه على المستوى المعاش .
فنحن نعيش داخل ثلاث دوائر متداخلة ، يجب إيجاد توازن بينها لكي نعيش في استقرار
1. دائرة الطبيعة والواجب الحفاظ عليها حين استغلالها ، ولذلك وضعت قوانين لعدم تدهورها " التوازن البيئي " ، والذي يؤدي إلى الحماية من الكوارث الطبيعية وتفشي الأمراض ، وما زالت هذه القوانين غير ناجعة .
2. دائرة الأعمال لأن إطلاق حرية الأعمال يؤدي إلى ظلم الآخر ، والمجاعات والحروب واستعباد البشر ، وما زالت هذه القوانين أيضا غير ناجعة .
3. دائرة الأخلاق وهى الحدود التي يمكن الاتفاق حولها بما يحمي الطبيعة من التدهور " الإفساد " وما يحمي الإنسان من أخيه الإنسان " سفك الدماء " ، وللأسف ما زالت هذه القوانين عاجزة عن تحقيق ذلك .
ومن هنا يتضح عدم وجود حريات مطلقة ولن يكون في أي بقعة من الأرض .
وأيضا يتضح أنه لابد من الانخراط في العولمة إن شئنا أم أبينا ، وعليه يجب أن نقبل الحد من الحريات بإيجابية " قوانين ملزمة للجميع " لمصلحة المجموع ، وهو ما يوحد قوانا ، وليس القهر المفروض من البعض لصالحهم والذي يشتت قوى الجميع .
والخلاصة :
لا يوجد ما يسمى بالحرية المطلقة ، لوجود ما يقيد حرية الإنسان بصورة دائمة .
فقد وجد الإنسان على هذه الأرض حيا ، والحياة تستلزم حرية الحركة على كافة المستويات ، ولكن منذ ولادة هذا الإنسان يجد نفسه مقيد الحرية ، سواء جاءت هذه القيود من الطبيعة مثل الجاذبية الأرضية والسباحة في الماء وصعود الجبال والمناخ المحيط به ، والوحوش الضارية ،علاوة على المحيطين به وتتعارض حرياتهم مع بعضهم البعض .
وفي كل الأحوال يحاول أن يمتلك حريته فيحاول تذليل العقبات التي تحد من حريته ، وسيبقى هكذا باستمرار .
فحاول التغلب ولو بنسبة ما على الجاذبية بالطيران وعلى الماء بالسباحة وبناء السفن ، والمناخ بصناعة المكيفات وهكذا ، فقد نجح في تذليل المعوقات الطبيعية بقدر ما . ولكنه فشل في تذليل عقبات الرغبات والبغي .
بدأ تذليل العقبات بالتقدم العلمي والتقني ، فكلما تطور العلم تقدم أكثر في مجال السيطرة على الطبيعة .
فقبل ثورة الاتصالات كانت حياة هذا الإنسان محدودة بمجال حركته والتي بدأت تتسع بإضطراد مع تقدم وسائل الانتقال عن طريق التقدم العلمي ، فحاول أن يضع القوانين التي تنظم حياته دون بغي على الآخر " قطريا .
وحينما يستشعر بقوة أكثر من الآخرين يحاول السيطرة عليهم واستغلال مواردهم لصالحه ، وكان الإنسان يعيش في أقطار محدودة لذا كانت قوانينه محدودة بقطره ، ويحاول أن يمتلك من القوة ما يجعله يحافظ على مصالحه دون بغي أحد عليه .
ولكن بعد ثورة الاتصالات أصبح الأمر متغيرا ، فأصبح العالم منفتحا على بعضه البعض ، وأصبحت العلاقات بين البشر على مدى اتساع المعمورة متشعبة وتؤثر كل منها في الأخرى ، وأصبح الأمر مختلف فأصبح الإنسان قادرا على الانتقال إلى أقصى بقعة في العالم ، وكذلك انتقال رؤوس الأموال والمعلومات والتكنولوجيا والأفكار والمعاملات من كل نوع ومنها التجارية .
وبذلك أصبح العالم يعيش الآن في قرية كونية صغيرة كما يقال .ومن هنا وجب إيجاد منظومة قانونية عادلة تسع كل من على هذه البسيطة .ولكن هيهات رغم كل التقدم العلمي فمازال الإنسان عاجزا عن إيجاد هذه المنظومة .
وخلل هذا التوازن يظهر حين دعم وتعزيز الحريات الفردية نجد أنه يأتي على حساب الالتزام الاجتماعي .
وما زال العمل جاريا حول البحث عن هذه المنظومة .
لذا كان لزاما البحث عن أفكار لإيجاد منظومات فكرية تشمل البشر في أن يتعايشوا في سلام ، ولكن ما زالت هذه القوانين قاصرة عن تحقيق هذا الهدف ، وتتتالى النظريات كل منها لتحل مشكلة بالنظرية التي قبلها أو تقدم إضافة جديدة إليها وهكذا حتى في القوانين العلمية .
ومن الغريب أننا كمسلمين نملك مثل هذه المنظومة ولكن للأسف مازلنا عاجزين عن اكتشاف مضمونها حتى نوجد به هذا التوازن في الحريات بين البشر جميعا داخل الدوائر الثلاث " الأعمال ، التوازن البيئي ، الأخلاق " .
هل لدى أحد من حضراتكم مخرج ليقدم به الإسلام للعالم بصورة تليق به في ظل الانتقادات الموجهة إليه ؟ .
سؤال أقدمه لأصحاب الضمائر الحية وليس الأموات ، هل فكر أحد مجرد التفكير في هذا السؤال .
وإلا بماذا سنساهم ونحن نقول مجرد قول بأننا خير أمة أخرجت للناس .
هل ننتظر يوضع لنا القانون الواجب السير عليه ، أليس لدينا إلا نقد الآخر سواء بالحق أو الباطل ولا نلتفت للحظة في نقد أنفسنا .
الغرب يفكر فئويا والشرق الأقصى يفكر في إطار السياق العام ، فهل لنا سمات فكرية خاص بنا .