الكنيسة المصرية.. جاذبية سياسية ومحاذير دينية | ||||||||||
استرضاء الأقباط ضرورة وليس ترفا سياسيا، وانحيازهم إلى الدولة الوطنية يجلب لهم عداء إخوانيا صريحا. | ||||||||||
العرب [نُشر في 23/02/2015، العدد: 9837، ص(7)] | ||||||||||
عندما تواترت الأنباء عن أزمة الأقباط في ليبيا، قبل التأكد من نحرهم، توجه أقارب الضحايا من المنيا في صعيد مصر، إلى مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في قلب القاهرة، كملاذ وملجأ للتصرف مع هذه المحنة، وهو المكان نفسه، الذي توجه إليه في اليوم نفسه (13 فبراير) رئيس الحكومة إبراهيم محلب للقاء ذوي الضحايا ومواساتهم، ومعه لفيف من الوزراء والمسؤولين، وعندما تأكد الجميع من عملية الذبح، بعد ثلاثة أيام، تحول مقر الكنيسة المصرية إلى خلية نحل، وأصبح مقرا لتلقي العزاء، حيث حرص الرئيس عبدالفتاح السيسي وكبار رجال الدولة على تقديم واجب العزاء للبابا تواضروس، وهي المرة الثانية التي يذهب فيها رئيس مصر للكاتدرائية خلال أربعين يوما، فالأولى كانت لتهنئة الأقباط بأعياد الميلاد. زيارات السيسي وبعض المسؤولين والسياسيين، وسرعة الثأر الذي قامت به القوات المسلحة المصرية للضحايا الأقباط في ليبيا، لفتت انتباه كثيرين، حيث بدا الاهتمام مبالغا فيه، فإذا كان الثأر سيتم، بصرف النظر عن ديانة المواطنين الضحايا، فإن حرص المسؤولين على التقرب من الكنيسة أثار تساؤلات وتقديرات وتكهنات كثيرة في بعض الأوساط السياسية في الداخل والخارج، فربما تكون المواساة، الرسمية والشعبية، مفهومة لأن إرهابيي داعش كانون يريدون من وراء استهداف 21 قبطيا، إحداث فتنة طائفية، وكانوا يراهنون على استمرار الحذر والخجل حيال ليبيا، لكن خاب ظنهم وتجرأت مصر على ليبيا، وضربت عرض الحائط بكثير من المحاذير السياسية والأمنية السابقة، بعد أن قامت بالتنسيق مع الحكومة والجيش الليبيين. لغز الاهتمام لكن سر الاهتمام الكبير بالكنيسة والأقباط عموما، من قبل الرئيس السيسي، تحوّل إلى لغز في نظر البعض، خاصة أن هذه التصرفات بدأت تعدّ نوعا من أدوات الاستفزاز للتيار الإسلامي المتشدد، الذي تخوض الدولة بجميع أجهزتها الرسمية حربا ضروسا ضده، وتحاول اقتلاعه من جذوره، فكيف تتم مكافحة التيار الديني الإسلامي، وتتم المهادنة مع التيار الديني المسيحي، الذي تعتبر الكنيسة ممثلة له باقتدار؟ السؤال الكبير السابق، بدا لغزا للبعض، وكانت دوافعه مفهومة في نظر آخرين، فمن تعجبوا من الاهتمام كان مبعث تعجبهم الخوف من أن تصبح ليونة الممارسات حافزا لزيادة رقعة التشدد في البلاد وعائقا أمام دور رجال الأزهر في تقديم رؤية رشيدة للدين الإسلامي، إذ يمكن أن يؤدي ما يوصف بدليل الأقباط إلى صعوبة مهمة تراجع كثيرين عن تطرفهم بل يمكن أن تفضي إلى تسهيل مهمة المتشددين في زيادة رقعة الاستقطاب في قطاعات واسعة من المسلمين البسطاء في مصر وغيرها. ذبح الأقباط على يد داعش يستهدف زرع فتنة طائفية في مصر اعتمادا على عدم إقدام القاهرة على الثأر بسرعة أما من تفهموا الدوافع فقد امتلكوا حزمة كبيرة من المبررات السياسية التي تجعل السيسي وغيره من المسؤولين في مصر يحرصون على مجاملة الأقباط، وإشعارهم بالطمأنينة في بلدهم، وقطع الطريق على الهواجس التي ترددت من قبل بشأن أنهم مواطنون غير مرغوب فيهم، خاصة أن الفترة التي تلت ثورة 25 يناير 2011 شهدت أعلى معدل هجرة للمسيحيين (الأقباط) إلى خارج البلاد، نتيجة شعورهم بعدم الأمان، بعد صعود نجم التيار الإسلامي في مصر، وارتفعت حدة التصعيد تجاههم مع وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم، وظهور تحالفها مع أنواع مختلفة من المتطرفين، وجه غالبيتهم سهامهم ضد الأقباط، وبدأوا يعيدون على مسامعهم خطابا مستهلكا يفيد أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وجب التعامل معهم كذميين، تفرض عليهم الجزية ويحلّ الاستحواذ على ممتلكاتهم، وهو ما أشعر قطاعا كبيرا من الأقباط بالخوف على مصيرهم، فكانت الكنيـسة ملاذا أسـاسيا لهم. في هذا النهر جرت مياه كثيرة، منها استهداف مواطنين أقباط، وحرق كنائسهم، وكانت ذروة هذه المأساة عقب ثورة 30 يونيو 2013، والتي أسقطت حكم الإخوان، وجرى بعد ذلك زيادة وتيرة الاستهداف الذي وصل قمته عندما قامت قوات الأمن المصرية بفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس 2013، حيث تم حرق نحو سبعين كنيسة معظمها في صعيد مصر، انتقاما من الموقف الوطني الذي قام به الأقباط في ثورة 30 يونيو، حيث مثلوا ذخيرة حية ورئيسية في الحشد الشعبي الذي تصدى لحكم الإخوان المسلمين. منذ هذه اللحظة، تحوّل الأقباط من هدف خفي للإخوان وحلفائهم من المتطرفين، إلى هدف علني مركزي، وتقدم التربص بهم على كثير من الأهداف السياسية، فقد لعب هؤلاء على نغمة السعي إلى إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط، تشغل قوات الأمن عن ملاحقة فلول الإخوان ولا تنتبه لترتيباتهم، والأهم أنها تنطوي على إشارة لجلب تدخل دولي تحت ذريعة إنقاذ الأقباط في مصر، وهي الوسيلة التي كانت سائدة إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث كان يتحول إيذاء قبطي واحد أو حرق كنيسة في أقصى الصعيد لوسيلة غربية للضغط على نظام مبارك، تقوم منظمات حقوق الإنسان باستثمارها لتوجيه أنواع مختلفة من القذائف السياسية والقانونية الحية. تضخم الدور السياسي للكنيسة يتناقض مع ترسيخ الدولة المدنية وقد يؤدي إلى مزيد من الاستفزاز للتيارات المتشددة وقد أفلحت هذه الوسيلة أحيانا في الضغط على مبارك، وأجبرته على الاستجابة لمطالب سياسية في حينه ولصالح الولايات المتحدة تحديدا، خوفا من أن يتم تدويل ملف الأقباط أو تحويله إلى سيف على رقبته، لكن بعد ثورة 30 يونيو، حرقت عشرات الكنائس ولقي عشرات الأقباط مصرعهم ولم تتحرك أيّ من الدول الغربية المدافعة عن حقوق الأقباط، وتركت كنائسهم نهبا للجماعات المتشددة، ولم يجرؤ من دافعوا عنها منذ سنوات، تحت ذريعة حرية العبادة وحرمة الدم، أن ينتقدوا الإخوان باعتبارهم المسؤول الأول عن مأساة حرق الكنائس، لأن الأقباط انحازوا بلا رياء للدولة الوطنية ووقفوا درعا قويا خلف نظام الرئيس السيسي، لذلك كان من الضروري أن يحافظ على هذه الكتلة الحرجة ويشعرها بالمواطنة على قدم المساواة مع المسلمين، الذين يمثلون نحو 90 في المئة من المصريين، والنسبة الباقية للأقباط. سند أم خنجر سياسي الرئيس عبد الفتاح السيسي أدرك أن الأقباط إذا لم يكونوا سندا له ولنظامه فقد يتحولون إلى خنجر في ظهره ما لم يدافع عنهم بالموازاة مع بقية المواطنين ويمنع عنهم أذى المتشددين، لأن هناك ميراثا طويلا من الفتنة الطائفية في مصر لو تم إيقاظه من الممكن أن يتحول إلى أزمة كبيرة تفوق جميع الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية الراهنة، فمن يدعمون جماعة الإخوان هم أول من سيحاولون توظيف أيّ خلل في ملف التعامل مع الأقباط، في ظل طوفان الحروب المذهبية والطائفية التي تشتعل في المنطقة، وبالتالي فالمحافظة على السبيكة المصرية التاريخية متماسكة يحتل قمة أولويات الرئيس السيسي، والتي جعلته أحيانا يبالغ في استرضاء الأقباط. الاسترضاء تحول إلى ضرورة وليس ترفا سياسيا بعد لجوء منتمين لجماعة الإخوان إلى أسلوب توزيع المنشورات التحريضية المتبادلة مؤخرا، فقد تمكنت أجهزة الأمن أخيرا من الإمساك بأعضاء ينتمون إلى الجماعة أو محسوبين عليها وبحوزتهم بيانات تقوم بسب الأقباط وأخرى تسب المسلمين، وفي أماكن مختلفة وعبر وسائل تكنولوجية وبشرية متباينة في محاولة لزرع فتنة جديدة بين الفريقين، على أمل أن تؤدي إلى مزيد من الإرباك في المشهد السياسي.
هذه النوعية من التصرفات، لم تعد تنطلي على الحكومة المصرية ولا على الأقباط وقياداتهم الكنسية، لذلك فعند كل محك من هذا النوع يتولى أشخاص من الجانبين (الدولة والكنيسة) إطفاء الحرائق مبكرا، وقد تكررت هذه المسألة مرات عدة وجرى تفويت الفرصة على أنصار الفتنة، وكان التركيز على الأقباط في ليبيا وزيادة عمليات استهدافهم خلال الأشهر الماضية سلاحا في هذا الاتجاه، لكن حكمة مؤسسات الدولة وحنكة الكنيسة تمكنتا على الدوام من تفويت الفرصة على نجاح سيناريو الفتنة الطائفية.
المهم أن النظام المصري ضاعف من انخراط الأقباط في العملية السياسية بعد فترة لم تكن قصيرة من العزوف، وحفظ لهم تمثيلا مشرفا في البرلمان القادم على قدم المساواة مع فئات أخرى. كما ضمن لهم النظام حقوقهم وفقا لنصوص الدستور المعدل العام الماضي وجعل من الكنيسة وسيلة لتعزيز الروابط الشعبية مع الدولة الأثيوبية واستثمار العلاقة الروحية التي تربطهما في محاولة دعم رؤية مصر في ملف سد النهضة. وهكذا قد تمت مشاركة القوة الناعمة الممثلة في الكنيسة ودورها الفعال في واحدة من أهم الأدوار وطنية والمؤثرة على الأمن القومي المصري . تحديات سياسية المشكلة في نظر بعض المتابعين، أن أسلوب الاسترضاء أو التدليل الذي تقوم به المؤسسات الرسمية مع الكنيسة في مصر حقق نتائجه بامتياز وقطع الطريق على شبح الفتنة الطائفية الذي يخيم على البلاد منذ عقود، لكنه سوف يستوجب تقديم أنواع مختلفة من التنازلات أهمها ما يتعلق بحرية بناء الكنائس المحكومة منذ زمن بضوابط صارمة، فترميم كنيسة مثلا يتطلب موافقة رئيس الجمهورية وبناؤها يحتاج سلسلة من الموافقات المضنية. الأمن المصري يكتشف بيانات ومنشورات وزعتها جماعة الإخوان تحرض المسلمين على الأقباط والعكس كما أن الطريقة التي تتعامل بها الدولة ترفع من دورها في الحياة العامة، في وقت تحارب فيه الحكومة أيّ دور سياسي للجماعات الإسلامية، خاصة أنه لم يعد خافيا أن الكنيسة تلعب دورا مهما في ترشيح الأقباط للوظائف العليا في إطار محاصصة ضمنية ومنوط بها تقديم قائمة بالأسماء المرشحة لدخول البرلمان، ضمن “كوتة” أو حصة يعينها رئيس الجمهورية. وبالتالي فتضخم الدور السياسي للكنيسة على هذا المنوال ربما يعيق مضيّ مصر في طريق الدولة المدنية ويقلل من فرص استقلالية المواطنين الأقباط أنفسهم ويجعلهم رهينة بموقف وحسابات الكنيسة، ما يعني أن الدولة إذا تجاوزت سريعا عقبة التيار الإسلامي المتشدد قد تفاجأ أنها أمام تيار مسيحي لا يقل تشددا. أحد المتابعين لهذا الملف، أكد لـ”العرب” أن الرئيس السيسي يعي الازدواجية الواضحة في ملف الأقباط، لكن التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلاد لم تترك له خيارات سوى التعامل مع الأقباط والكنيسة بطريقة تتسم بأعلى قدر من الليونة، فانفلات هذا الملف سوف يحوّله بسهولة إلى فتنة وأزمة أشد خطورة من فتنة التيار المتشدد والإرهابيين، لأن التقاطعات الخارجية معه قوية. ولذلك من الضروري سد جميع المنافذ التي يمكن الدخول منها في وقت تتكاثر فيه الضباع على الدولة المصرية، ولدى القيادة السياسية ثقة كبيرة في وطنية البابا تواضروس وجميع الأقباط، فقد كان كل ما ينقصهم إشعارهم بالمواطنة وعدم التمييز بينهم والمسلمين، الأمر الذي نشاهد تجلياته الآن، والتي لا خوف من تأثيرات سلبية لها في المستقبل. |