إنكار السنة بين عالم الدين وعالم المذهب
بقلم د. محمد السعيد مشتهري ١٢/٦/٢٠٠٧
تفرق المسلمون بعد وفاة رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلي أحزاب متصارعة فوقعوا فيما حذرهم الله منه بقوله تعالي: «أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه»، وأصبح الدين الذي كان عليه رسول الله وصحبه الكرام، مذاهب دينية متخاصمة، ولم يعد هناك علماء «دين» وإنما علماء «مذاهب دينية» يرفع كل منهم راية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا نظرنا إلي «كتاب الله» لم نجد بين أيديهم جميعا إلا كتاباً واحدا، يعرفه الصغير قبل الكبير،
أما عندما ننظر إلي «السنة» نجد كتبا تحوي «أحاديث» نسبها الرواة إلي رسول الله يصعب علي عالم الحديث نفسه «علي مستوي الفرق المختلفة» معرفة صحيحها من ضعيفها إلي يومنا هذا!! فكان من الطبيعي أن يختلف الفقهاء نظرا لاختلاف المحدثين، وأن يكون الحكم علي المسألة الواحدة بالحل أو الحرمة، متوقفا علي صحة الحديث أو ضعفه، كل حسب مدرسته في الجرح والتعديل!!
ومن هذا الباب تم اختراق الشريعة الإسلامية باسم «السنة النبوية» بعد أن عجز إبليس وأعوانه عن اختراق كتاب الله تعالي، وأصبح مصطلح «إنكار السنة» سلاحا يستخدمه أنصار الفرقة والمذهبية في وجه المخالف لهم في المذهب، وعلي هذا تهان كرامة المسلم وآدميته، ويعتقل، ويحكم عليه بالكفر ويقتل، لمخالفته المذهب الديني الذي ولد فيه ولم يكن له وقتها إرادة لاختياره!! هذه هي الإشكالية الحقيقية التي أثمرت تخاصما وتكفيرا وسفكا للدماء بين المسلمين، بعيدا عن «شماعة المؤامرة»، والتي لاتزال قائمة إلي يومنا هذا، إلا من رحم ربي، وما أفغانستان، والعراق، ولبنان اليوم، منا ببعيد.
هذه هي الأزمة الحقيقية التي لم يحسن إدارتها من تصدوا لمأساة «الفتاوي غير الحكيمة» التي صدرت من علماء كبار من المفترض أنهم يقودون المسلمين إلي الطريق الصحيح للسنة النبوية، كعلماء دين وليس كعلماء مذهب ديني ينتمون إلي فرقة معينة!!
فالنصوص التي تستقي منها «السنة النبوية» لا تعرف المذهبية، ولا تعرف حديثا صحيحاً وآخر ضعيفاً أو موضوعا!! إنها عند «علماء الدين» حقيقة قرآنية تستمد فاعليتها من ذات النص القرآني، أي من كتاب الله تعالي، من هذه «الآية القرآنية»، التي جعلها الله تعالي حجة علي العالمين، ودليلاً معاصرا علي صدقه فيما أنزل، وصدق رسوله فيما بلغ، إنها الصورة العملية للنص القرآني في واقع الحياة لذلك فمنكرها «علي أساس هذا الفهم» منكر لذات النص القرآني، بل ولوجود رسول الله أصلا.
أما إذا تعاملنا مع نصوص «السنة النبوية» بمفهوم «علماء المذاهب» الدينية المختلفة فنحن إذن أمام نصوص تراث ديني «وهي نصوص الأحاديث» لم يتعهد الله تعالي أصلا بحفظها، وإنما الذي تولي تدوينها وحفظها هم علماء الفرق والمذاهب المختلفة، كل حسب تعريفه للسنة النبوية، ومدرسته في الجرح والتعديل «أي في رفض الرواة أو قبولهم»!! لذلك فليس بمستغرب أن نشهد الصراع بين علماء المذهب السني وعلماء المذهب الشيعي حول من أحق برواية نصوص «السنة النبوية»، هل هم صحابة رسول الله، رضي الله عنهم أجمعين، بوجه عام، أم هم آل بيت رسول الله علي وجه الخصوص؟!!
وعلي هذا الأساس، فما صح من أحاديث توجب الخلافة للإمام علي، رضي الله عنه، عن طريق رواة وأئمة أهل البيت فهو تشريع واجب الاتباع يحكم علي منكره بالكفر، وذلك لإنكاره «السنة النبوية»!! ومن لم تصح عنده، أو صحت، ولكنه لا يري أنها تحمل تشريعا واجب الاتباع، فإنه لا يعتبر منكراً للسنة النبوية فلا يكفر!!
لذلك أراح مؤتمر الدوحة «للحوار بين المذاهب» الحضور وأبقي علي أزمة التخاصم والتكفير بتوصية مفادها: «عدم السماح بالتبشير لمذهب التشيع في بلاد السنة، أو للتسنن في بلاد الشيعة درءا للفتنة والشقاق بين أبناء الأمة الواحدة»!! فهل بعد ذلك من برهان علي مأساة التخاصم المذهبي وعلاقتها بمسألة إنكار السنة؟! هذا عن حقيقة الإشكالية، وجذور التخاصم، بين أكبر فرقتين من الفرق الإسلامية، وكيف أن مسألة التكفير تعتبر من أيسر الأمور علي علماء مذاهب الفرق المختلفة «ولا أقول علماء الدين»، فماذا عن علماء مذاهب الفرقة الواحدة؟
في سياق فوضي الفتاوي العشوائية المعاصرة، يعلن أحد كبار علماء المذاهب الدينية أن الدين «علم» شأنه شأن الفيزياء والطب.. له مصادره، ومنهجه، وطرق بحثه، وتخصصاته، لذلك لا يحق لمن لم يحصل علي الإجازة العلمية من المؤسسة الدينية «المذهبية» أن يتحدث في مسائل الدين، أو ينتقد ما يصدره علماء الدين «لا شك أنه يقصد علماء المذاهب» من آراء وفتاوي دينية.
وقد يبدو الكلام منطقيا، لا خلاف عليه، أما إذا تعقل المرء وتدبر ما حمله هذا الكلام من إشكاليات علمية ومنهجية، فإنه سيرفض أن يتساوي عالم الدين الإسلامي، والذي لا وجود له أصلا بعد تفرق الأمة إلي فرق ومذاهب متخاصمة، بـ «عالم المذهب» الديني الذي هو في حقيقته متبع لمذهب آبائه بغير علم، لا يخرج عن دائرة التدين غير الموصوف بالعلمية، لماذا؟
أولاً: لما سبق بيانه من فرق جوهري بين «عالم الدين» الذي يستمد علمه من نصوص «الآية القرآنية»، كتاب الله تعالي، وما تحمله من «سنة نبوية» يقوم المسلم بتفعيلها في حياته، وفق ما حملته منظومة التواصل المعرفي من كيفيات الأداء العملي لما أجمله هذا النص القرآني من أحكام، ولهذا الموضوع دراسة مفصلة، وبين عالم المذهب الذين يفهم نصوص «الآية القرآنية» من خلال تراث مذهبه الديني، وبذلك يفقدها فاعليتها، بل قد يجعل تراثه الديني المذهبي حاكماً عليها وناسخاً لها!!
ثانياً: إن اعتماد الروايات المذهبية مصدراً للسنة النبوية أدي إلي الإيمان بأن الآيات الحسية «تلك الخاصة بزمانها» يمكن أن يقيم المرء عليها إسلامه!! وعلي هذا الأساس دخل شاب في الإسلام علي أساس حديث التبرك ببول النبي بعد أن أثبت العلماء «كما يدعي هذا الشاب» أهمية الاستفادة من بول الآدمي طبياً، دون أن يلفت نظره عالم من كبار علماء المذهب بوجوب أن يكون الدخول في الإسلام علي أساس «الآية القرآنية» وليس علي أساس نظرية من النظريات العلمية «التي إن صحت نتائجها اليوم قد لا تصح غدا»!!
وأخطر ما في هذه المسألة اعتبار منكر هذا الحديث منكراً للسنة النبوية!! لقد استمعت إلي أحد كبار العلماء يتحدث عن حجية السنة، ثم إذا به يعتبر أن من هذه السنة الحجة الواجبة الاتباع الإيمان ببركة بول النبي، وأن هذه البركة من المعجزات، خاصة وقد أيدها العلم، فقال فضيلته: «عرفنا محمدا بالمعجزات إللي عايزين ينكروها دلوقتي» (يقصد حديث أم أيمن التي شربت بول النبي).
ثالثاً: أن اعتماد الروايات المذهبية مصدراً للسنة النبوية، سيؤدي إلي انحراف الشريعة عن استقامتها، وذلك بتدخل الهوي في توجيه هذه الروايات لخدمة المذهب، مما يؤدي إلي صراعات وتناقضات وفتاوي غير رشيدة.
عندما توقف المؤسسة الدينية رئيس قسم الحديث التابع لها (أي رئيس قسم «السنة النبوية» بالمصطلح المذهبي) وتطلب التحقيق معه لأنه أفتي في عصرنا الحالي بجواز إرضاع الكبير استناداً لنصوص من «السنة النبوية»! وعندما تطلب المؤسسة الدينية من مفتي الجمهورية سحب كتابه «فتاوي عصرية» من الأسواق، لاكتشافهم أنه يؤمن بجواز التبرك ببول النبي، استناداً إلي حديث منسوب إلي رسول الله، أي إلي «السنة النبوية»!
في الوقت الذي يؤمن فيه كل هؤلاء (من أمروا بالتحقيق، والمحقق معهم) أن الاعتراض علي «الحديث النبوي» الصحيح اعتراض علي رسول الله شخصياً، وتشكيك في «السنة النبوية»، فإن السؤال الذي سيفرض نفسه تلقائياً: من الذي أنكر «السنة النبوية» في حقيقة الأمر: الذين أحالوا أم الذين أحيلوا؟! أم أن المسألة ليست مسألة إنكار للحديث، بل الحديث في أعلي درجات صحته، ولا يمكن المساس به مطلقاً، ولكن قد يأتي اليوم الذي تطبق فيه الشريعة الإسلامية في البلاد وعندئذ سيري الناس فاعلية هذا الحديث، أي «السنة النبوية» في واقع حياتهم؟!!
رابعاً: عندما يدلي أستاذ شريعة بتصريح لصحيفة «المصري اليوم» في سياق إلقاء القبض علي جماعة من القرآنيين فيقول: «إن من ينكر السنة ليس مسلماً، باعتبارها المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام بعد كتاب الله الكريم» فهل معني هذا أنه يبيح دم هؤلاء، كما أباحوا من قبل دماء الكثير بمثل هذه الفتاوي غير المسؤولة؟!
إنني أختلف مع القرآنيين فكرياً، ولكني لا أقبل كمسلم أن يمس أحد منهم بشوكة من أجل فكره، فالفكر يقابل بالفكر، والحجة بالحجة، أما أن نرفع في وجوههم سلاح التكفير بدعوي إنكار «السنة النبوية» فهذا اختراق للمؤسسات الدينية بثقافة التخاصم والتكفير بدعوي أن «السنة المذهبية» هي الحل!!
مدير مركز بحوث ودراسات القرآن الكري