المتمرد

محمد حسين في الثلاثاء ٠١ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

ان امور الحياة وتنوعها تتشكل داخل العقل البشرى بما يحيطه من عوامل وامور يتلقاها العقل ويترجمها حسب مفهوم بعينه او مفهوم ما ، تتحد هويه هذا المفهوم عادة اما بيد الملقى للمتلقى او بيد المتلقى نفسه لنفسه ، ونعنى هنا ان هذا المفهوم يقبل حالتين ، وهما اما ان يكون مصاغا بواسطة الغير لشخص او مشكل بواسطة الشخص نفسه لنفسه. يسير هذا القياس سير المياه فى الجدول على امور كثيرة من حياة الشخص سواء ان كانت اجتماعية او دينية او ادبية او فلسفية او فكرية ... الخ. وتكون عدة وسائل ممكنة او متاحة تنتهى نتائجها بانتاج شخص معين له اسلوب فى الحياة ، اما ان يكون تربى عليه او انه ربى نفسه عليه. ولا نريد ان نصعد الى العبث حتى نحلل المذهبية الفردية للشخص بنفسه فى هذه القضية ، نظرا لان نظرية المجموع المشكل "بضم الميم وفتح الشين" تفرض نفسها على المجتمعات عموما ، وتختلف نسبيا باختلاف اختلاق الشخص لنفسه جزءا من شخصيته يشكلها ، وبتناقص مجال التشكيل بواسطة الفرد نفسه تتزايد نسبة التشكيل بواسطة الغير ، وهى نسبة متعاكسة. 

فهم هذا الامر قد يساعدنا بعض الشئ فى فهم ما حدث فى الماضى وما زال يحدث فى الحاضر مع اختلاف المسميات ، والعكس صحيح . 

انه ليس من الاجحاف ان قلنا ان عملية قيادة المجموع بلغت ذروتها وشدة باسها وتأثيرها عندما تم استخدام الدين كأداة لتلك القيادة ، وليس من الاجحاف ان قلنا انها نظرية عبقرية ان لم تكن هى الاكثر عبقرية عندما لعب قياديوا الامم على وتر الدين سواء بازالته "وهو استخدام فى الباطن" او بتوطينه. ولئن عدنا الى الوراء بعض قرون من الزمان سنجد لوحة مازالت عالقة فى الاذهان تمسى العصور المظلمة فى اوروبا ايتها ، وهى عصور تم استخدام الدين فيها لتشكيل مجتمعات وامم والهاب الحروب باسم الله ، وسيقت تلك المجتمعات لاغراض تخدم الفئة المتسلطة او المستفيدة ابان ذاك على حد سواء ، سواء كان الغرض داخليا او خارجيا ، وفى العادة يكون التأثير الداخلى هو اعداد للاستخدام الخارجى. فكانت نظرية الكأس المقدس فى عصور الحملات الصليبية وظل الله المتمثل فى الملك الذى كان يخدم الكنيسة ولا يعين الا بها ، وكانت نظرية حدية المنفعة تعمل بنظام المقايضة بين الكنيسة والقصر "او الملك" يكون دائما هدفها القطيع "العامة او الغوغاء" حتى فى تقسيم الثروة تحت مسمى "الله" ، بل وقد وصل الحد الى فرض نظام ضريبى مزدوج منفصل ، قسم يذهب للملك "ظل الله" وقسم اخر يذهب للكنيسة "الله نفسه" .
ودائما ما تكون الضحية الاولى ضمنيا فئة من الناس يعقلون فيدهسوا تحت مطرقة الدين والدولة التابعة للدين ، ومعظم الاحيان تأتى ثمارها فى هيئة تطرف هؤلاء الناس الذين يعقلون فى ان يهاجموا بلا هوادة هذا الشكل الذى تم تصويره لهم على انه دينا وانه لابد منه لارضاء الملك الذى هو ظل الله فى ارضه وبالتالى ارضاء الاله.

يأخذنا هذا بعض الشئ الى نظرية التمرد ، او المتمرد ، الذى وصفه فيلسوف العبثية "البير كامى" فى كتابه"المتمرد" واسهب فى شرحه وتحليله حتى يبدو للمتمعن ان هذا النوع من الفكر الفلسفى "كالوجودية والعبثية والعدمية وغيرهن" كان نتاج صراعا بين الدولة الدينية او السلطة الدينية على اختلاف العصور باختلاف اشكالها وهؤلاء المتمردين الذين ابت عقولهم تلك الخرافات التى كانت داخل تابوت من يحاول الاقتراب منه فهو مهرطق زنديق يستحق الرجم فى مكان عام مثله كمثل العاملات بالسحر . وهؤلاء العاقلين الذين تحولوا الى متمردين كانوا دائما وابدا يواجهون مدفع الملك "اى مدفع الاله" بكل ما اوتوا من قوة عقلية وفكرية ، وفى بعض الاحيان قوة مطلقة يستخدم فيها كل الحلول والادوات التى يكون هدفها من قبل هو الاصلاح ثم يتحول الى "على وعلى اعدائى". 

لماذا يتحول الى "على وعلى اعدائى؟" 

الاجابة فى ان العاقلين فى بادئ الامر كانوا متلقين للامر "او للدين على وجه الخصوص بما انه المشكل الرئيسى للمجتمعات" بناء على ما تم تقديمه لهم وليس بناءا على ما فهموه هم بانفسهم ، لذلك كان الامر قبل اعلان الحرب الفكرية عبارة عن الدين المتمثل فى المؤسسة او فى الفردية التى تمثل المؤسسة الدينية "وهى الكنيسة فى هذا الزمن" ، وهو المعلن عليه الحرب ، والذين يعقلون ، وهم الذين اعلنوا الحرب. وهنا تفرض نظرية التشكيل نفسها ، ولو انه للوهلة الاولى بدا انه من المنطق اعلان الحرب لفساد الدين "من وجهة نظر العاقلين او الذين يعقلون" الا انه فى حقيقة الامر اعلان حرب على الدين المتمثل فى هؤلاء المشكلين للدين من قبل او المتحدثين باسم الدين. فعندما ثار ثوار الفكر الفلسفى على الدين كان فى حقيقة الامر ثورة على رجال الدين او المؤسسة الدينية ، التى كان نتاجها حركة وصفت بالتحرر فى اصلها تمرد سميت بالتحرر الفكرى ، نقول عندما ثار هؤلاء الثوار كانت الثورة على الدين. فكانت نتائج هذه الثورة تتلخص فى مذهب تم اعلانه داخل نطاق تصورى اطلق عليه "قتلة الله".

قد يساعدنا هذا التفصيل فى فهم بعض من طفوا على سطح تلك الايام آتين بنفس النقطة التى دارت بها الساقية ومرت على ازمنة العصور المظلمة فى اوروبا لتترك اثارها هناك وتتحول شيئا فشيئا لتصيب المنطقة التى اعتباطيا تسمى "المجتمعات الاسلامية" . وبدون الدخول فى تفاصيل وعوامل الائتلاف الواضح بين السلطة والدين فى تلك المجتمعات ، ظهرت لنا نوعيات من التمرد على الدين -ونذكر باننا عندما نقول الدين فاننا نعنى الدين المطبوخ الذى يقدم للعامة بواسطة المؤسسات الدينية وممثلوها وليس المتدبر "بضم الميم وفتح التاء" والمفهوم بواسطة هؤلاء المتدبرين- منها من تمرد فذهب واعجب بثقافة متطرفة اتت لنا باغث الثقافات داخلة شرنقة الدين ، وفئة اخرى تمردت فتمخض منها الافكار الهجومية التى نراها فى يومنا هذا ممن يهاجمون الدين كله بلا ضراوة . ولإن نظرنا وتفكرنا مليا لوجدنا اننا فى كلتا الحالتين ما نحن الا اننا نناقش شيئا لا يمت للمضمون "وهو الدين" باى صورة من الصور ، فلا المؤسسات الدينية الان تتحدث فى الدين مثلها كمثل المؤسسات فى العصور المظلمة فى اوروبا مع اختلاف "او كما يظنوا" المذهبية والنهاية ، ولا من يهاجمون الدين هم على صحة من الامر لانهم فى الواقع يهاجمون الدين الذين نشأوا عليه وليس الذين عرفوه وقرأوه وتمعنوا وتدبروا فيه بأنفسهم ، حتى ان كل من يأتى بحجته سواء من هنا او هناك ليس الا كلام مفرغ من مضمونه وجميع الحجج والبراهين دائما ما تصب فى ثقب اسود لا علاقة له بالدين "هذا ان افترضنا عقلانية من يعايش تلك الاحداث".

ان التمرد عموما هو نوعية من العصيان النفسى على كل ما هو مخالف لطبيعة الانسان والفرد ، فالطبيعة والفرد كثقب له صنعته الخاصة التى تستطيع المرور فيه بمرونة وليونة ، اما ما خرج عن ذلك ففى معظم الاحيان ينتهى بانهيار الجسم الذى يحوى الثقب ويجعله ثقبا كبيرا ينتمى للفضاء المحيط ويتلاشى . ولأن المتمرد يتمرد بما شكلت "بضم الشين وكسر الكاف بتشديدها" عليه شخصيته ، فانه لا يخرج عن الصورة عندما يتمرد ، فان كان ما حوله لا يقبل الاخرين ولا يعى ما معنى الاخر ، فانه عندما ينفجر لا يترك براحا لأى اخر ولا مجالا .
ونعنى هنا ان هذا المتمرد ، ان اجلا او عاجلا ، سيصل الى مرحلة معينة من الزمن يتوقف عندها الزمن بالنسبة له "فاما اكون واحيا ، واما ان لا اكون ولن ابرح المكان الا بمضى الاخرين معى "

وللحديث بقية

اجمالي القراءات 21862