لقراءة الحلقة الاولى انقر على الرابط التالي :
www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php
لقراءة الحلقة الثانية انقر على الرابط التالي :
www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php
الحلقة الثالثة
العدل و نظرية الإرادة الانسانية بين الاختيار المعتزلي و الجبر بشكليه الجبر المطلق عند الجبرية و الجبر المقنع عند الأشاعرة.
نشأ القول بالجبر ابتداءً كتبرير ايديولوجي لهيمنة بني أمية على الحكم وجعله ملكاً عضوداًًً ، بحيث تنسب هذه التغيرات إلى الله عز وجل باعتبارها ارادة الخالق و مشيئته فهو الخالق لأفعال البشر ، من هنا ثارت قضية الحرية و الاختيار أساساً ، فهي في جوهرها إذاًَ قضية سياسية عربية صرفة ، و هذا ما يفسر لنا لماذا تبنت القول بالجبر المذاهب التي كانت في خدمة السلطة او المنخرطة في منحها الغطاء و التبرير الشرعي كالجبرية و الأشعرية ، بينما تبنت القول بحرية الانسان و مسؤوليته عن خلق افعاله المذاهب و الحركات المعارضة للدولة و على رأسها المعتزلة و الخوارج و الشيعة بوجه عام.
يقول غلاة الجبرية بالجبر المحض و يسمون بالبرية الخلص و هم فرقة الجهمية اتباع الجهم بن صفوان (128هج745م) ، بينما إلتزم الأشاعرة موقفاً تلفيقياً واشد تهافتاً من الجبر الميتافيزيقي الخالص لإنعدام وضوحه النظري و لإشتماله على قدر أكبر من عدم الاتساق و الحسم و الانسجام (1) إلا أنها و للأسف أصبحت عقيدة عامة ، ذلك أنها كانت في خدمة الدولة و قضت قضاء مبرماً على كل من عارضها أو اختلف معها ، و دليلاً على ذلك اننا نلاحظ مغالاة الأشاعرة في الجبر عندما يتعلق الأمر بطاعة الأمراء ، نجد عند الاشعري " أن الانسان يريد الفعل الذي يختاره ... و لكن التنفيذ من الله خالق كل شيء و حرية الاختيار هذه إنما يخلقها الله في الانسان ، و كذلك الفعل الذي تنفذ بمقتضاه هذه الحرية و هذا ما يعرف باسم الكسب أي ما يكسبه الانسان من الله " (2) .
الغريب و الملفت للنظر حقاً أن الاشعري صب جام غضبه في حواراته و ردوده تكفيراً ونهشاً على الاعتزال بمختلف طبقاته فيما أن نظريته في الكسب هذه لم تخرج اطلاقاً برأي عن القول بالجبرالمحض ، بل ان بعضها ينقض بعض .
نقض القاضي عبد الجبار المعتزلي زعم أبي الحسن من جذوره ذلك أن الكسب لغة هو كل فعل يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر ، كما نحتاج اسم قبل المصطلح من الناحية اللغوية فكسب لوحدها لا تكمل معنى ؛ إذن نظرية الكسب كذلك فاسدة من باب كونها اشتقاق لغوي خاطئ أيضاً (3) ، وما نظرية الكسب الاشعري إلا إلتفاف على المقاصد الواضحة ، فالكسب في اصله فعل إرادي و هكذا يردّنا الاشعري إلى حيث بدأنا في حلقة جهنمية مفرغة لا مقر لها ، و نظريته هذه بنزعها القدرة و خلق الفعل عن الانسان ما هي إلا جبرية مقنعة تفقد الانسان كل شكل للإرادة الحرة.
أثبت المعتزلة للإنسان إرادة و مشيئة مستقلة عن إرادة الخالق و هي حرية الفعل في تنفيذه أو العدول عنه بالكيفية ذاتها (4) .
لكنها بطبيعة الحال مشيئة قيدت و اشتقت من مشيئة الخالق ، " و لو شاء الله أن يهدي الجميع جبراً لفعله و لكنه لم يشأه ( هنا انتفاء تعارض المشيئتين) إلا بالخير لأنه لو أجبرهم على ذلك و ادخلهم فيه غصباً جبراً- قهراً كان المستوجب للثواب دونهم "(5) ، و تتأكد مشيئة الانسان عند المعتزلة عبر فعله بشروط
" وهذه الشروط هي :
1) الوعي الإرادي.
2) غائية الفعل .
3) استقلالية الفعل.
4) ارتفاع الموانع " (6)
بمعنى أنه إذا سقطت إرادة الفعل سقط حسابه ، و ليس من فعل له حساب إن لم يكن له غاية من فعله فالغاية من شروط صحة الفعل ، و إن لم يكن الفعل مستقلاً من ذاته لما جرى و لا ينبغي أن يجري عليه حساب ذلك انه اذا ما انتفت عنه صفة استقلالية الفعل صار له مصادر ارادة اخرى و إن كان الأمر كذلك وقع الحساب على فعل لم تكن ارادته خالصة لصاحبه و بالتالي مس هذا بجوهر فكرة العدل الإلهي المطلق ، أما ارتفاع الموانع فهي التي بين إرادة الفعل و انفاذه و موانع الفعل مادة الطبيعة و الانسان التي هي اشراط الخالق المحددة لقدرة الفعل ، فالفعل إذا ما قام له المانع المادي امتنع عن الحدوث و ليس عليه حساب مالم ينتفي المانع فيقع الفعل مادياً ، و هنا يكرس المعتزلة مفهومهم المادي للفعل فأفعال الثواب و العقاب إنما تكون بالعمل الإرادي الذي يتحقق في المتعين الانساني المادي ، على عكس الفهم الغائي الذي احتسب للفعل الذي لم يقع مادياً إنما لغايات الفعل و هو ما يقوم على النية دون ان تتحقق هذه النية فعل ، عند المعتزلة لا تكتمل فيه عناصر الإرادة اللازمة لخلق الفعل و لا فعل إلا بها ، فيما تجد أكثر الفرق قالت بالعقاب و الثواب بالنيات وهو ما انكرته المعتزلة انكاراً تاماً فانعقاد النية ليس كافياً و ليس بفعل في ذاته و إنما لا بد من ارتفاع الموانع عنها فتتحقق فعلاً مادياً فإذا ما وقع الفعل و جب الحساب.
مرة أخرى عند المعتزلة يستوجب علو فكرة العدل الإلهي أن يكون الفعل الانساني الذي يقع عليه حساب الخالق شروطاً ؛ أولها الوعي الإرادي فبدون وعي ارادي سقطت المسؤولية ، و ثانيها ان يكون للفعل غاية يعني ارتباط النتيجة بسبب فالإرادة الخالقة للفعل تحركها الغاية من الفعل فلا يريد الانسان فعلاً من اجل لا شيء او لنقل لا يريد الانسان فعلاً لا يريده ، إذن لا بد من وعي إرادي و غاية من خلق الفعل ، ثم لا بد من استقلالية هذا الفعل و إلا صار مخلوقاً لارادة أخرى فسقط عن الانسان حسابه فيه حتى و ان كان موضوعاً لهذا الفعل او فاعله ، و اخيراً انتفاء الموانع و إلا امتنع الفعل عن الوقوع و النية لا يأخذ بها و لا تقوم دليلاً على الفعل ما لم يقع فالأجر أجر العمل لا أجر النية.
و يشتمل أصل العدل فيما يشتمل على عدة أصول نظرية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
• إثبات النبوة : وردّ فيه المعتزلة على منكري النبوة من شتى المذاهب و الفرق المتزندقة و قال بعضهم أنها واجب لإقامة الحجة من الله على الناس و قال البعض الآخر بل النبوة ضرورة تقوم بذاتها و لا يستقيم الخلق إلا بها ، ليس من قبيل إثبات الألوهة الواجب بالعقل و لكن من قبيل اثبات التكليف.
ثبوتها هو ثبوت للتكليف و ليس ثبوتاً للألوهة فثبوت الألوهة واجب بالعقل أما ثبوت التكليف فواجب بالنبوة ، فالمعتزلة ميّزت بين انكار وجود الخالق و انكار النبوة ، الأول انكار للألوهة و هذا ينافي عندهم ما يقتضيه العقل فثبوت الألوهة واجب بالعقل عندهم ، أما ثبوت النبوة فهو ثبوت للتكليف اي ما كلف الله به الانسان عبر نبيه ، و اعتبروه من العدل الإلهي فلا تكليف بدون نبوة ، على ان نظرية الاستحسان انما تقيس الفعل الانساني على قاعدة الحسن و القبيح و الحساب من مقتضيات العدل الإلهي ، فإذا ثبتت الألوهة بالعقل ثبت الحساب لثبوت العدل المطلق لله و إذا ثبت الحساب ثبت التكليف بالحسن و العقاب على القبيح من الفعل ، يبقى التكليف التعبدي او التكليف بالطقوس الدينية و هو مما يثبت بثبوت النبوة عندهم.
• الصلاح و الإصلاح الإلهي : لأن الله عادل بالضرورة فلا يكون منه إلا الصالح و إن نسْب ما ليس بصالح إلى الله حط من عدل الله الكامل و تشويه للألوهة عن كمالها وعدلها ، و ان إرادة الله في خلقه إصلاحهم لا بجبرهم و إنما بإختيارهم و بهذا تقوم عليهم الحجة و الدليل { إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفورا } .
• اللطف الإلهي : فالله لطيف بخلقه لطفاً ليس كمثله لطف منه أنه جعل اشراط الحياة و نظامها مما يسر للانسان تسيره ، و أنه رغم عظم التكليف لطف بهم هادياً و حسيباً و تواباً.
• التوليد . (اشرنا إليه)
• الإرادة الإنسانية الحرة. (أشرنا إليه)
في الحلقة الرابعة نتناول مراجعة تاريخية لمسألة الجبر و الاختيار في التراث العربي الاسلامي. قبل ان ننتقل إلى ثاني الأصول عند المعتزلة و هو التوحيد.
– يتبع -
1) محمد عمارة : المعتزلة ومشكلة الحرية ،ص 75 ،ط بيروت 1972.
2) الاشعري : اللمع ، ص 38-39 ، ط بيروت 1952 وأنظر أيضا الشهرستاني : نهاية الإقدام ص
567 وما يليها ، ط اكسفورد 1934 ، وأنظر أوجريان : تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام ص 206 ، ط مصر 1974.
3) القاضي : شرح الأصول الخمسة ص 495 ، ط مصر 1965.
4) القاضي : فضل الاعتزال ، ص 172-173.
5) راجع الإمام يحيى بن الحسين الزيدي ، رسائل العدل والتوحيد 2/40 ، ط مصر 1971.
6) القاضي : شرح الأصول الخمسة ، ص 456.