لقراءة الحلقة الاولى انقر على الرابط التالي: www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php
الحلقة الثانية
(*) الحديث عن نشأة المعتزلة يطول و لا اراه منفصلاً عن شرح الأصول ، و إن كان مما يؤسف له أني ما وقعت على كاتب واحد خرج من اسار الربط بين سبب التسمية من ناحية و نشأة المدرسة من ناحية أخرى ، و كما سيتضح معنا و نحن نتابع سنلحظ أن الأصول كلها كانت قضايا مثار جدل اتفق في بعضها المعتزلة كما سبق و ان اشرنا مع هذه الفرقة او تلك ، إلا أن المهم بيانه ها هنا بتقديري يكمن في كون رأي المعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة فيصل ميز المعتزلة عن سواها ، في جو محتقنٍ من الخلاف حول المسألة ، و جوهرها الحكم على سلطان بني أمية تصريحاً او تلميحاً أهو قضاء و قدر و إرادة إلهية ام هو ملك يعتبر من الكفر ان لا يقاتله المسلم كما ذهب الخوارج؟ ام ان هناك رأسي آخر ؟ المعتزلة كما سنرى لم تقبل الرأيان معاً ، بل علت بمسائل الخلاف كلها و هذه منها إلى مستوى فلسفة الفكر الديني عامة ، فخلقت علم الكلام و كان لها سبق الفضل في استحداثه ، و كونت مواقفها على اساس العقل فجعلته الدليل الأول قبل الكتاب و الرسول - سأعود بعد شرح الأصول لاعلق على بعض القضايا و هذه منها كما سأضمن دراستي هذه وقفات مع قضايا تخص المعتزلة او تعلقت بتاريخها كثورات المعتزلة و مسألة خلق القرآن و محنة ابن حنبل و كذلك ملحقاً خاصاً للحديث عن ما احدثته المعتزلة المعاصرة - فأعلت من شأن العقل و قدمت رؤيتها كرؤية عقلية للدين ، و لعل اكبر الأخطاء التي اعتورت المقاربات التي حاولت ان تدرس فكر و تاريخ المعتزلة برأيي خطئين :
الأول : تجده بشكل خاص في الدراسات الاستشراقية من محاولة للربط بين الفكر المعتزلي و الفلسفة الاغريقية على نحو خاص و الفكر المتقدم على الاسلام لدى الشعوب الأخرى على نحو عام ، و نرى ان هذا معاكسة لمسار الحدث التاريخي و افتراء على المعتزلة ؛ ذلك ان قضايا الفكر الاعتزالي كلها أصيلة في التراث العربي كقضايا خلافية قبل ان يتعرف العرب إلى الثقافات الأخرى ، و من نافل القول ان حركة الترجمة و بالتالي التعرف على تراث الاغريق و غيرهم قد جاء تاريخياً بعد بلورت المعتزلة لأصولها الكلامية الخمس بل قل ان المعتزلة كان لها دور بالغ الأثر في تشجيع الترجمة و حركتها فهي إذن صاحبة اسهام بالغ و أساس في اطلاق حركة الترجمة و ليس العكس اي انها ليست هي من نتاجها كما زعم بعض من اراد ادانة الفكر الاعتزالي بأنه متولد من فكر غريب عن فكر العرب المسلمين ، أو من حاول انتقاص قدرة العقلانية العربية على انتاج فكر يعلي من شان العقل فنسب هذا الفكر إلى تراث الحضارات السابقة ، لكن الملحوظ أيضاً ان المتقدمين من أهل الاعتزال تأثروا في صياغة فكرهم بما تعلموه و ترجموه من فكر اغريقي فلسفي على وجه الخصوص تأثر الأسلوب في صياغة افكارهم و مبادئهم و هذا امر سنعود له في اكثر من موقع بالاشارة عندما يلزم الأمر.
الثاني : الاعتماد على آثار خصوم المعتزلة في فهم فكرها ، و الحقيقة ان المعتزلة تعرضت لمحن كثيرة و تعرض تراثها لعمليات ابادة منظمة ، مما جعل الكثير من الدارسين يعتمد على تراث خصوم المعتزلة في فهم فكرها و تاريخها كالشهرستاني مثلاً ، إلا ان الكثير ايضاً من تراث المعتزلة نجا و وصل إلينا و يصلح مرجعاً أفضل بما لا يقاس لمقاربة المنهج الاعتزالي من مصادره هو.
أول الأصول العدل :
معناه ابتداء حرية الانسان في الاختيار ، لأن الله عادل من حيث المبدأ فلا يتفق و هو كذلك أن يسير الانسان إلى ما يحاسبه عليه ، فإذا قلنا أنه تعالى سير الانسان إلى فعله فكيف يكون عدل حسابه إياه على ما سيره إليه ؟!
عند المعتزلة يعد قوله تعالى { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا} من محكم الكتاب وهي الدليل الموافق لما استحسنه العقل من أن الانسان مخير وليس مسير ، و إذا عدنا لسياق الآية و جدناه يقول :{ هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا (*) إنّا خلقنا الانسان من نطفة امشاج "نبتليه" فجعلناه سميعا بصيرا(*) إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا(*)}(1) هذه الآيات الثلاثة الأول من سورة الانسان تقدم بأن الله ابتلى الانسان من البلاء ؛ وهو الاختبار هنا ، والابتلاء منه على وزن "افتعال" و في اللسان :"...و ابتلاه الله : امتحنه ..... و البلاء يكون في الخير و الشر ، يقال إبتليته بلاء حسناً و بلاء سيء ..."(2) ، و عليه لا تفهم الآية الثالثة من السورة إلى بالآية الثانية و التي فيها يقرر الخالق أنه خلق الانسان من نطفة امشاج (يبتليه) ولكن كيف يكون الابتلاء لغير العاقل فإنما بيانه ببيان أدوات العقل دالة عليه ومؤسسة لمصدر المعرفة العقلية عند البشر ، كما قرر الله في القرآن فقال {فجعلناه سميعاً بصيرا} وقد يسأل السائل لماذا لم يقل عاقلاً؟ ونقول بل أنه تجاوز العقل إلا الأدوات التي يعقل بها ، نجده يقرر في غير موضع من كتابه عز وجل {إن السمع و البصر و الفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسؤولا} و هنا أيضاً ذكر لآلة الوعي و تأكيد منه و تشديد على أولويتها و على كونها الأداة التي بها تتحصل المعرفة و لذا قال جعلناه سميعاً بصيراً ؛ أي جعلناه يعقل ما يبصر و ما يسمع ، فتجد المعتزلة – و سيتبع بيان هذا - تؤكد دائماً على المعرفة الحسية و سيلة للعلم و المعرفة هنا بالذات ضد على الكشوف الباطنية و الصوفية و الفتوح الإمامية المعصومة ، ممهدين السبيل بذلك لمن تبعهم من علماء عرب سبقوا فرانسوا بيكون و تجريبيته بقرون في التأكيد على أولوية التجربة و المشاهدة - و هو أمر ابهرني في واقع الامر - بعد أن قرر الخالق وقوع خلق الانسان من نطفة أمشاج و الابتلاء ، هداه السبيل و جعله يعقل ما تدركه الحاسة ثم قرر أن الأمر له من بعد ذلك أن يختار و عليه يحاسب لذلك قررت المعتزلة أن عدل الله يقتضي وجوباً حرية الانسان و خلقه لأفعاله.
قد يحتج علينا أحدهم فيقول أن تقرير حرية الإنسان و خلقه لأفعاله شرك بالله تعالى لأنه خلق ارادة و انتقاص من القدرة الكلية للخالق ، نقول هذا استدلال باطل لإن الله ابتداء هو خالق الإرادة للإنسان فإرادة الانسان إرادة جزئية مشتقة من ارادة المولى عز وجل الكلية القدرة ، فلا تعارض لأنه عز وجل هو الخالق و هو موجد هذه الإرادة الانسانية و لذا يقول عز من قائل في سورة البقرة:{و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك و نقدس لك؟! قال إني أعلم ما لا تعلمون} (3) فهنا يتساءل الملائكة اتجعل فيها من يفسد و يسفك الدم ؟!!! لماذا؟ لأنه أي الإنسان لما كانت له إرادته فقد يجعلها في غير طاعة الله و هنا وجه استغرابهم على القبول ؛ لأنه لو صح من الله تسير الانسان لما كان لينتج عن ارادته ما هو معصية له عز وجل فانكرته الملائكة ، و تساءلوا كيف يترك الله له ذلك ؟ كيف يمنحه هذه الحرية حريته في معصيته؟! فيأتي الجواب الإلهي القاطع إني أعلم ما لا تعلمون ، و يأتيك السياق بعدها {و علم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : { انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} و هنا السؤال من باب انكاره عليهم قدرتهم الذاتية و ارادتهم المستقلة ؛ لأن جوابهم كان سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فأمر آدم الذي ميزه بقدرته على التعلم و التحصيل فأنبأهم بأسمائهم فجاء قوله عز من قائل { ...فلما انبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون} ، فنحن إذاً أمام توليفة من امتحان لعاقل بوسائله السمع و البصر ، مسؤول عن ما يفعل لأنه منح إرادة مستقلة سيحاسبه الله على توظيفها في خلق افعاله. و لعله من الضروري هنا ان نميز بين مفهوم الخلق العامي المنصرف إلى الإيجاد من العدم و هذا حصر لمعنى المصطلح و إلزامه حدود ما لا يلزم فالخلق يجوز كفعل لمخلوق ؛ أو الخلق يجوز من موجود فالله مثلاً خلق آدم من طين و اجاز الخلق لمخلوقه قال : { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً و تخلقون افكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه و اشكروا له إليه ترجعون } فلو كان الخلق غير جائز إلا لله لما قال لعباده تخلقون افكاً في نص قرآني.
صاغ المعتزلة نظريتهم في العدل الإلهي على عمومها في مقولات نقتبسها عن قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي :" ما دام الله عادلاً فهو لن يفعل إلا ما هو أصلح لعباده .... و لأنه خلق العالم لغرض و غاية و حكمة ...... و لأن العمل دون غاية تبرره .....أو حكمة يتوجه إليها و يستهدفها يصبح عبثاً " (4) .
" و لما كان الله حكيماً عادلاً فإنه خلق كل شيء لصالح الإنسان و صلاح عالمه " (5) ، " و لذلك فإن كل أفعال الله صلاح للإنسان " (6)
و اختلف شيوخهم في تأويل عموم الفكرة ، فالبغداديون منهم مثلاً أوجبوا على الله فعل الأصْلح للانسان في دينه و دنياه ، و أن يفعل أقصى القدرة في استصلاح عباده و إلا كان بخيلاً ظالماً و من هنا الوجوب (7) ، فيما رفضت ذلك معتزلة البصرة و رأت فيه مساً بالذات الإلهية واجبة التنزيه ، و ذهب القاضي عبد الجبار ايضاً هذا المذهب " لا يجب الفعل على الله لأنه صلاح أو إصلاح فهو لا يفعل مع عباده إلا ما ينفعهم لأن أفعاله ابتداء كلها كاملة حسنة "(8) وهكذا فقد قررت المعتزلة انه لا ياتي من الله إلا الصالح الاصلح ، البغداديون قالوا وجوباً والبصريون قالوا بل بكماله عز وجل فلا وجوب على الله ، و مثلهم ذهب ابن رشد فيما تبعِ مستدلاً بفساد منطق الاستدلال على فعل الخالق بالوجوب لأنه عز وجل له الكمال ابتداء(9).
أما في خلق الافعال الناشئ عن عدل الخالق و حرية المخلوق فقد اتفق جمهور المعتزلة عليه لكنهم اختلفوا في خلق الارادة و خلق النتيجة فبشر بن المعتمر يرى " كل ما تولد من فعلنا مخلوق لنا....من خلق الانسان و صنعه الارادي "(10) بينما نشز عنه العلاف إذ ميز بين المتولدات فقال " إن كل ما يولد من فعلي مما أعلم كيفيته فهو فعلي ، و ما لا أعلم فلا " (11) لكن نظرية التولد تبلغ كمالها مع النظام " الانسان لا يفعل إلا الحركة ، فما ليس بحركة ليس من صنعه و لا يفعل الانسان الحركة إلا في نفسه ، فإذا رمى الانسان حجراً و تحرك ... ليس من فعل الانسان حركته و إنما هو من فعل الله ، بمعنى أن الله طبع الحجر أن يتحرك إذا دفعه دافع ، فصلاة الانسان و صيامه و حبه و كرهه كلها حركاته ، أما الألوان و الطعوم و الأرياح فليست من فعله لأنها ليست حركته "(12) خلاصة قولنا في التولد أنه مفتاح فهم المعتزلة للإرادة و الحركة ، و ربما تستغرب عزيزي القارئ أن المعتزلة تقدمت و بمراحل واسعة المدارس الفلسفية الإغريقية بأصالة ما اشتقته من فهمها لمناط التكليف و تأسيسه على الحس دون أن يجرهم ذلك لما اختارته الرواقية من تأسيس للمادية المطلقة كما هو حالها عند دمقريطس مثلاََ ، فالإنسان عند المعتزلة مادة ، و قد اتخذت المعتزلة موقفاً مادياً بحتاً من النفس يقول الرازي : " جمهور المتكلمين اعتقدوا أن النفس جسم مادي ، أو عرض من جواهر مادية "(13) وابرز من قال منهم بذلك البصري أبو الأصم :" الانسان هو الذي يرى و هو شيء واحد لا روح له و هو جوهر واحد "(14)
و نقل عنه الأشعري قوله " النفس هذا البدن بعينه لا غير " (15) وهي بوضوحها وكمال دلالتها عند العلاف أبو الهذيل المعتزلي "الانسان هو الجسد و هو المرئي الظاهري الذي له يدان و رجلان "(16) و عند القاضي عبد الجبار المعتزلي الانسان : " الجملة التي نشاهدها ، لا أنه خارج عنها أو شيء بداخلها ، و أوضح دليل عليه هو الاشارة المخصوصة " (17) و قرن قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ذلك بالدليل السمعي { و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة } صدق الله العظيم (18) ، فالقاضي يرى الانٍسان هذا الكيان المادي المدرك و لا يثبت له شيء غيره (19) و لذا لا تقر المعتزلة ما ذهب إليه الغزالي من أنه أي الانسان جوهراً روحياً (20) ، و قد شذ عن جمهور المعتزلة بشر بن المعتمر لأنه ميز بين الروح و المادة.
من هذا الفهم المادي للإنسان تتبنى نظرية الاعتزال في العدل الإلهي لتنتج رؤيتها لحرية الارادة ضداً على المرجئة و الجبرية في الجبر والارجاء وضداً على الأشاعرة في الكسب ، و هذا موضوع حلقتنا القادمة إن شاء الله.
-يتبع-
1- الانسان : الآيات 1- 3.
2- ابن منظور : لسان العرب ، بيروت دار صادر –ط3 -1994- ج14-ص84 مادة الواو و الياء.
3- البقرة : الآية 30.
4- القاضي : المحيط بالتكليف ،ص120،171،234.
5- القاضي: المغني – الأصلح ، 14/18-19 .
6- الحاكم : شرح العيون ، ص64 ، ط تونس – 1974.
7- الجويني : الارشاد ، ص 287 ، ط مصر 1950.
8- القاضي : المغني – الأصلح ، ص 23 وما يليها .
9- انظر مثالاً لا حصراً تهافت التهافت – و نأمل أن يكون لنا رجوع إلا ابن رشد في سلسلة خاصة به .
10- الخياط : الانتصار ، ص 62 ، ط مصر 1925 – وانظر ايضا دائرة المعارف الاسلامية الجزء الثالث ص660.
11- القاضي : المغني – التولد ص 12 وانظر كذلك في التولد الخياط في الانتصار ، ص 62، 63 ، 72 ، 77 للتوسع.
12- الشهرستاني : الملل والنحل ، 1/55 وما يليها ، ط مصر 1968.
13- الرازي : مفاتيح الغيب ، 5/331 ، ط مصر 1980/1981.
14- أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم من الطبقة السادسة في الاعتزال وهو معتزلي
بصري عرف بغرابة تفسيره و له مع الجبائي المعتزلي مناظرات طوال راجع بشأنه : ابن المرتضى : طبقات المعتزلة ، ص 56 و 57 ، ط بيروت 1961.
15- الاشعري : مقالات الاسلاميين ، 2/24 و 25 ، ط مصر 1954.
16- المصدر نفسه ، 2/25.
17- القاضي : المحيط بالتكليف ، المجلد 2 ، ص250أ.
18- المؤمنون : الآية 13.
19- للتوسع انظر القاضي : المحيط بالتكليف ، المجلد 2 ، ص 251 وما يليها وكذلك عبد الكريم عثمان : نظرية التكليف ، ص 311و312.
20- راجع الدكتور جلال شرف : الله و العالم و الانسان ، ص 258 و ما يليها ، ط مصر 1975.