أولا :-
ليس عيبا أن تخطىء ، وكلنا خطاءون ، ولكن العيب أن تتمسك بالخطأ ، والعيب الأكبر هو أن يتحول الخطأ إلى خطيئة ، حين تفرض خطأك على القرآن الكريم ، فتضع إجتهادك الخاطىء فوقه ، وتفترض أشياء وهمية ، أو تنال من النص القرآنى من حيث الكلمة القرآنية أو من حيث تشكيلها .
هناك معجزة حقيقية فى حفظ الله تعالى للقرآن الكريم ، ومستويات ذلك الحفظ من وقت الوحى فى السماء إلى نزول الوحى على قلب الرسول محمد ، إلى تدوينه ، وقراءته أو قرآنه ، وهناك معجزة حقيقية فى التشكيل لكلمات القرآن وإرتباط نطق القرآن بقراءة القرآن ، أو ( قرآنه ) أو كما يقول رب العزة (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )( القيامة17 : 18 ) تلك القراءة التى ظلت محافظا عليها تماما بنفس المحافظة على الكتابة ، إلى درجة أن المثقفين الأوائل كان إسمهم (القراء ) جمع ( قارىء ) ثم أصبح أسمهم فى العصر العباسى ( الحفاظ ) جمع (حافظ ) ، فالقارىء الذى يقرأ القرآن بلسانه ومن خلال ذاكرته محافظا على التشكيل بنفس ما تعلمه من السابقين ، و(الحافظ ) من حفظ القرآن الكريم بنطقه وقراءته بالرفع والنصب والجر والسكون ، ثم كان سهلا بعدها إضافة ذلك التشكيل لحروف القرآن فى المصاحف فى العصر العباسى ، وجاء التشكيل طبقا للقرآن المقروء ، ومخالفا فى بعض الأحيان لقواعد اللغة العربية التى استخلصها علماء النحو منذ عهد الخليل بن أحمد الفراهيدى وتلميذه سيبويه ، ثم الجيل الآتى بعدهما فى العصر العباسى من الكسائى والمبرد وثعلب والفراء والزجاج ... وسنتعرض لكل ذلك فى أوانه ..
مما يؤسف له أن مناقشات القرآنيين على موقعنا وقعت فى أخطاء كثيرة أهمها معنى الحفظ الألهى للقرآن ، واشتمال ذلك الحفظ على قراءة القرآن وليس فقط على تدوينه.
إن معنى الحفظ للقرآن الكريم لا يعنى الإنعدام التام لوجود محاولات للتحريف ، بل تعنى وجود تلك المحاولات وفشلها بوجود الحفظ الإلهى للقرآن الكريم ، ومن هنا يقول رب العزة عز وجل مؤكدا على وجود محاولات للنيل من النص القرآنى أو الإلحاد فيه (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : فصلت 40 ) .
وجهود بعض المسلمين فى الإلحاد فى القرآن يضمها ما يعرف بعلوم القرآن ، ولنا مقال عن دور علوم القرآن فى الطعن فى القرآن الكريم ننصح بالرجوع إليه ، هذا خلاف ما كتبناه عن النسخ التراثى والتأويل والنيل من القرآن العظيم بما يعرف بالتفسير والحديث ، وتناثر من ذلك كله صفحات فيها الكثير من الإلحاد ، ولكن يبقى المصحف بالخط الأصيل موجودا ومحفوظا حتى الأن .
وعن كيفية حفظ الله تعالى لتلاوة القرآن الكريم فإنى أدعو شباب الباحثين من أهل القرآن لمراجعة وتحليل مشتقات كلمة ( تلا )، فى القرآن مع مراجعة الآيات الأتية ( الفرقان 32 ) ، ( المزمل 4 ، 20 ) . ثم التركيز على أيات سورة القيامة ( 16 : 19 ) . وهى محاولة عملية لنجتهد معا فى التوضيح.
ومن أسف أن يصل النقاش إلى درجة النيل من تشكيل الآيات الأولى من سورة الروم ، مع أنها تحوى إعجازا يرد مقدما على من يحاول الإلحاد فى تشكيل تلك الآيات . بل إن معجزة الحفاظ ـ حتى الآن ـ على تشكيل كلمة (غلب ) ومشتقاتها فى الآيتين الثانية و الثالثة من سورة الروم يؤكد اعجازا آخر تايخيا جاء فى الآيتين حين أنبأ الله تعالى بأن الروم سينتصرون بعد هزيمتهم ببضع سنين.
وسأخصص هذا المقال للحديث عن الإعجاز فى بداية سورة الروم ليكون مثالا عمليا لشباب القرآنيين فى كيفية الإجتهاد فى فهم القرآن الكريم؛ إجتهادا من داخل النص ، وليس إجتهادا يعلو على النص القرآنى ويطالب بتغيير التشكيل فيه .
ثانيا :-
يقول رب العزة جل وعلا : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ : الروم 1- 6 ) .
القراءة المبسطة والمستوى المباشر لفهم الأيات الكريمة السابقة ، والذى يسره الله تعالى للذكر ، يعنى أن الروم إنهزمت فى أدنى رقعة من الأرض أى أقرب منطقة للجزيرة العربية ، وهى الرافدين حسب مفهوم العرب وقتها ، ولكن الروم بعد هزيمتهم سينتصرون فى غصون بضع سنوات ، وذلك أمر الله تعالى وتقديره الذى لابد من حدوثه ، وحين يحدث هذا النصر سيفرح المؤمنون بنصر الله تعالى العزيز بقوته ، الرحيم على من يستحق رحمته ، فذلك هو وعد الله تعالى ، وهو جل وعلا لا يخلف وعده أبدا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
تلك هى القراءة المبسطة المباشرة للمستوى الميسر للذكر لمن يريد الهدايه ، فكيف عن مستويات التعمق لدى أهل القرآن ؟!.
ثالثا :-
مستوى التعمق يطرح الكثير من الإسئلة ، منها :
1 ــ مع أن الآيات تتحدث عن هزيمة الروم ثم إنتصارهم ، فلم تذكر العدو الذى هزم الروم . والذى إنتصر عليه الروم .... لماذا ؟!.
2 ــ مع أن الآيات نزلت وقت هزيمة الروم وجاءت تبشر بأن الروم سينتصرون فيما بعد فى بضع سنين ، إلا أن هذا التبشير لم يأت للروم ولكن جاء للمؤمنين ... لماذا ؟!.
3 ــ مع أن الله تعالى جعل هذه البشرى بالنصر وعدا بالنصر (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ) إلا أن هذا الوعد جاء موجها للمؤمنين وليس للروم .. فلماذا ؟!.
4 ــ ثم لماذا يأتى رب العزة بحتمية وقوع ما نبأ به مقدما فقال (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ) ، وقال بحتمية تحقيق وعده (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)؟!.
5 ــ ثم لماذا لم يستعمل الله سبحانه وتعالى تعبير النصر والهزيمة فى بداية الأيات واستعمل بدل منها كلمة واحدة بمعانى متناقضة حسب التشكيل ، وهى كلمة " غلب " ومشتقاتها ، فجاءت أولا " غُلِبَتِ الرُّومُ " بضم الغين وكسر اللام وفتح الباء ، أى بالمبنى للمجهول بما يستلزم التشكيل ... وكان يمكن أن يقول " إنهزمت الروم ".
ثم قال " وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ " ، لم يقل من بعد " هزيمتهم " جاء بكلمة " غَلَبِهِمْ " بفتح الغين وفتح اللام .
ثم قال " سَيَغْلِبُونَ " بفتح الياء وسكون الغين وكسر اللام وضم الباء، أى سينتصرون .
بمعنى أنه كان يمكن أن يقول تعالى " إنهزمت الروم فى أدنى الأرض ، وهم من بعد هزيمتهم سينتصرون فى بضع سنين " ، ولكن إستعمل رب العزة سبحانه وتعالى لفظا واحدا هو " غلب " وجاء بتنويعاته بالتشكيل ليفيد الهزيمة حينا ، والإنتصار حينا أخر . وبالتشكيل يختلف المعنى .
هذا مع أن لفظ " النصر " من أهم الألفاظ القرآنية فقد جاء فى القرآن الكريم " 142 " مرة ، بل جاء فى نفس الأيات فى قوله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء) ، وجاء لفظ الهزيمة ومشتقاته فى مواضع أخرى كقوله تعالى (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ: البقرة 251 ).
والسؤال : لماذا لم يستعمل الله تعالى لفظى الانتصار و الهزيمة و إستعمل مكانهما لفظ " غلب " ومشتقاته الذى يحتاج لتشكيل ليتغير المعنى من الهزيمة إلى الإنتصار ؟..
الواضح مع وجود هذا التشكيل حتى الأن أن الله تعالى يريد إثبات إعجاز الحفظ فى تشكيل القرآن الكريم ، أى فى تدوينه وقراءته بنفس التشكيل ... وهذه هى الأجابة على هذا التساؤل الأخير ...
6 ــ ونقول فى إجابات سريعة على التساؤلات السابقة :
* الفرس هم العدو الذى هزم الروم أولا ، والفرس هم العدو الذى إنتصر عليه الروم فيما بعد ببضع سنين ، ولأن الروم هنا هم الأهم فقد ذكرهم الله تعالى دون الفرس .. فالروم فى حالهم تلك من الهزيمة كانوا أقرب إلى حال المؤمنين المسلمين فى مكة حين كانوا تحت إضطهاد القرشيين ،أى أن هناك مشاركة فى الألم بين الروم المهزومين من عدوهم ، والمؤمنون فى مكة المضطهدين من عدوهم ، ولم يذكر الله تعالى طغاة قريش كما لم يذكر الفرس المنتصرين على الروم .
* وقد علم المؤمنون بهزيمة الروم من خلال رحلة الشتاء والصيف التى كانت تقوم بها قريش فيما بين الشام واليمن ، وكان الشام مسرح الصراع بين الفرس والروم ، وفيه إنهزم الروم أمام الفرس فى البداية ،ونزلت آيات سورة الروم تخبر بهزيمة الروم ،ولكن تبشر المؤمنين المضطهدين فى مكة بأن الروم سينتصرون بعد بضع سنين . وليس هذا تبشيرا للروم الذين لا يقرءون القرآن الكريم ولا يعلمون عن العربية شيئا بل لم يكونوا يعرفون شيئا – وقتها – عن القرآن ورسول الإسلام عليه السلام .
إنه تبشير للمؤمنين المضطهدين فى مكة بأنهم سينتصرون بعد بضع سنين ـ أى وقت إنتصار الروم.
* ولأن تحقيق البشرى كان يبدو مستحيلا .. إذ كيف ينهض الروم بعد تلك الهزيمة الساحقة ؟! وكيف ينتصر المسلمون على جبروت قريش التى تضطهدهم ، فقد جاء التأكيد من رب العزة بحتمية تحقيق الوعد وحتمية نفاذ أمره سبحانه وتعالى .
وهذا ما حدث فعلا !!..
فقد تحقق ما أخبر به رب العزة جل وعلا بعد بضع سنين ... إذ انتصر الروم على الفرس ، وفى نفس الوقت كان الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، ونزلت سورة النصر (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا : سورة النصر ).
وهناك بضع سنين بين آيات سورة الروم التى تقول ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) وسورة الفتح (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) .
أى (جَاء نَصْرُ اللَّهِ ) تحقيقا لوعد الله الذى لا يخلف وعده ، وتنفيذا لأمر الله تعالى الذى له الأمر من قبل ومن بعد : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء )
رابعا
إذن فالقرآن الكريم أخبر مسبقا بأن الروم سينتصرون على الفرس، وهذا ما تحقق فى التاريخ . وهنا سنعقد مقارنة بين ما قاله القرآن الكريم و ما تحقق فعلا وسجله تاريخ الصراع بين الفرس والروم فى تلك الفترة.
ولنبدأ أولا بما قاله التاريخ عن صراع الفرس والروم في عصر البعثة المحمدية.
كان محمد بن عبد الله قد تجاوز الثلاثين من عمره حين نشبت حرب كسرى برويز مع الروم ( من سنة 603). وقد انتهت تلك الحرب ( سنة 627 ) أي قبل وفاة النبي عليه السلام ببضع سنوات ، بعد أن شهد النبي تحقق ما نبأ به القرآن حين نزل يقول " غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" .
ونرجع إلى التاريخ:
ففي سنة 603 قتل القائد الرومى فوكاس الإمبراطور البيزنطي ( الرومي) موريس، وكانت العلاقات ودية بين الروم والفرس، لذا جاء ابن موريس إلى كسرى برويز يحتمي به ضد فوكاس مغتصب الحكم وقاتل أبيه. وأتخذها كسرى برويز فرصة فزحف بجيش اكتسح به حاميات الروم فيما بين النهرين وأستولي على أمد وديار بكر والرها وحران وعبر نهر الفرات وتقدم جنوبا إلى لبنان ، وفي نفس الوقت تقدم جيش فارسي آخر من ناحية أرمينية وزحف نحو آسيا الصغرى متقدما نحو العاصمة الرومية القسطنطينية.
وأصاب الروم الفزع والاضطراب ولم يتمكن فوكاس الرومي من عمل شيء فعزله الروم وتولى مكانه هرقل ( هراكليوس) الذي زحف من شمال أفريقيا إلى القسطنطينية بالسفن وحاول إنقاذها، ولكن أستمر كسرى برويز في فتوحاته سنة 611 إذ أكمل احتلال الشام ودخل دمشق وبيت المقدس وأستولي على صليب عيسى وأرسله إلى إيران، وأرسل قائده شهربزار فاحتل دلتا مصر والإسكندرية سنة 616 أي بعد البعثة المحمدية ببضع سنوات.
وفي سنة 617 استولي الفرس على ولايات آسيا الصغرى واحتلوا خلقدونية قرب القسطنطينية عاصمة الروم فأصبح الروم في مأزق حرج وتوقع الجميع سقوطها والقضاء النهائي على الروم البيزنطيين. في ذلك الوقت نزل القرآن يبشر المؤمنين في مكة بأن الروم سينتصرون بعد بضع سنين.
لم يكن لدى هرقل علم بهذه البشرى إذ كان وقتها يفكر في الهرب إلى قرطاجنة، (تونس الآن ) حتى لقد جمع خزائن القسطنطينية وذخائرها في سفن كثيرة وبعث بها إلى قرطاجنة، وقد غرقت تلك السفن ، واضطر هرقل تحت ضغط رجال الدين والشعب إلى الصمود ومنحته الكنيسة كنوزها ليدعم مجهوده الحربي.
وبذلك بدأ هرقل حرب الاسترداد، فعبر الدردنيل بجيوشه سنة 622 وزحف نحو أرمينيا وهزم الفرس فيها ثم عاد إلى القسطنطينية ، وفي العام التالي 623 تعاون مع الشعوب الشمالية كالخزر وهاجم إيران من الشمال فأسرع كسرى برويز بجيش قدره 40 ألف جندي لملاقاة هرقل ، ولكن انتصر عليه هرقل في ازربيجان ، ثم واصل هرقل عملياته الحربية السريعة على المدن الإيرانية الهامة والمقدسة سنة 623 ،وفي العام التالي 624 استعد كسرى لحرب فاصلة ولكن أسرع هرقل ودخل أرمينيا وهزم جيوش الفرس منفصلة قبل أن تتجمع .
وكان لابد لهرقل أن يستريح ليلتقط أنفاسه ويعد جيوشه للمعركة الفاصلة. واستعدادا لهذه المعركة الفاصلة أعدّ كسرى جيشين لها ؛ احدهما يقوده شاهين لمحاصرة القسطنطينية أما الأخر فقد استعد لمواجهة هرقل .
هذا بينما ترك هرقل قوة للدفاع عن القسطنطينية واتجه شرقا إلى شمال إيران وهاجم تفليس ، بينما دخلت حامية القسطنطينية في معركة مع شاهين وأسطوله البحري.
كان متوقعا هزيمة الروم أمام جيش شاهين واسطوله البحرى ، ولكن كانت هزيمة الفرس أمام القسطنطينية مفاجأة لم يفسرها أحد من المؤرخين حتى الان . إذ من غير المتوقع هبت رياح عاتية أعمت الجنود الفرس في البر وأغرقت الأسطول في البحر فانهزم الفرس بتدخل الاهى لا قبل لهم به ، ومات شاهين كمدا وهو يرى هزيمته بسبب عوامل مناخية لا قبل له بها ، أو بتعبيرنا أن الله تعالى هو الذي هزم الفرس لأنه أخبر مسبقا بهزيمتهم حين قال (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ : الروم 1- 6 )
وكانت هزيمة الفرس البرية والبحرية أمام القسطنطينية بداية النهاية، إذ تلاها فرار كسرى برويز في معركة دستكرد البرية، وقد عزله الفرس ثم قتلوه، وتولى ابنه قباذ الذي عقد الصلح مع هرقل.
أليس هذا أعجازا تاريخيا للقرآن الكريم ؟
أليس هذا إعجازا فى حفظ الله جل وعلا لتشكيل الآيات القرآنية بحيث أن كلمة (غلب ) تتشكل بما يغير معناها ـ ويظل ذلك التشكيل مقروءا ومعلوما حتى الآن ؟
خامسا :
ونتوقف مع مقارنة مع السنوات التاريخية الهامة فى ذلك الوقت فى أحوال الروم والمسلمين لتفصيل بشرى القرآن بانتصار الروم بعد هزيمتهم.
*في سنة 617 بلغ كسرى برويز أقصى انتصاراته حتى أن هرقل سأله في الصلح فاستكبر كسرى وسجن الرسول الذي بعثه هرقل وأرسل لهرقل بأمره بالحضور أمامه مقيدا بالأغلال، حتى فكر هرقل في الهرب إلى قرطاجنة. في ذلك الوقت الذي فقد فيه الروم الأمل نزلت البشرى بانتصارهم، وأن ذلك النصر سيكون بعد بضع سنوات.
* وبعدها ببضع سنوات أي سنة 622 بدأ الروم مسيرة النصر إلى أن تحقق نهائيا بهزيمة الفرس غير المتوقعة سنة 626. كما أخبر القرآن سلفا.
* ولكن ما شأن مسلمي مكة بتلك البشرى ؟
كان المسلمون في مكة في ذلك الوقت سنة 617 مقهورين مستضعفين فى نفس الحال السىء للروم ، وربما شعروا بتعاطف معهم ، ولكن الهام فى الأمر هو مجىء البشرى للمسلمين بأنهم سينتصرون بعد بضع سنين ,ان انتصارهم سيأتى مواكبا لانتصار الروم ،وأنهم سيفرحون بهذا النصر الاتى من لدن الله جل وعلا ، أي حين ينتصر الروم على الفرس بعد بضع سنين سيفرح المؤمنون لأن وعد الله تحقق ولأن وعد الله بالنصرة لمن يشاء لا يتخلف أبدا.
حالة المسلمين النفسية في ذلك الوقت كانت تستلزم نوعا من التشجيع، فالله تعالى يعد الروم بالنصر وهم في درك الهزيمة الطاحنة، وليس الروم أقرب إلى الله من المسلمين الذين تتنزل عليهم رحمة الله وفيهم النبي الذي يوحى إليه، ثم أن الروم لا يعلمون شيئا عن القرآن وقتها ولم يعلموا بنبأ النبي العربي وحتى لو علموا بوجوده فأن المحنة التي تدق عليهم أبوابهم كفيلة بأن تشغلهم عن كل شيء عداها. والمقصود أن القرآن وإن تحدث عن بشرى بنصرة الروم بعد هزيمتهم إلا أن حديثه لم يكن موجها للروم وإنما كان متوجها للمسلمين في مكة، وكان يريدهم أن يترقبوا تحقق البشرى وحينئذ سيفرحون ليس لانتصارهم على قريش وليس لانتصار الروم على الفرس . وإذا كان النصر سيتحقق بالنسبة للروم فهو ادعى لأن يتحقق بالنسبة للمسلمين أنفسهم فيما بعد.
خصوصا وأن هناك توافقا زمنيا بين ظروف الروم وظروف المسلمين وقتها.
فحين بدأ هرقل انتصاراته سنة 622 كانت هجرة المسلمين إلى المدينة، وقبلها يتضح ذلك التوافق الزمني بين محنة الروم أمام الفرس ومحنة المسلمين أمام مشركي مكة، ففي سنة 610 وما بعدها كان توغل كسرى في الشام وآسيا الصغرى، وكان في نفس الوقت ظهور الدعوة الإسلامية وإيذاء قريش لها، وانتهى اضطهاد قريش بالهجرة سنة 622 وفي نفس العام بدأ هرقل انتصاراته وحركة الاسترداد.
وجدير بالذكر أن أقصى سنوات المحنة للروم كانت سنة 617 وهي قريبة من عام الحزن الذي أشتد فيه وطأة المشركين على النبي والمسلمين في مكة. وكما دخل هرقل والروم في مرحلة انتصارات، دخل المسلمون مرحلة الدولة الوطيدة، وكما فرح المؤمنون بتحقيق الوعد الإلهي للروم نزل عليهم الوحي بوعد جديد خاص بهم وهم يعيشون أولى سنواتهم في دولتهم الوليدة التي يتهددها الخطر من المشركين المحدقين بها من كل جانب.
ولنا أن نتخيل المسلمين في أولى سنوات الهجرة وقد جاءتهم أنباء الانتصارات الرومية وأيقنوا بتحقق الوعد الإلهي حين قال لهم من سنوات مضت وهم فى مكة : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ : الروم 1- 6 )
ولنا أن نتخيلهم يتشوقون إلى وعد إلهي آخر لهم بالانتصار يتحقق هو الأخر خصوصا وهم يتهددهم الخطر من كل جانب، وفي تلك الظروف نزل الوعد الجديد في قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( النور: 55 ).
جاء الوعد لهم مشروطا بالإيمان وعمل الصالحات بأن يستخلفهم الله في الأرض وان يمكّن لهم الدين وان يتحول خوفهم إلى أمن، وتحقق الوعد شيئا فشيئا، انتهى الخوف وحل محله الأمن ، وقال تعالى للمؤمنين يمنّ عليهم (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( الأنفال: 26 ).
في سنة 627 كان الانتصار النهائي لهرقل وبلغ فيه ذروة المجد وفي نفس العام عقد النبي محمد عليه السلام صلح الحديبية الذي اعتبره القرآن الكريم فتحا مبينا ونصرا عزيزا (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) ( الفتح 1 ـ ).
بعدها في سنة 628 أرسل النبي ( ص ) برسائل إلى كسرى وهرقل وغيرهما يدعوهما للإسلام، وتلك بداية الدخول في التاريخ العالمي.
وفي سنة 629 كان فتح مكة ودخول الناس أفواجا في الإسلام وتحقق الوعد الذى جاء من قبل فى سورة الروم :(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) .
أى (جَاء نَصْرُ اللَّهِ ) تحقيقا لوعد الله الذى لا يخلف وعده ، وتنفيذا لأمر الله تعالى الذى له الأمر من قبل ومن بعد : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء ).
وفى النهاية ..
هى دعوة لأهل القرآن أن يكونوا فعلا (أهلا للقرآن ) باجتهادهم المخلص والموضوعى ابتغاء مرضاة الله عز وجل الذى لم نقدره حق قدره ..( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )