لا بُدَّ من غالب ومغلوب في السيرك السياسي اللبناني!

د. شاكر النابلسي في الإثنين ١٠ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

-
شعار "لا غالب ولا مغلوب" شعار لبناني سياسي مشهور، ولكنه خادع ومرفوع في الساحة السياسية اللبنانية منذ عام 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون والثورة الشعبية التي قامت لكي تمنع لبنان من الدخول في سياسة الأحلاف الأجنبية، كما أراد له الرئيس كميل شمعون، وكما عارضته القوى الوطنية الأخرى في لبنان من مسلمين، ومسيحيين، وشيعة، وسنة، ومارونيين، وأرثوذكس وأرمن، ودروز، ومن مختلف الطوائف الثماني عشرة في لبنان. ومعروف أن الذي رفع شعار "لا غالب ولا مغلوب" في لبنان، هو رئيس الوزراء الراحل صائب سلام المسلم السني، والزعيم البيروتي المعروف.


-2-
ودرج لبنان بعد كل معركة سياسية أو عسكرية أو ميليشية، أن يرفع في نهاية كل معركة شعار "لا غالب ولا مغلوب"، لكي تهدأ المعارك، ويعود لبنان إلى "التوافق" الطائفي الزائف والمؤقت، وليعود بعد سنوات - ولأي سبب داخلي أو خارجي إلى صراعاته بين طوائفه، وليخرج من هذه الصراعات بشعار "لا غالب ولا مغلوب".
وما دام لبنان وطوائف لبنان وقبائل لبنان السياسية المتحاربة تدرك منذ 1958 بأن لا غالباً في لبنان، ولا مغلوباً في لبنان، فلماذا إذن كل هذه المعارك السياسية والطائفية الطاحنة؟
ولماذا خاض لبنان الحرب الأهلية 1975 والتي استمرت خمس عشرة سنة، وراح ضحيتها أكثر من 100 ألف قتيل لبناني من مختلف الطوائف، ودمرت الاقتصاد اللبناني، وأفقرته لعدة سنوات، إلى أن عُقد "مؤتمر الطائف" وجاء الراحل رفيق الحريري، وأعاد الاقتصاد اللبناني إلى سابق عهده قبل الحرب الأهلية، وربما أقوى؟
ما فائدة أن يتناحر الزعماء السياسيون اللبنانيون، وهم يدركون منذ اللحظة الأولى للتناحر والخصام، أن "لا غالباً ولا مغلوباً"؟
ذلك أن القوى الخارجية الإقليمية والدولية - وهي التي تمسك بخيوط اللعبة السياسية اللبنانية بالمال والسطوة، وتصفي حساباتها مع بعضها بعضاً على الأرض اللبنانية - هي التي تخرج دائماً من لبنان بشعار "لا غالب ولا مغلوب"، وليس الزعماء السياسيون اللبنانيون.


-3-
الزعماء السياسيون اللبنانيون، ما هم إلا وسطاء (سماسرة) كوسطاء البورصة والأسواق المالية والعقارية. ينفذون أوامر إقليمية ودولية بالبيع أو الشراء، مقابل نسبة عمولات متفق عليها. ولذا، فهم سرعان ما يفتعلون الأزمات السياسية في كل مرحلة طالت أو قُصرت، لكي ينشّطوا السوق السياسية، ويبيعون ويشترون فيها لحساب الآخرين، الذين يستعملون لبنان كرقعة للعبة شطرنج الشرق الأوسط. ولبنان، هو البلد المؤهل الوحيد في الشرق الأوسط لمثل هذا الدور، حيث لا يملك قراره السياسي حزب وحيد من بين الأحزاب، ولا طائفة وحيدة من بين الطوائف. ورفعُ شعار "لا غالب ولا مغلوب" هو من أجل أن تتكرر دائماً المعارك السياسية ولا تُحسم لأي جهة كانت. وبذا، تستطيع كافة الطوائف الكبيرة والصغيرة اللاعبة والمهمّشة أن تأكل من وراء السمسرة السياسية، التي يقوم بها زعماؤها السياسيون، ويرمون بالفتات فقط للمناصرين والأتباع.
فالحسم السياسي في السيرك اللبناني غائب بغياب السياسيين الحاسمين. وما نراه في السيرك اللبناني سماسرة سياسة وليسوا سياسيين. والسماسرة لا يريدون للسياسي التاجر أن يخسر نهائياً أو يربح نهائياً، لكي لا يغيب عن البورصة السياسية.

-4-
إذن، لا بد من حسم المعركة السياسية اليوم في لبنان لصالح طرف سياسي ما، لكي لا يُعاد رفع شعار "لا غالب ولا مغلوب"، ولكي لا تعود عروض السيرك المملة من جديد بعد فترة. ولو انتهت المعركة السياسية اللبنانية الحلية بشعار "لا غالب ولا مغلوب"، وتغليب "التوافقية" الزائفة، فمعنى ذلك أن المتصارعين السياسيين اللبنانيين قد انكشف أمرهم – إن لم يكن قد انكشف بعد – وثبت زيفهم. وأنهم، أو أبناؤهم، أو أحفادهم سيعيدون كرة الأزمات السياسية من جديد، لكي يتولّوا دورهم في السمسرة السياسية، ويملئوا جيوبهم بمالها، ويخرجوا من جديد بشعار " لا غالب ولا مغلوب". فالأزمات السياسية الكبرى في التاريخ العربي والغربي لم تحسم حسماً نهائياً، إلا عندما خرج منها غالب ومغلوب.


-5-
فالخلاف القبلي والعصبي بين معاوية بن أبي سفيان مع علي بن أبي طالب على الخلافة الإسلامية، لم يُحسم نهائياً إلا بخروج غالب ومغلوب من معركة "صفين" عام 657م.
ومعركة الديكتاتورية والديمقراطية الاسبانية في 1936، لم تُحسم لصالح الديمقراطية إلا عندما خرج الديكتاتور فرانكو مغلوباً والديمقراطية غالبة.
ومعركة الحداثة والقدامة في تونس مطلع الخمسينات، لم تُحسم إلا عندما خرجت منها القدامة مغلوبة، والحداثة غالبة بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، والتحول الاجتماعي الكبير الذي أحدثه بصدور "مجلة الأحوال الشخصية" 1956، والانقلاب الثقافي والديني الذي أحدثه في جامعة "الزيتونة".
والاعتداء الصدامي على الكويت لم يُحسم إلا عندما خرج صدام حسين مغلوباً 1991.
ونهاية ديكتاتورية حزب البعث في العراق لم تُحسم إلا عام 2003 عندما انتصر الشعب العراقي، وهُزم حكم الحزب الواحد الأحد، وخرج مغلوباً.


-6-
لقد أفرزت الأزمة السياسية اللبنانية – كما لم تفعل كل الأزمات السابقة – كتلتين سياسيتين:
الأولى، كتلة "14 آذار" العلمانية، وهي تضم طوائف مختلفة (سنة، ودروز، ومارونيين، وارثوذكس، وأرمن) وهؤلاء يرتبطون بالغرب وحداثته.
والثانية، كتلة "8 آذار" وتضم (شيعة، ودروز، ومارونيين، وارثوذكس، وأرمن)، وهؤلاء يرتبطون مباشرة بسوريا وإيران، وهم تقليديون محافظون.
وتأليف حزبين سياسيين كبيرين من أولئك وهؤلاء، حزبٌ يحكم وحزبٌ يعارض، حزبٌ غالب وحزبٌ مغلوب، سوف يحلُّ - في تصوري المتواضع - جزءاً كبيراً من إشكالية السيرك السياسي اللبناني الحالي، ويخفف – ولو قليلاً – من هذا السُعار الطائفي الذي يجتاح لبنان الآن، كما اجتاحه طيلة أكثر من خمسين سنة ماضية.
السلام عليكم.

اجمالي القراءات 11052