ßÊÇÈ لا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن الكريم
سابعاً: إلغاء حكم آية بحديث بشرى

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

التجنى على رسول الله بأنه قال كلاماً يخالف القرآن معناه معاداة النبى واتهامه بالكذب على الله، هذا مع أن الله تعالى مدح الرسول بأنه ما تقول على الله شيئاً فى الدين يقول تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة 44: 47). والإيمان بالرسول معناه تبرئته من ذلك الزيف المنسوب إليه والذى يخالف التشريع القرآنى، ومعناه الإيمان بأن النبى كان فى حيلته متبعاً للوحى فبذلك نزل القرآن يأمره بأن يتبع ما يوحى به الله إليه. وعليه فإن دعوى إلغاء التشريع القرآنى بأحاديث منسوبة للنبى ينبغى منذ البداية أن نبرئ الرسول عليه السلام منها، ويدفعنا إلى ذلك حب النبى والإيمان به والدفاع عنه من تلك الاتهامات التى تنال من النبى ومن دين الإسلام. لقد توارث العصر العباسى تشريعات تخالف تشريع القرآن وقد حافظوا على تلك التشريعات المخالفة، وفى سبيلها اخترعوا أحاديث نسبوها للنبى كى يضعوا لها أسساً تشريعية، ولأنها تخالف النصوص القرآنية كان ادعاء النسخ بمعنى الإلغاء هو السبيل الوحيد لإرساء تلك التشريعات ضمن تشريعات الإسلام، وبذلك أضاعوا تشريعات القرآن أو بتعبيرهم "أصبحت منسوخة" بتلك الأحاديث البشرية.

إلغاء تشريع القرآن فى المحرمات فى الزواج:

وبعض تلك الأحاديث البشرية كانت فى الأصل آراء فقهية جاء بها القياس الفقهى، مثل تحريم الجمع بين الزوجة وعمتها أو خالتها قياساً على تحريم الجمع بين الزوجة وأختها، ومثل قولهم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قياساً على تحريم الزواج بالأم المرضعة والأخت من الرضاع. وبذلك أضاعوا تشريع القرآن فى المحرمات فى الزواج. لقد أحل القرآن الزواج من كل النساء واستثنى (من تزوجها الأب، الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، الأم التى أرضعت، الأخت من الرضاع، أم الزوجة التى دخل بها الزوج، من تزوجها الإبن، أخت الزوجة التى فى عصمة زوجها ما لم تسقط العصمة بملك اليمين) وبعد أن ذكر القرآن أولئك المحرمات وأحوالهن بالتفصيل قال ﴿وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ (النساء 24). ومعناه أن القرآن أحاط المحرمات فى الزواج بسور جامع مانع، جمع كل المحرمات داخل السور ومنع أن يضاف إليهن أو يؤخذ منهن، وخارج هذا السور الجامع المانع يحل للإنسان أن يتزوج من يشاء. وذلك التشريع القرآنى الجامع المانع المحدد القاطع ألغاه تشريع مخالف يحرم ما أحل الله. وعلى سبيل المثال، فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة امرأته. فالقرآن يبيح ذلك لأن الجمع بين الزوجة وعمتها وخالتها حلال، بدخل ضمن قوله تعالى ﴿وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ولكن ذلك الحديث يحرم ما أحل الله. وإذا أراد رجل أن يتزوج (خالته من الرضاع) قال له القرآن ﴿وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ وقال له الفقه وعلم الحديث أن ذلك حرام لأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب بزعمهم.. وقد يقال لا عبرة بأى تشريع يخالف القرآن خصوصاً إذا كان التشريع القرآنى حاسماً واضحاً جامعاً مانعاً مفصلا.. وذلك كلام حق.. ولكن الواقع أن المسلمين تناسوا تشريع القرآن فى سبيل تلك الأحاديث، والحجة الجاهزة لديهم أن تلك الأحاديث قد "نسخت" أى ألغت تشريع القرآن الواضح الجامع المانع.

إلغاء تشريعاته فى الوصية لوارث:

ومن هذه النوعية تلك الفتوى الفقهية التى ارتدت ثوب حديث نبوى يقول "لا وصية لوارث". وقد جعلوا تلك الفتوى تصادر التشريع القرآنى الذى يوجب  لوصية للأقربين وهم الورثة فقط .  وليس يبيح فقط بل يأمر بالوصية لبعض الورثة ويجعل ذلك فرضاً على الإنسان حين يشرف على الموت، إن الله تعالى يقول ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ﴾ (البقرة 180). فالآية تفرض الوصية عند الموت للوالدين إذا كانا معا أو أحدهما على قيد الحياة، وتفرض الوصية للأقربين الورثة  ومعروف أن للوالدين نصيباً مفروضاً فى الميراث إلى جانب الوصية، يقول تعالى عن حق الوالدين فى الميراث ﴿وَلأبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لّمْ يَكُنْ لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُمّهِ السّدُسُ﴾ (النساء 11). إذن للوالدين نصيب مفروض فى الميراث ولهما أيضاً نصًيب مفروض فى الوصية ولكن ذلك كله لم يغن شيئاً أمام حديث منسوب زوراً للنبى يقول "لا وصية لوارث" فأسرعوا بإلغاء الحكم فى قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ﴾. وتناسوا ما فى الآية من عبارات الإلزام والتأكيد مثل "كتب عليكم" "حقاً على المتقين". وتناسوا التفصيل القرآنى الحكيم الذى جاء بشأن الوصية أن من يبدل وصية الموت عقابه شديد عند الله ﴿فَمَن بَدّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وتأتى الآية التالية لتبيح التدخل فى إصلاح الوصية إن كان فيها ظلم ليستقيم العدل، يقول تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ وتناسوا أن آيات الميراث فى القرآن جعلت تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل توزيع الميراث. وتناسوا أن كلام القرآن عن الوصية جاء بصيغة مطلقة تدل على حق الإنسان فى أن يوصى بوارث أو غير وارث فتقول آية الميراث ﴿مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾.. وتناسوا حكمة التشريع القرآنى فى الميراث والوصية، فقواعد الميراث تقوم على أنصبة محددة لا مجال فيها للتعديل أو التبديل، وفيها يتم توزيع التركة بالنصف وبالربع وبالثمن والسدس والثلث هكذا بالتحديد، ومصير من يتعدى تلك الحدود أن يكون خالداً فى النار ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ﴾ (النساء 13،14). ولكن الوصية يمكن أن يراعى بها الإنسان الظروف الاستثنائية والحقوق الطارئة.  

أكذوبة الرجم ألغت تشريعات القرآن فى عقوبة الزنا:

وعقوبة الرجم للزانى والزانية لم تأت فى القرآن، وإن كانت قد جاءت فى التوراة الموجودة لدينا وتأثر المسلمون بذلك فأفاضوا عقوبة الرجم لجريمة الزنا فى حالة الإحصان أو الزواج، وقد انشغل الفقهاء بأحاديث الرجم التى ألغت التشريعات القرآنية الخاصة بعقوبة الزنا، بحيث أصبحت تلك التفصيلات القرآنية مجهولة. وقد جاءت عقوبة الزنا فى القرآن على النحو التالى: 1- الزانية والزانى إذا ضبطا فى حالة تلبس، فالعقوبة مائة جلدة أمام الناس، بذلك بدأت سورة النور بافتتاحية ترد على أولئك الذين يتجاهلون وضوح القرآن وبيان تشريعاته، يقول تعالى فى تلك الافتتاحية الفريدة ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ﴾ وبعدها قال تعالى مباشرة ﴿الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. 2- ومن الصعب إثبات حالة التلبس فى جريمة الزنا، ومن الصعب أيضاً أن يحدث إقرار بالوقوع فى الزنا ينتج عنه عقوبة الجلد، ولكن من السهل أن يشاع عن امرأة ما بأنها سيئة السلوك، وتتكاثر الشواهد على سوء سمعتها، وحينئذ لابد من عقاب مناسب بعد الإشهاد عليها بأربعة شهود بأنها اللاتى (يأتين الفاحشة) ولكن لم يتم ضبطها، وذلك العقاب ليس الجلد، وإنما هو عقاب سلبى، يكون بمنعها عن الناس ومنع الناس عنها إلى أن تموت أو تتزوج وتتوب، يقول تعالى ﴿وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً﴾ (النساء 15). 3- وجاءت تفصيلات القرآن بعقوبة الجارية، إذا وقعت فى الزنا. فإن كانت الجارية تحت سيطرة سيدها أو يجبرها على ممارسة البغاء فليس عليها عقوبة، إذ أنها لا تملك حرية الاختيار، يقول تعالى ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (النور 33). وإذا تزوجت الجارية وتحررت من سيطرة مالكها ووقعت فى جريمة الزنا فعقوبتها خمسون جلدة أى نصف ما على المتزوجات الحرائر إذا وقعن فى الزنا ﴿فَإِذَآ أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ (النساء 25). 4- وقد تكون الزانية زوجة مطلقة لا تزال فى فترة العدة، ومن حق المطلقة فى فترة العدة أن تظل فى بيت الزوجية، ولكن تفقد هذا الحق إذا وقعت فى الزنا، وحينئذ يكون من حق زوجها أن يطردها ولكن بشرط أن تكون جريمة الزنا مثبتة حتى لا يتاح لزوجها أن يتجنى عليها بالباطل، يقول تعالى عن تلك الزوجة المطلقة ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ﴾ (الطلاق1). والقرآن يصف الفاحشة بأنها "فاحشة مبينة" أى مثبتة ضماناً لعدم الافتراء بلا دليل.. وعقوبة الطرد هنا تضاف إلى العقوبة الأخرى وهى مائة جلدة. 5- وهناك عقوبة أخرى لتلك الزوجة المطلقة إذا وقعت فى الزنا بعد الطلاق، وهى أنه من حق الزوج أن يمنعها عن الزواج إلى أن تدفع له بعض ما أعطاه لها فى الصداق أو المؤخر. والشرط أن تكون جريمة الزنا فى حقها مثبتة بالدليل، يقول تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ﴾ (النساء 19). والعضل هو منع المرأة من الزواج، والقرآن يحرم العضل إلا فى حالة المطلقة الزانية.. فيجعل من حق الزوج أن يمنعها الزواج إلى أن تعيد له بعض ما دفعه إليها فى المهر. 6- وفى كل الأحوال فالمرأة الزانية التى لا تتوب عن الزنا لا يتزوجها المؤمن، وتلك عقوبة أخرى إضافية، يقول الله تعالى ﴿الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور 3). 7- وتأبى تفصيلات القرآن إلا أن تضع عقوبة للزنا فى حالة استثنائية ومستبعدة، وهى افتراض وقوع نساء النبى أمهات المؤمنين فى تلك الجريمة، وهنا تكون العقوبة مائتى جلدة فى تلك الجريمة، أى ضعف ما على النساء الحرائر، وفى المقابل فلهن فى عمل الصالحات ضعف ما للمحسنات، يقول تعالى ﴿ياَ نِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنّ للّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾ (الأحزاب 30،31). ولأن العقوبة هنا مضاعفة كان لابد من كون الجريمة مثبتى أو بالتعبير القرآنى "من يأت منكن بفاحشة مبينة" فالأمر هنا يخص نساء النبى أمهات المؤمنين، وهو أمر فظيع هائل لابد من التثبيت فيه. 8- والتشريع القرآنى المحكم يصف عقوبة الزنا- التى هى الجلد- بأنها "عذاب". والعذاب يعنى أن يظل الجانى حياً لا يموت، وبتعبير آخر لا محل هنا لعقوبة الرجم التى تعنى الموت. والقرآن حين تحدث عن عقوبة الزنا قال ﴿الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ لم يقل الزانى المحصن والزانية المحصنة أو غير المحصنة، وإنما جاء بالوصف مطلقاً "الزانية والزانى" وقدم الزانية على الزانى لأن المرأة هى العامل الأكثر تأثيراً فى تلك الجريمة، بينما قال عن السرقة ﴿وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ﴾ لأن الرجل هو الأساس والعنصر الغالب فى جريمة السرقة. والمهم أن عقوبة الزنا مطلقاً هى الجلد ﴿فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ ووصف القرآن عقوبة الجلد هنا بأنها عذاب فقال ﴿فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذن فالجلد هو العذاب.. وفى حالة الجارية التى تزنى بعد زوجها قال تعالى: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أى خمسون جلدة، أى أنه وصف عقوبة الجلد للجارية بأنه عذاب.. والقائلون بأن التى تتحصن بالزواج ثم تزنى تعاقب بالرجم كيف يفعلون ﴿فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ هل يمكن تصنيف الرجم؟ وهل هناك نصف موت؟ وفى حالة نساء النبى يقول التشريع القرآنى ﴿ياَ نِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾. فوصف عقوبة الجلد بأنه "عذاب" أى مائتا جلدة.. والقائلون بأن عقوبة المتزوجة هى الرجم كيف يحكمون بمضاعفة الرجم لنفس الشخص؟ وهل يموت الشخص مرتين؟ والرجل إذا عجز عن إثبات حالة التلبس بالزنا على زوجته ولم يستطع إحضار الشهود فيمكن أن يشهد بنفسه أنها زانية أربع مرات، ويؤكد شهادته الخامسة بأن يستجلب لعنة الله عليه إن كان كاذباً، وتلك الحالة اللعان، ويمكن لزوجة المتهم أن تدفع عن نفسها وقوع حد الزنا بأن تشهد أربع شهادات بالله بأن زوجها كاذب فى اتهامها ثم تؤكد فى شهادتها الخامسة بأن تستجلب غضب الله عليها إن كان زوجها صادقاً فى اتهامه، يقول تعالى ﴿وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ (النور 6: 9). ويهمنا هنا أن وصف عقوبة الزنا بأنها عذاب، فقال "ويدرؤ عنها العذاب" وهو نفس الوصف الذى سبق لعقوبة الجلد.. إذن عقوبة المتزوجة المحصنة هى الجلد وليس الرجم. ثم إن تشريعات القرآن فى الآيات السابقة تعامل المرأة الزانية على أنها تظل حية بعد اتهامها بالزنا وإقامة عقوبة الجلد عليها وكذلك الزانى فالقرآن الكريم يحرم تزويج الزانى أو تزويج الزانية من الشرفاء، فلا يصح لمؤمن شريف أن يتزوج زانية مدمنة للزنا ولا يصح لمؤمنة شريفة أن تتزوج رجلاً مدمناً على الزنا ﴿الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور 3). ولو كان مصير الزانى أو الزانية هو الرجم موتاً لما كان هنا تفصيل فى تشريعات حياته طالما هو محكوم عليه بالموت، ونفس الحالة فى إضافة عقوبات للمطلة الزانية بإخراجها من البيت ومنعها عن الزواج حتى تدفع بعض المهر، وإذا كانت هناك عقوبة الرحم على تلك الزانية المحصنة لما كان هناك داع لتشريع يمنعها عن الزواج ثانياً ويسمح بطردها من البيت فى فترة العدة. وأكثر من ذلك. فالله تعالى يتوعد الزناه بمضاعفة العذاب والخلود فيه يوم القيامة، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً﴾ (الفرقان 69،70). فإذا كان مصير الزانى هو الرجم السريع فلن تكون له فرصة للتوبة والإيمان والعمل الصالح المتراكم الذى تتبدل به سيئات الزنا إلى حسنات. بحيث تختفى عنه صفة الزانى ليحل محلها وصف الصالح عند الله تعالى.. ومع هذا البيان الواضح فى تشريعات القرآن فإن أحاديث الرجم والانشغال بها أضاعت تشريعات القرآن فيما يخص تفصيلا العقوبة فى جريمة الزنا، أو بتعبيرهم "نسختها" وأبطلت حكمها. ومع أن عقوبة الرجم لم ترد فى القرآن ومع أن العقوبة الواردة فى جريمة الزنا تؤكد على أنه الجلد فقط إلا أن اقتناع المسلمين بأكذوبة الرجم جعلته الأساس التشريعى السائد حتى الآن فى كتب التراث وفى تطبيق الشريعة لدى بعض الدول (الإسلامية). ويكفينا فى التدليل على عمق التأثر بذلك التشريع المخالف للقرآن أن القارئ لنا الآن يدهش أشد الدهشة حين يكتشف أن الرجم ليس من تشريع القرآن والإسلام.. وكفينا فى عمق التأثر بذلك التشريع المخالف للقرآن أنه على أساسه قتل الآلاف رجماً وسيقتل مثلهم فى المستقبل، وذلك بحكم ما أنزل الله به من سلطان، ويقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ﴾ (الأنعام 151). ويقول ﴿وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ (الفرقان 68). إن من أعظم الحرمات حرمة النفس البشرية.. ومن أعظم الجرائم أن تقتل تلك النفس الزكية بغير حكم أنزله الله تعالى الذى خلق النفس والذى أنزل الشرع.. وأعظم الجرائم على الإطلاق أن تفترى تشريعاً بقتل النفس الزكية ثم تنسبه إلى الله تعالى ورسوله.. ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ. وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـَؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ (يونس 17،18).