زوبعة في فنجان!
إن ما يحصل الآن من حوار وردود يشترك فيه كثير من أعضاء أهل القرآن، وما تثيره تلك الردود من نقاشات حول المواضيع الجــديــدة التي أثرتها بينهم، هي حالة إيجابية، تدعوا إلى إعادة التفكير من جديد في تلك المواضيع التي ترسخت في العقول بأسلوب تراثي، وإن لم نلتفت لتلك الحقيقة بعد.
لذا فمن المهم أن نعود لمناقشة تلك المواضيع بالعقل والمنطق ومن دون تشنج، مع استعادة موقف القرآن منها للوصول إلى الحقائق النورانية القرآنية التي أزاحنا عنها شياطين من الإ&aنس ادعوا الإسلام ودخلوا فيه لتخــريــبــه من الداخــل حســدا من عند أنفـســهــم، ليحرفونا عن سبيل الرشد، علما أنهم متواجدون في كل العصور الإسلامية من عصر الراشدين، إلى كل عصور الخلافات التي تتابعت بعدها من أموية وعباسية وفاطمية وعثمانية.
أعتقد أننا إن تابعنا التمسك بالعقل والمنطق، مع الحوار الهادئ، لن يصح إلا الصحيح، ولن نخرج عن منهج القرآن الكريم القويم إن تتبعنا خطانا مستأنسين بآيات الله لتضيء لنا الطريق.
أيها الإخوة الكرام، أسرة أهل القرآن!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عليكم جميعا، أما بعد:
بالأمس دخلت عليكم ضيفا، وما زلت أعتبر نفسي في ضيــافــتــكــم الكريمة لي في موقعكم الكريم الذي يشرفني أن أكون فيه، موقع أهل القرآن الكرام.
يسرني ما أثاره الأخ العزيز عثمان محمد علي حول بعض المقالات التي نشرتها في هذا الموقع، مثل: موضوع النسيء، وموضــــوع المحكم والمتشابه في القرآن، وموضوع كيف يحفظ الله سبحانه القرآن، التي أثارت سلسلة من التساولات الطبيعية، وصبرت قبل الرد عليها لأرى ردود فعل باقي القراء الكرام حولها، بغض النظر عن كون تلك الردود مؤيدة لما قدمت من مقالات أو كانت تعارضها.
بالنسبة لموضوع المحكم الذي في سورة التوبة، تصوروا معي كيف يكون الحال وكيف يكون موقفنا من العالم أجمع إن عتبرنا الآيات التالية من سورة التوبة مازالت سارية المفعول إلى يومنا هذا:
( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم*) 5-9.
( قاتلواالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون*) 29-9.
( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير*) 73-9.
فهل أمثال هذه الآيات القرآنية دائمة وواجبة التطبيق من المؤمنين المسلمين في كل زمان ومكان؟
أيها الرفاق عودوا إلى الرشد وكونوا من الراشدين!
كما أنصح الشباب وأقول لهم: اعبدوا الله تعالى وحده ولا تشركوا به شيئا!
وبما أن القرآن من الأشياء، فأنا أنصح نفسي كما أنصح من أحب وأقول له لا تعبد القرآن مع الله سبحانه.
القرآن الذي بين ايدينا هو سجل لما أنزل سبحانه على رسولنا الكريم من كلمات نورانية، المقدس فيه هو للمعاني الرحمانية التي تدرك بالعقل، أم الأحرف والكلمات والحبر والورق هي مواد مثل باقي المواد لا قدسية فيها أصلا.
فالقرآن كما نعلم قد كتب في القرن السابع الميلادي من وحي الله تعالى الذي كتب كلمة كلمة وآية آية كان يضعها حامل الوحي جبريل في مكانها الطبيعي، الذي كان يأتي ليتدارس مع الرسول الكريم كل ما كتب، بحسب كتب السيرة، في شهر رمضان من كل سنة حتى توفاه سبحانه في شهر ربيع أول من السنة الثانية عشرة للهجرة، الموافقة لشهر نيسان من عام 633م* *للحاشية: وإذا كان هذا صحيحا يكون الرسول الكريم قد عاش 63 سنه موسمية طولها 365 يوما، أي بعدد كلمات يوم في القرآن المتميز بإعجازه العددي، كإشارة منه سبحانه إلى عدد أيام السنة كي لا يضل المسلمون عنها، كما ذكر سبحانه في القرآن كلمة شهر اثني عشر مرة بعدد أشهر السنة الموسمية.
علينا أيها الإخوة أن ندرك من نحن، وكيف نفكر، من خلال القرآن الذي يعلمنا بوجود قطبين متعارضين داخل كل نفس منا، النفس المطمئنة والنفس اللوامة، أو النفس التقية والنفس الفاجرة:
( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها*) 7-10-90.
أيها الإخوة، إن الله تعالى لا يتعـــاطى الســحــر، ولا في الظــلام، بل يتعاطى دائما بالحقائق وفي النور، ألا تذكرون قصة سحرة فرعون الذين سحروا أعين الناس فرأوا العصي والحبال قد تحولت إلى ثعابين تخيلية، بينما لما رمى موسى عصاه، تحولت إلى أفعى حقيقية تلقف ما رماه السحرة من الذين استسلموا فورا لعلمهم أن هذا فوق سحرهم ودجلهم العقيم.
لذا علينا أن لا نتخيل في يوم من الأيام أننا إذا طبعنا نسخة جديدة للقرآن فيها أخطاء إملائية، أو سهو عن بعض الآيات فيها بأن الله سبحانه وتعالى سيصححها مباشرة، فقط للأنه قال في القرآن:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*) 9-15.
والدليل على عدم صحة هذا التخيل وجود مصحف سمرقند الأثري المليء بالأخطاء الإملائية ونقص في الكلمات والآيات، مع وجود مصاحف فاطمة المغايرة لما معنا من المصاحف اليوم.
مصحف عثمان الأثري الذي حصلت عليه بعد جهد جهيد من وزارة الثقافة التركية سنة 1999 بموجب الترخيص رقم: 7303- تاريخ: 2-6-99. أنقرة. مكتوب على غلافه أنه قد كتب سنة: 32 هجرية، وبالخط الكوفي القديم، وهو كتاب مكتوب بأحرف منقطة تختلف عن أشكال تنقيطنا لسبب بدهي ووجيه هو كون القلم المستخدم كانت رأس قصبة مبرية بالموس عرضها حوالي ثلاث ملمترات، فأتت النقط مشابهة لإشارة يساوي الرياضية: = ، _.
والإختلاف الملحوظ هو في حرفي القاف والفاء، حيث نجد نقطة واحدة منها فوق الفاء ونقطة واحدة مثلها تحت القاف للتمييز.
أما على وحتى فقد كتبتا بالألف المفتوحة في مصحف عثمان: علا ، حتا، بينما إلى كانت مكتوبة إلى، بالألف المقصورة، ولما كنت من مواليد منطقة الجولان السورية القريبة من حوران الغسانية التي ما زالت أغلب قراها على الدين المسيحي، منذ الفتوحات الإسلامية فقد اطلعت على أناجيلهم الأثرية المكتوبة بخط شبيه إلى حد كبير بالخط القرآني الحالي وبنفس طريقة تنقيطه، وكانت مكتوبة بريشة طائر كبيرة مثل ريشة النسر أو العقاب. وعلى وحتى مكتوبتان بالألف المقصورة لكونهم كانوا يلفظونها بحسب اللهجة الغسانية أميل إلى الياء من الألف، كما يلفظها اللبنانيون اليوم.
كل تلك الفروق تعتبر من الفروق الشكلية في القرآن، لكن المشكلة كانت في الإعجاز العددي الذي كان السبب الأول الذي دعاني للذهاب إلى تركيا للحصول على مصحف عثمان، لكون الدكتور رشاد خليفة عندما قدم برهانه في الإعجاز العددى، وجدت إختلافات عديدة نتيجة الإختلاف بين مصحف عثمان الذي بقي مهجورا في المدينه، بينما استنسخ الغسانيون في دمشق عن مصحف المديــنـــة الأصلي الذي أرسل إلى دمشق، عندما كان معــاويــة بن أبي سـفـيــان واليا على سورية، أيام ولاية عثمان بن عفان. ومصحف دمشق هذا انتقل بعد انتقال الخلافة للعباسيين إلى بغداد ،فأتلفه المغول مع ما أتلفوه من مكتبة بغداد في غزوة هولاكو الشهيرة.
المهم في موضوعنا، أن الإعجاز العــــددي مرتبط مباشرة بمصحف عثمان، المنقول عن مصحف الرسول مباشرة، والتي كانت أيضا كما تقول الروايات، أنه كان الخط الوحيد الذي كان معروفا في قريش قبل دخول باقي العرب إلى دين الإسلام.
بعد هذه المــقــدمــة، أحب أن أنتقل إلى أسلوب الله تعالى في حفظه للــقــــرآن.
مما لا يعلمه كثير من المسلمين، أن الله تعالى على صلة دائمة مع كل عبد من عباده جميعا، لا بل إن الله مع كل فرد من مخلوقــاتــــه كلها من الحــوت والفيل كبرا إلى النملة والنحلة صغرا، وهو سبحانه دوما مع المؤمن ومع الكافر ويعلم ما توسوس به نفــســيــهــما، كما يلـهــمــهــــــما بما يشاء، ومن الطبيعي أن تكون صلة الله تعالى بــعــبـــاده المؤمنـيـن المتقين أقوى من غيرهم لكونهم على صلة دائمة بربهم الكريم في أعمالهم وصلاتهم وسرهم وعلنهم. هذه الصلة الدائمة من رب العالمين لعباده المؤمنين, تترجم عادة في واقع الحياة بما نسميه بالإلهام الرباني، خاصة لإنسان يعشق ربه وكتابه العظــيـــــم، فيلهمه ربه الصواب، حسب سعيه وقدرته على الإدراك والفهم.
فالله تعالى لم ينزل كتابه للناس كافة كي يعاجزهـــــــم على فهمه، بل بالعكس أنزله ليكون أول معين لهم طالما استمروا بسعــيــهـــم، والتزموا بقاعدة: ( إتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون*).
لأن الذي لا يسأل أجرا إلا من ربه فهو الوحيد الذي لا يعمل إلا لله سبحانه، من هنا التزمت في كل مؤلفاتي أن أعطيها للناشر مجانا وهو حر في أن يأخذ من القراء تكاليف نشره وعمله الذي يرتزق منه.
ألا تذكرون أيها الإخوة كيف أمرنا ربنا كمؤمنين به أن ننفي الإتخاذ عنه سبحانه في كل القرآن؟ وعددها لنا في القرآن كي لا ننساها؟
في كل الآيات التاليات أتت عبارة الإتخاذ مستنكرة عنه سبحانه لا شريك له:
( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لاتعلمون*) 68-10.
( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا...*) 88-19.
( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ...*) .
( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا...*) 4-18.
من هنا أتيت بقاعدة قرآنية استنبطتها من القرآن تقول:
إن القرآن يرفض الخطأ حتي في التشكيل الخاطئ، لكن ذلك الرفــض لا يمكن إدراكه مباشرة إلا عن طريق العقل الذي هو جهازنا الفكري كإنس من نسل آدم عليه السلام.
لكن كيــــــف؟
عندما نقرأ آية: إتخذ الله إبراهيم خليلا، كما هي مشكلة في مصاحفنا اليوم، نقرأها على أن الله فاعل مرفوع بالضمة، لكونه فاعل الإتخاذ بينما نقرأ كلمة إبراهيم، على أنه مفعول به منصوب بالفتحة لكونه هو الذي قد اتخذ خليلا من قبل الله سبحانه من دون العالمين، بينما إذا رجعنا لمصحف عثمان الأثري نجده بلا تشكيل أصلا.
لكننا نعلم من القرآن أن الله تعالى مع كل خلقه بلا تمييز في كل حياتهم، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، بغض النظر عن كفرهم أو إيمانهم، مع أنه سبحانه يحب المؤمنين المتقين الصالحين ولايحب الكافرين المجرمين، مع أنه معهم ويرى أفعالهم وجرائمهم. اللآن طالما قد قرأنا كيف استنكر سبحانه عن نفسه الصاحبة أو الولد فمن المنطقي أيضا أن يستنكر اتخاذ صاحب أو خليل لكونه الغني عن العالمين، بينما عباده المحبين له هم الفقراء إليه، وهم الذين سيحاولون أن يتخذوا ربهم خليلا لهم يناجونه ويتقربون إليه سبحانه وليس العكس, والذين أصروا على الكفر هم الذين أرادوا الإبتعاد عنه ورفضه علماً أنه لم يتركهم ولا للحظة واحدة.
عندنا آية في القرآن شبيهة بالآية التي هي محور حديثنا الآن، وهي:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء...*) 28-35.
أتى التشكيل فيها صحيحا وقلنا في إعرابها: أن الله مفعول به مقدم لكونه لفظ الجلالة تقديرا له سبحانه، وقلنا عن إعراب العلماء: فاعل مرفوع أخر عن المفعول به لوجوب تقديم لفظ الجلالة عليه.
بالتالي نستطيع أن نقرأ آية الإتخاذ بنفس الطريــقــة ونعربــهــا نفس الإعراب فيكون قد استقام المعنى ورجـعــنــا إلى الصــواب بالعــقــل والمنطـــــق السليم.
برهان من زاويــة أخرى نجدهــا في القــرآن، في إشارة إلى قصــة الغرانيق العلى التي ذكرها القرآن بأسلوب مختلف بقوله تعالى:
( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيـــره* * ( ولو سمح الله تعالى للشيطان أن يتم ما ألقاه في عقل الرسول يجيبه سبحانه في تتمة الآية)
وإذا لآتخذوك خليلا* ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا* إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا* وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لايـلــبـثـون خلافك إلا قليلا* سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويـــلا*) 73-77.
ومن هذه الآيات نكتشف أن الأدنى درجة هو الذي يتخذ الأعلى درجة خليلا له حتى لو كان المخلوقان من الإنس، فكيف بالله العلي العظيم الجبار المتكبر القدوس الغني عن العالمــيــن يقبل أن يتخــذ عبدا من عبــاده خلــيـــلا له أوصاحــبــا أوجليــســا؟
نيازي عزالدين