الباب الخامس : غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك
الفصل الخامس : بين الاهلاك الكلى والاهلاك الجزئى
من إلاهلاك الى التعذيب
1 ـ كان الاهلاك عاما فى تلك القرى فى العهد القديم . ثم إنتهى عهد الاهلاك العام الذى كان يمحو القرية الظالمة كلها ، أو المجتمع كله ولا ينجو إلّا المتقون. جاء البديل بإهلاك جزئى،أو بتعبير القرآن ( تعذيب ) . ومن هنا يأتى الحكم الالهى العام باهلاك ( أو) بتعذيب كل قرية قبل قيام الساعة:( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). ( الاسراء : 58 ).
فرعون وقومه والاهلاك الجزئى
1 ـ على أن هذا التغيير من الاهلاك الكلى الى الاهلاك الجزئى حدث بالتدريج . وكانت البداية فى إهلاك فرعون وقومه فقط دون بقية المصريين . حسب توصيف القرآن الكريم هناك فرعون وجنده وآله وقومه فى ناحية ، وهناك فى الناحية الأخرى (أهل مصر ) ، أو ( اهل الأرض ) وهم الفلاحون العاملون فى الأرض المرتبطون بها الذين لا يعرفون غيرها ولا يهتمون بغيرها ، ثم التجار والحرفيون ، وكان منهم من وفد لمصر من الخارج وتمصروا وصاروا من أهلها مثل العبرانيين الاسرائيليين فى ذلك الوقت ، ثم فيما جاء الشوام واليونانيون والايطاليون وغيرهم، وقت أن كانت مصر تستقبل الهجرات .
يقول جل وعلا : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (القصص 4 : 6 ). فرعون علا فى (ارض ) مصر ، إمتلك أرض مصر الزراعية ونيلها بأنهاره التى تعددت وقتها ، وأعلن ملكيته لمصر متفاخرا يخاطب قومه:( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ )( الزخرف 51 ).قوم فرعون هنا هم الذين حشدهم فى مؤتمره ، وليسوا كل سكان مصر وأهلها . قوم فرعون هم فقط ملأ فرعون بدرجاتهم المتدرجة عسكريا وكهنوتيا ووظيفيا ، لذا يأتى لفظ ( الملأ ) بصيغة فريدة فى القرآن تعبّر عن تضخّم هذا الملأ من قوم فرعون ونفوذهم وتسلطهم على بنى اسرائيل (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ )( يونس 83 ) ، فهم ليسوا مجرد ( ملأ ) مثل ملأ قوم نوح أو قوم عاد أو قوم ثمود ، بل طبقة ضخمة ، أو ( قوم ) فى حد ذاتهم ، يعيشون فى انفصال وانفصام عن بقية أهل مصر، وقام فرعون بتقسيم أهل مصر ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) وإضطهد بنى إسرائيل الذين كانوا من قبل مقربين من الهكسوس: (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) . قوم فرعون هؤلاء لا شأن لهم بأهل مصر ، فأهل مصر أو أهل الأرض وقتها كانوا قسمين : أقلية وافدة كانت عزيزة ثم ذلّت وهبطت الى حضيض المصريين الفلاحين ، مع أنها عاشت وتمصرت وهم بنواسرائيل ،والقسم الآخر هم الفلاحون وبقية الشعب من بقية أهل مصر ، الذين كانوا ربما يشهدون أو يسمعون ما يحدث لبنى اسرائيل من ذبح للأطفال واسترقاق للنساء فيزداد هلعهم من الفرعون . لا يستطيع الفلاح المصرى الهرب ، ليس فقط لارتباطه بالأرض ، ولكن لأنه ليس مسموحا للفلاح المصرى بالهرب ، وهو قانون ظل معمولا به فى مصر حتى العصر العثمانى. ثم إن هذا الفلاح المصرى ـ رقيق الأرض ـ لا يستطيع مواجهة الآلة العسكرية لفرعون الذى كان القائد العسكرى والحاكم المركزى الذى تتجمع فيه كل السلطات حتى أصبح الاها حسبما ساد فى عصر الرعامسة . إذن تجمع الخطأ والخطيئة فى جانب واحد يحتكر القوة والسلطة والثروة،أو حسب تعبير رب العزّة عن فرعون : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ).
2ـ كان مستحيلا مواجهة طغيان فرعون بأى مقاومة بشرية ، أى كان لا بد من تدخل الاهى يجعل فرعون نفسه يتبنى موسى ليكون له عدوا وحزنا كما قال رب العزة : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )( القصص 7 : 8 ) . التخطيط الالهى هو اهلاك جزئى لفرعون وآله وقومه وجنده دون بقية المصريين ،وأن يرث المستضعفون المضطهدون من بنى اسرائيل ملك فرعون وقومه وثروته: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ). أى هو من البداية إهلاك جزئى يقع على الظالمين فى مكان بعيد عن أرض مصر الزراعية ، يقول جل وعلا : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(القصص 39 : 40).هلك فرعون وجنده ودمّر الله جل وعلا منشئاته وقصوره وورثهم بنواسرائيل المستضعفون: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )( الاعراف 136 : 137 ).
بمجرد ترك فرعون وجنده أرض مصر المزروعة فقد ملكيته عليها لأنها كانت ملكية بالغصب والقهر ، ثم تأكّد هذا بموته وجنده ، فورثها من بعده بنو اسرائيل :( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ )(الدخان 25 : 28 )( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء 57 : 59 ). تدمرت مؤسسات فرعون العسكرية والأمنية وقصوره المترفة ومعابده،بل وذلك الصرح الذى كان يريد أن يصعد اليه ليرى رب موسى.!( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)(الاعراف 137 ). ولكن بقيت المروج والجنات والزروع والمقام الكريم أى الأطيان الزراعية، وبقاؤها يعنى بقاء القائمين عليها أى بقاء الفلاح المصرى ، ملح الأرض الملتصق بها ( قبل أن يعرف الهجرة للأردن والخليج !! ).
3 ـ هلاك فرعون موسى هو نقطة فاصلة فى تاريخ الرسالات السماوية والاهلاك الالهى للظالمين . يقول جلّ وعلا فى ختام قصة فرعون :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص 40 : 43 ): يعنينا هنا حقيقتان : الأولى : إمامة فرعون وقومه لكل الظالمين المجرمين من بعده الى قيام الساعة:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، ولذلك يوصف المشركون اللاحقون بأنهم يسيرون على سنّة فرعون وعلى خطاه وعلى دأبه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(آل عمران 10 :11)(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ) (الأنفال 52 : 54 ).أى يسيرون على دأبه فيهلكون مثله ذلك (الهلاك الجزئى ) الذى يصيب الظالم وقومه . الحقيقة الثانية هى نزول التوراة كتابا سماويا فارقا عما سبقه بعد إهلاك الأمم السابقة التى انمحت تماما .
بين الاهلاك العام أو الجزئى وبين نزول معجزة حسّية
1 ـ قلنا إن الاهلاك مرتبط بوجود آية أو معجزة للتحدى ، إن جاءت الآية ولم يؤمن القوم بعدها فالهلاك هو العقوبة ، كما حدث لقوم ثمود وقوم فرعون . وبعد هلاك فرعون وقومه بقليل حدث إنذار بهلاد جزئى لبنى اسرائيل حين طلبوا أن يروا الله جلّ وعلا جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم أحياهم الله كى يعتبروا :( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( البقرة 55 ، 56 )، السبب أنهم طلبوا آية حسية هى رؤية الله جل وعلا جهرا ،أى لم يكتفوا بكل ما رأوه من آيات ومعجزات موسى عليه السلام وما حدث لفرعون . فكانت الصاعقة تنبيها لهم وتحذيرا . وفى عهد خاتم المرسلين ، عليهم جميعا السلام ـ طلب أهل الكتاب منه آية حسية ولم يكتفوا بالقرآن ، فقال جلّ وعلا يذكّرهم بما حدث لأسلافهم:( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا )( النساء 153 ).
2 ـ وجاء عيسى عليه السلام بمعجزات حسّية شتى لبنى اسرائيل ، فلم يكتف الحواريون بها وطلبوا أن تنزل عليهم مائدة من السماء، وألحّوا فى الطلب، وكان طلبهم بأسلوب سىء وفى صيغة غير مهذّبة :( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء)، سألوا عن إستطاعة رب العزّة إنزال مائدة من السماء ، كأن رب العزة لا يستطيع!!، ولم يقولوا ( ربنا ) بل قالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ).!!، وردّ عليهم عيسى يأمرهم بالتقوى إن كانوا فعلا مؤمنين : ( قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ، فألحّوا فى الطلب وعلّلوه وسوّغوه:( قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فدعا عيسى ربه جلّ وعلا أن يستجيب لهم (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ، ولأنهم يطلبون آية حسّية يرتبط إنزالها بالعذاب أو الاهلاك الجزئى عند عدم الايمان فقد قال الله جل وعلا لهم محذّرا ومتوعّدا: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة112 : 115 ).هنا تحذير لهم بعذاب غير مسبوق إن كفروا بعد إنزال المائدة .
مع اليمن و( سبأ ):
1 ـ اليمنيون القدماء أصحاب حضارة إبتدعوها من بين الصخور معتمدين على الأمطار وتخزينها ، متميزين بذلك على بقية الحضارات التى نشأت فى أحضان الأنهار فى مصر والرافدين والهند والصين . والعادة أن القصص القرآنى لا يذكر تاريخ كل الأنبياء ، ولم يذكر أسماءهم كلهم أو عددهم، وحتى فى القصص الموجود لا يذكر كل التفصيلات التى حدثت ، ولكن نستنتج سريان قواعد الاهلاك والتعذيب التى جاءت فى القرآن على الجميع .
2 ـ بالنسبة لليمن القديم جاءت إشارة لبعض الأسرات الحاكمة وهم التبايعة فى قوله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) ( ق 12 : 14 )، ونستنتج وقوع هلاك لقوم تبّع طالما تمّ إلحاقهم بمن سبقهم فى الهلاك . ووردت بعض تفصيلات لمملكة سبأ وملكة سبأ فى سورة ( النمل ) والتى نجت بقومها وضربت مثلا أعلى للحاكم الحكيم الحريص على قومه . ولهذا فلا موضع لها فى حديثنا عن الهلاك.
3 ـ وفى سورة ( سبأ ) جاءت بعض تفصيلات أخرى عن مملكة سبأ وعن هلاك جزئى تعرضت له ، يقول جل وعلا : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) ( سبأ 15 : ـ ). ومن تدبر الآيات الكريمة نفهم أن أهل سبأ عاشوا فى جنّات رائعة ، ولكن لم يشكروا النعمة وأعرضوا عن إنذار المنذرين ونصح الناصحين فسلّط الله جلّ وعلا سيل العرم فى إهلاك جزئى ترتب عليهم تدمير الجنات الرائعة واستبدالها بنباتات صحراوية فقيرة هزيلة . وبعد أن كانت المواصلات آمنة بين مدنهم انتهى بهم الحال بعد سيل العرم الى الهجرة وتمزيق ملكهم ، وهلاك معظمهم ونجاة فريق من المؤمنين . ومعروف فى تاريخ اليمن أنه بعد انهيار سدّ مأرب هاجرت قبائل من اليمن وحملت معها حضارتها ، ومنها من أقام فى يثرب ( الأوس والخزرج ) ومنهم من اقام بين الاردن وسوريا وأقام مملكة تدمر ، ومنهم من أقام مملكة الغساسنة جنوب الشام متحالفا مع البيزنطيين ، ومنهم المناذرة أصحاب مملكة فى جنوب العراق التى تعاونت مع الفرس . ومنهم قبائل أخرى مثل كلب التى تحكمت فى طريق القوافل الى سوريا وتحالفت مع الأمويين قبل وبعد نزول القرآن .
4 ـ ويحكى تاريخ اليمن سيطرة الفرس عليهم ، ودخول اليهودية ثم المسيحية ، والسائد فى التراث أن أصحاب الأخدود وإحراقهم قد حدث فى اليمن ، يقول جل وعلا : ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ). ولم يرد فى الآيات الكريمة ما يقطع بالمكان أو الزمان ، بل حتى لم يرد وقوع الاهلاك على الظالمين والانتقام منهم ، بل هناك إشارة الى إحتمال توبتهم بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ). ومعروف أنه إذا تاب القوم أو توقفوا عن الظلمقبلها فقد نجوا من الاهلاك . وهذا ما ذكره رب العزة عن قوم يونس ، الذين تابوا فنجوا من الهلاك التاموكان على وشك أن يدمرهم: (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) ( يونس 98)(فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )( الصافات 148 ). والطريف أن فرعون آمن وهو يغرق فما نفعه إيمانه:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقيل له : (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)( يونس 90 : 92 ).
5 ـ نفس الوضع فى قصة أولئك المهلكين ( بفتح اللام ) فى سورة الفيل : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ). السائد فى التراث أنه ابرهة الحبشى الذى كان يحكم اليمن والذى أراد هدم الكعبة ، وسار الى مكة بجيش وقابل عبد المطّلب ..الخ.وتنهى القصة بهلاك ابرهة وجنده وفيله الضخم بنفس ما جاء فى السورة ، وأن هذا أصبح ( عام الفيل ) الذى ولد فيه خاتم المرسلين حسبما يقولون . ولا نستطيع أن ننفى أو نؤكد هذه الروايات ، فليس هناك أى إشارة للمسجد الحرام فى السورة مع الحرص القرآنى على كل ما يخصّ الحرم البيت الحرام فى القصص وفى التشريع ، قبل وأثناء نزول القرآن الكريم . كما أنه لا يمكن القطع بأنهم قوم لوط بسبب التشابه الجزئى فى نوعية الهلاك ، لأن النسق القرآنى يربط قصة قوم لوط بما كانوا يرتكبونه وبذكر النبى لوط معهم ( قوم لوط ) ( إخوان لوط ) ، ثم لا مكان للفيل مطلقا فى هلاك قوم لوط ، ولا مكان للطيور التى كانت تحمل حجارة السجيل .
6 ـ نحن نجتهد من خلال النصوص القرآنية ، وليس لنا أن نتعداها الى الدخول فيما سكت عنه رب العزّة ، لأن المسكوت عنه غيب ، ولا يعلم الغيب إلا علّام الغيوب ، رب العزّة جل وعلا.