..وبكى محمد شمس..!!

آحمد صبحي منصور في السبت ١٦ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

السبت 16 فبراير 2008


وبكى محمد شمس ..!!
1 ـ فى المهجر ترى شخصيات غاية فى العجب ..لكنك قد لا ترى مثل محمد شمس.
ربما يكون الشخص الوحيد الذى إذا لعب كرة القدم تشاجر مع الحكم و أفراد فريقه وأفراد الفريق الآخر ـ بل ربما ينفعل ويقوم بالتسجيل أهدافا فى مرمى فريقه ليعاقبوه بالطرد .. ومع ذلك لا يستغنون عن مشاركته فى المباراة التالية ، ليس لأنه أمهر اللاعبين ولكن لأن اللعب لا يحلو بدونه.

هو الأهلاوى الوحيد المتعصب لفريق الأهلى الذى يسارع بالهجوم على فريق الأهلى وم&;دح فريق الزمالك إذا كان هناك أهلاوية متحمسين مثله يؤيدونه فى تشجيع الأهلى و الهتاف بلاعبيه.

هو المثقف الوحيد الذى ينجح بسهولة فى إقناعك بوجهة نظره فى السياسة أو الاقتصاد أو الدين فإذا إقتنعت استدار الى الناحية الأخرى وهاجمك برأى مخالف فلا تستطيع إفحامه ،ولا تملك إلا أن تلعن اليوم الذى عرفته فيه بسبب أنه يتلاعب بك بكل سهوله ، ويؤرجحك بين الشمال و اليمين.

هو الزوج العبقرى الذى تزوج وطّلق عدة أمريكيات بدون آثار جانبية ، زوجاته السابقات كن من أصول مختلفة وثقافات متعددة ، ولكن اتفقن جميعا على أنه أسوأ رجل فى العالم ، كل واحدة منهن كانت تلعنه أربعا وعشرين ساعة فى اليوم وسبعة أيام فى الأسبوع .. ومع ذلك فعندما يطلق إحداهن كانت تنفجر فى البكاء .. وتلاحقه بدموعها الى أن تيأس منه وتستعيض عنه برجل آخر .. ويظل هو كما هو ..صخرة لا تلين.. وقلبا لا يعرف الحنين..

فى عمله ـ فى شركة عقارية ـ يخطف الزبائن من زملائه ، فى الحقيقة لا يتعمد ذلك ، ولكن ماذا يفعل ؟ إحتار زملاؤه فى العمل معه ومع العملاء الذين ياتون اليه بالاسم ، ومع ذلك يسمعون منه الفجاجة فى القول والصراخ فى الحديث ، وربما أقفل سماعة التليفون فى وجه أحدهم فيعاود الاتصال به.. ويضرب زملاؤه كفا بكف وهم يجلسون فى انتظار عميل يتنافسون على إرضائه ، بينما ينهال العملاء والزبائن على محمد شمس وهو يعاملهم بقرف وتعال كأنه موظف حكومى مصرى .. ومع إن زملاءه يحسدونه و يغتاظون منه إلا إنهم لا يكرهونه ، بل عندما يغيب عنهم يفتقدونه ، ويبد المكتب شاحبا خاليا من دونه..

رئيسه فى العمل ـ وهو صاحب المكتب ـ لا يتوانى عن الشجار معه ، وهما يختلفان فى كل صغيرة وكبيرة ، وهذا الرئيس أسرع من البرق فى فصل من يعارضه ، ولكنه لم يفعل ذلك مع محمد شمس .. ومن الغريب أنهما زملاء منذ كانا فى التعليم الابتدائى فى حى الزيتون بالقاهرة ، ثم فرقت بينهما الأيام والتقيا وتعارفا بعد ثلاثين عاما فى واشنطن ، ولم يفترقا بعدها ، ولم يسكتا عن الشجار كل يوم فى العمل ، ولم يكفا عن قضاء السهرة كل ليلة فى القهوة المصرية فى أحد الأحياء القريبة من واشنطن.

محمد شمس أحد معالم تلك القهوة ، الى درجة أن معظم الرواد يعتقد أنه مالك القهوة. الركن الذى يجلس فيه محمد شمس هو الركن الملىء بالصخب و الحيوية ، هو الذى يشتعل بالمناقشات و الشجار حول كل شىء وفى اى شىء ، ومحمد شمس هو بؤرة الحوار وأساس الاختلاف وهمزة الوصل و نقطة الفصل .. ولو تغيب محمد شمس لظروف طارئة تحول الجالسون فى المقهى الى استرجاع ما قاله ، و الاختلاف فى شأنه بين مؤيد ومعارض ،أى تحول فى غيابه كما هو فى حضوره بؤرة الحوار و أساس الاختلاف وهمزة الوصل ونقطة الفصل .

2 ـ كل ما فى محمد شمس غريب ، ولكن أغرب ما فيه أنه الوحيد من رواد المقهى الذى يتعمد عدم حضور مباريات كرة القدم التى يلعبها الفريق المصرى فى المسابقات الدولية الأفريقية و العربية والعالمية. هو أكثرهم حضورا فى القهوة ، وهو أبلغهم حجة فى الدفاع عن هذا الفريق وذاك ، وهو أعرفهم بفنون اللعبة وخفايا اللاعبين .. والجميع يفتقده عندما يذيع تليفزيون المقهى تلك المباريات على الهواء، فيتجمع المصريون و يصرخون و يهللون و ينفعلون و يتفاعلون.. ما عدا محمد شمس الذى يغيب يومها ثم يغيب الأيام التالية حتى ينتهى الحديث عن المباراة.
فى مباراة الفريق المصرى مع ساحل العاج ـ فى كأس أفريقيا حضر محمد شمس وشاهد المباراة ، وكانت مباراة غير عادية تفانى فيها الفريق المصرى بكل رجولة امام فريق ساحل العاج القوى ، واستطاع أبناء الفراعنة الفوز على ساحل العاج بأربعة أهداف مقابل هدف واحد . اشتعلت القهوة بهتاف المصريين وانفعالهم ، ولم يلتفت احدهم الى محمد شمس.. عندما انتهت المبارة تطلعوا اليه كأنما تذكروه ،، وجدوه يبكى وقد احمرت عيناه .. وعندما انتبه لهم سارع بترك المكان وركب سيارته وانطلق تاركا خلفه العشرات من علامات الاستفهام ..

2 ـ الغريب أن أصدقاء محمد شمس ومعارفه يعرفون تفصيلات حياته فى أمريكا منذ جاء لأمريكا ، فقد أصبحت حقا مشاعا للجميع ، ولكن لا أحد يعرف عن ماضيه فى مصر شيئا.
شأنه شأن كثيرين من المصريين ـ اصحاب الحظ العاثر ـ وجد محمد شمس نفسه فى ليلة لا تنسى مقبوضا عليه . قيل له ان حضرة الباشا يريده فى كلمتين ، فصدق ، وخرج وهو يطمئن أهله أنها مجرد ساعة أو ساعات. ولكنه لم يعد لأهله إلا بعد سبع سنوات عجاف تعرض خلالها للتعذيب والاذلال والنكال دون أن يعرف بالتحديد المراد منه أو التهمة الموجهة له. كانت التهم تتغير ، وكان يعترف بكل تهمة ، وكان يوقع بامضائه ـ دون أن يقرأ ـ على كل ورقة يقدمونها اليه. ويتعهدون باخلاء سبيله ، ولا يوفون بالعهد إنتظارا لأوامر عليا بالافراج عنه .
وفى كل هذه المدة لم يعرف أهله طريقا للاتصال به ، ولم يجرءوا على البحث عنه فقد جاءتهم الانذارات باعتقال البنات و السيدات إن أبلغوا .. وجاءت نهاية الكابوس عندما تأكد لأصحاب الأوامر العليا أنه لاشأن له بالأمر ، وأنه مجرد تطابق أسماء وتطابق فى تاريخ الميلاد ، وأن المطلوب الخطير قد جىء به اليهم من بلد بعيد مقبوضا عليه مع الطلب باستنطاقه بالطريقة المصرية المعروفة و المشهورة . وذلك المطلوب الخطير سارع واعترف بكل شىء ، وأرشد عن بقية المطلوبين .
عندها فقط خرج محمد شمس من ظلمات السجن الى نور الشمس ..!!

3 ـ كان اسمه محمد احمد محمد احمد محمد ..ألخ ... وهكذا الى الجد العاشر ـ تقريبا ـ ، وهذه هى العادة فى تسمية المصريين ـ حيث يستحيل أن تجد مصريا مسلما يخلو اسمه الرباعى او الخماسى من محمد أو أحمد . وبالتالى فان هناك الملايين الذين يشاركون محمد احمد محمد ( محمد شمس ) اسمه ، وجاء سوء حظه أن أحدهم كان ارهابيا خطيرا ومطلوبا بشدة ، وحتى تكتمل دائرة سوء الحظ فقد كان لذلك الارهابى نفس تاريخ الميلاد. دفع صاحبنا المظلوم الثمن فلبث فى ظلمات السجن سبع سنين .
وعندما خرج الى النور حانقا على اسمه ورأى نور الشمس أسمى نفسه محمد شمس.

4 ـ فى ظلمات السجن كانت له تجربة غيرت حياته..
تحت وقع التعذيب كان يصرخ (لماذا ) .؟؟ فهو لا يعرف تهمته ، ولا يعرف أنه ارتكب اى جريمة او جنحة أو مخالفة لاى قانون حتى قانون المعاشات ..
كانوا يردون على صراخه (لماذا ) بالمزيد من التعذيب ، فخفت صوته بالسؤال ، ولكن ارتفع فى داخله نفس السؤال يوجهه الى رب العزة جل وعلا.. لماذا يارب يحدث هذا لى ؟ لم يترك السؤال حتى فى اوقات الراحة .. راحة زبانية العذاب من عملهم الروتينى فى تعذيبه هو الضحايا الاخرين..ثم عندما يئسوا منه وخففوا جرعة التعذيب البدنى و استبدلوه بالتحطيم النفسى و قتل الكرامة فى داخله ـ أصبح له متسع أكثر للحديث الاستبطانى مع نفسه ومع ربه جل وعلا.
بهذا السؤال (لماذا ) أبحر صاحبنا الى الفضاء الداخلى فى أعماق نفسه يسأل ، وتتفرع عن الأسئلة أسئلة ، وتتنوع الاجابات ، ويقارن بينها ، و يعطى الحجة والحجة المناقضة ، ويأتى بالدليل و الدليل المناوىء ، وكلما تعمق فى التفكر وكلما توسع فيه أدرك أنه كان أعمى وأبصر ، وأن حياته السابقة كانت وهما اشتغل بالظاهر فوقف عند حافة الوجود الحقيقى دون ان يدرك أن الحياة الحقيقية فى هذه الدنيا تكمن فى ذلك المحيط الداخلى للنفس حين تبدا فى الاجابة المنطقية على كل شىء لأسئلة متعددة أهمها على الاطلاق سؤال : لماذا ..
كلما تعمق فى محيطه أو فضائه الداخلى ارتفع صاحبنا وسما فوق معاناة جسده ـ وبعد أن كان يكره الجلادين و الطغاة أصبح ينظر اليهم من أعلا مشفقا عليهم مما يرتكبون من ظلم سيدفعون فاتورته فى الدنيا قبل الاخرة بينما هو ينعم بسلام نفسى إذ أوكل الى الله تعالى قضيته وامره ومستقبله مؤمنا بانه جل وعلا لا يظلم احدا مثقال ذرة ، وأنه جل وعلا ليس غافلا عما يعمل الظالمون ، وإنما يمهلهم ليزدادوا إثما ، وينتظرهم عذاب خالد شديد يستحقون عليه الاشفاق.

5 ـ الشىء الوحيد الذى كان يشعره بالعار هو ضعفه البشرى وصراخه وبكاؤه تحت التعذيب بينما يسخر منه الجلادون ويسبون أعز ما يملك من عقيدة ومن اقارب..بعد أن تعمق فى فضائه الداخلى واحس بالطمأنينة عزم بكل ما يستطيع ألا يبكى مهما عانى ، وإذا غلبه ضعفه البشرى فلا يدع أحدا يرى دموعه تجرى .. ووفى بوعده طالما ظل فى السجن .. فلما خرج ورأى نور الشمس ضغط بكل ما يملك حتى لا تندفع من عينيه الدموع ، ولكن غلبته دموعه ،فجدد العزم ألا يرى أحد دموعه أبدا.

5 ـ رجع الى بيته فلم يجد بيته . مات أبوه وماتت أمه .. وارتحلت أخواته البنات مع أزواجهن الى المجهول خوفا وهلعا .. قدم طلبا الى اللوترى الأمريكى واثقا أن الله تعالى سيعوضه عن الظلم .. وحدث فعلا أنه وقع عليه الاختيار.. فجاء الى امريكا عازما ألا يرجع الى مصر وأن ينسى ما حدث له فى مصر..
لكنه ـ محمد شمس ـ شأن كل مصرى مغترب ، لا يستطيع أن ينتزع مصر من داخله.
ولكنه ـ محمد شمس ـ يختلف عن الكثيرين لأن تجربته فى الظلم لا يتعرض لها الكثيرون لأن غوصه فى محيطه الداخلى وفضائه النفسى جعله متميزا عن الاخرين ومغتاظا من الاخرين.
كان يغتاظ من سطحيتهم المفرطة و عبادتهم لمعالم تلك السطحية ، من كرة القدم الى أخبار النجوم الى التعصب السياسى والانحياز الى زعيم ضد آخر. كان يرى ان كرة القدم مجرد لعبة تتقاذفها الأرجل ولا ينبغى للعبة أن تنال كل هذا الاهنام الذى يبلغ التقديس ، وفى فضائه الداخلى أيضا أدرك أن لعبة السياسة والتعصب لبشر من الزعماء ضد بشر آخرين من الزعماء هو مجرد صفحات فى أديان أرضية بعضها يتستر باسم الله ودينه السماوى و بعضها يرفع العلمانية و التفكير الحر بينما يقيد نفسه فى عبودية كاتب أو فيلسوف ،هو أيضا مجرد بشر. كان يحزن للقتلى الذين يتصارعون فى تبعيتهم لهذا الزعيم ضد ذلك الزعيم ، وأولئك الزعماء يتصافحون و يتنافسون على مكاسب شخصية ، ويتلاعبون ويتضاربون باولئك الأتباع المغفلين الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا رقيق القرن العشرين والحادى والعشرين .
حاول مع من يعرفهم فى المهجر ان يرشدهم الى الخوض فى فضائهم الداخلى ، حاول أن يدفعهم الى التفكير بعمق وهدوء وتركيز وتجرد فسخروا منه ، واتهموه بالجهل و العجز عن معرفة ما يعرفون من أخبار الأندية و الفن و الأدب و الممثلين والممثلات الأحياء منهم والأموات.
لذا دخل بهم فى جدال يتلاعب بهم ذات اليمين وذات الشمال ،ويتركهم فى حيرة فلا يستطيعون الرد ولا يملكون عنه الصّد لأنه أصبح ضرورة لهم ،إذ لم يجدوا مثله فى المروءة و الشرف وصدق الوعد والأمانة برغم تعنته معهم واستخفافه بهم .
عاشوا معه فى تناقض بين اعجابهم به و ضيقهم مما يفعله بهم ، بينما عاش هو أيضا فى تناقض بين حبه لمصر وحنينه لها وبين ذكريات الاهانة و التعذيب والظلم .
عانى من شعوره بالغيظ من أهله المصريين لأنهم لا يثورون على الظلم كما عانى من شعوره بالشفقة عليهم و القلق مما ينتظرهم .
غربته التى طالت وعائلته التى ضاعت لم تعطه فرصة للاستمتاع بالجنة الأمريكية أو الحلم بالغد (الأمريكى) . عاش حاضره فقط يتسلى على الآخرين ، ينقلب بهم من رأى الى رأى ، ويملأ الخواء الذى يشيع فى عقولهم بأفكار مختلفة متضاربة ، وكانت زوجاته الأمريكيات أكثر خواء وأكثر تعلقا بالسطحيات من الدنيا فكان يتقافز بكل زوجة يتزوجها ، من مشاعر الحب و الحنان ، الى الجفاء والحرمان ، وحتى لا يتسبب فى المزيد من إيلامها كان يبادر بالانفصال عنها فتشعر بالراحة من التخلص منه ، إلا أنها تعاود الحنين اليه وتسعى وراءه فتجده قد وقع فى شباك اخرى أو أوقع أخرى فى شباكه .

6 ـ فى تلاعبه بهم فان (محمد شمس) لم يكن مريضا نفسيا.. كان مدركا لما يفعل ، ويرى مايفعل تنفيسا عما عاناه. كان يحاول ألا يواجه الوجع الداخلى فى نفسه ـ وهو حب الوطن ـ حتى لا تغلبه نفسه .. ولكن تجمعت عليه آلام الغربة فوجد متنفسا فى البكاء ، كان يبكى من الحنين لمصر .. وكان يحرص ألا يراه احد فى هذا الحال..
ومن هنا كان يقاطع ـ رغم أنفه ـ المقهى عندما يحتشد رفاقه المصريون لمشاهدة الفريق المصرى وهو يلعب .
وأخيرا غلبه الحنين فحضر .. فغلبه البكاء شوقا لمصر..
وبكى محمد شمس ..!!

اجمالي القراءات 16960