1:نحن نقول أننا فى عصر العلم وإننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها وأوثانها..ولم يعد هناك من يعبد اللات والعزى ولا من يسجد لهبل..انتهى عصر الشرك إلى غير رجعة.
ولكنى أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد ونركع ونحرق البخور ونرتل التاسبيح والابتهالات فى كل لحظة لأصنام لاحصر لها.
نحن فى الجاهلية بعينها ولو تكلمنا بلغة الألكترونيات ولو مشينا على تراب القمر.
أنما اختلفت أسماء الأصنام..واختلف صورها ونوعياتها..وتسترت تحت ثياب الألفة..ولكنها هى الأصنام بعينها.
ماذا يكون جسد المe;رأة العارى اليوم..وهل هو إلا صنم رفعناه إلى مرتبه الإله المعبود المعشوق المرتجى.
لقد اصبحت صورة الجسم العارى ماركة مسجلة تروج لها أى بضاعة.
صورة المراة العارية هى تعويذة التاجر التى يرسمها على إعلانات الخمور والصابون والبيرة والكاميرات والساعات والحراير والأقمشة حتى أدوية الزكام وشفرات الحلاقة ومعاجين الأسنان.
وهى عامل مشترك فى أفيشات السينما والمسرح.
وهى على أغلفة المجلات وعلى كروت المعايدة وفى جميع الفاترينات بمناسبة وغير مناسبة.
وهى على علب الشيكولاتة وعلى علب البونبون وزجاجات العطر.
وإذا امتدت أيدينا صدفة إلى التلفزيون فأول ما يطالعنا هو إعلانات توقظ شهيتنا ومغريات لانحتاج إليها والذى يقدم لنا تلك المغريات قتاة جميلة صبية أشد إغراء من كل ماسبق تغمز وتلمز وتزاول فنون الإثارة بحرفية ومهارة لايراها المتزوج فى زوجته والعاشق فى معشوقته.
ونفاجأ بها فى إعلان سيارات تفتح لنا الباب وفى الطائرات تقدم لنا طبقا من الجاتوه مع ابتسامة..وإلى جانب مطحنة من البن تقدم لنا فنجانا من القهوة..بل وفى إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبنى بيتا جديداً..وهى دائما عارية او نصف عارية أو بالمايوه.
وفى مجال الفن حيث تتواطأ أغانى الحب وقصص الحب وتتآمر هى الأخرى لتنصب شراكا من الأكاذيب المنمقة الجميلة وترسى دعامات من الأوهام والأحلام الوردية والصور البراقة عن القبلة والضمة ولقاء الفراش ولذة العذاب وعذاب اللذة ولسعة الحرمان ودموع الوسادة وإغماء السعادة وصحوة الفراق ..وضباب ..وضباب.
ويقدم لنا تلك العروض فنانات يمارسن الأغراء بمهارة وحنكة وهن دائما بجسد عارى أو نصف عارى.
وكأنما لاوسيلة لجذب الأنتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد..ولاطريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن.
أنه الذكر والأبتهال والتسبيح العصرى تسفح فيه الدموع وتنشد الأشعار وترتل المزامير والأغانى والرباعيات والسبعيات وتؤلف المسلسلات والحلقات كل حلقة تشحذ الذهن وتثير الشهية المستمع والنتفرج.
والتيجة هى أن فسدت الفطرة وأزدادت الجريمة والشذوذ والجنس وأنحرفت الأخلاق ومات الخيال .
وشاعت الإباحية بأسم تحرير العواطف.
وأصبح كل فرد وخاصة الشباب يدور فى حلقة مغلقة يبحث عن اللذة والمتعة الجنسية بأى ثمن.
وهم بذلك يصبحون مثل النملة التى تسكن شق الحائط وتتجول فى عالم ضغير لايزيد عن دائرة قطرها نصف متر وتعمل طول حياتها عملا واحدا لايتغير هو نقل فتافيت الخبز من الأرض الى بيتها تتصور أن الكون كله هو ذلك الشق الصغير وأن الحياة لاغاية لها إلا هذه الفتفوتة من الخبز ثم لاشئ وراء ذلك..وهى معذورة فى هذا التصور فهذا أقصى مدى تذهب إليها حواسها.
أما الأنسان العاقل فيعلم أن الشق هو مجرد شرخ فى حائط والحائط لإحدى الغرف والغرفة فى إحدى الشقق والشقة فى واحدة من عشرات مثلها من عمارة والعمارة واحدة من عمارات فى حى والحى واحدة من عدة أحياء بالقاهرة والقاهرة عاصمة الجمهورية وهذه بدورها مجرد قطر من عدة أقطار فى قارة كبيرة أسمها افريقيا ومثلها خمس قارات أخرى على كرة سابحة فى الفضاء أسمها الكرة الأرضية والكرة الأرضية بدورها واحدة من تسع كواكب تدور حول الشمس فى مجموعة كوكبية..والمجموعة كلها بشمسها تدور هى الأخرى فى الفضاء حول مجرة من مائة ألف مليون شمس.
وغيرها مائة ألف مليون مجرة أخرى تسبح بشمسها فى فضاء لاأحد يعرف له شكلاً..وكل هذا يؤلف مايعرف بالسماء الأولى أو الدنيا وهى مجرد واحدة من سبع سماوات لم تطلع عليها عين ولم تطأها قدم ومن فوقها يستوى الإله الخالق على عرشه يدير كل هذه الكوان ويهيمن عليها من أكبر مجرة إلى أضغر ذرة.
كل هذا يعلمه الأنسان على وجه الحقيقة..ومع ذلك فما أكثر الناس أشباه النمل الذين يعيشون سجناء محصورين كل واحد منغلق داخل شق نفسه يتحرك داخل دارة محدودة من عدة أمتار داخل حلقة مفرغة من الهموم الذاتية تبدأ وتنتهى عند الحصول على كسرة خبز أو مضاجعة امرأة ثم لاشئ وراء ذلك..رغم ماوهب الله ذلك الأنسان من علم واختراع وادوات وحيلة وذكاء ورغم ماكشف لم من غوامض ذلك الكون الفسيح المذهل.
أكثر الناس بالرغم من ذلك قواقع وسلاحف ونمل كل واحد يغلق نفسه داخل قوقعته أو درقته ويجعل كل همه وسعيه هو الأرتواء من بحر الظمأ الذى يجرى بين ذراعى امرأة كلما شرب منه الشارب ازداد عطشا وكلما عب من عبا احترق احتراقا..يظن أنه يرتوى..فلا يرتوى أبدا ولايشبع أبدا ولايسكن أبدا .ولاينجو من البحر إلا من عصم ربك.
نعم أنهم أهل الغفلة وهم الأغلبية الغالبة فما زالوا يسعوا من أجل المرأة ثم لايجمعون شيئا إلا مذيدا من الهموم وأحمالا من الخطايا وظمأ لايرتوى وجوعا لايشبع.
والمصيبة أنهم يعتقدون بذلك العمل الفاحش الذى وصفه الله عز وجل بذلك أنهم قد نالوا حظا من السعادة ومفهومهم عن السعادة خاطئ جملة وتفصيلا.
أن السعادة فى معناها الوحيد الممكن هى حالة الصلح بين الظاهر والباطن بين الأنسان ونفسه والآخرين وبين الأنسان وبين الله..فينسكب كل من ظاهره وباطنه فى الآخر كأنهما وحدة,ويصبح الفرد منا وكأنه الكل..وكأنما الطيور تغنى له وتتكلم لغته.
أما الصورة الدراجة عن السعادة التى تتداولها الألسن عن شلة الأنس التى تكرع الخمر فى عوامة وحولها باقة من النساء الباهرات العاريات وأجساد تتخاصر وشفاة تتلاثم فى شهوة مشتعلة.
هذه الصورة هى حالة شقاء وليست حالة سعادة فنحن مع نفوس تركت قيادتها للحيوان الذى يسكنها وكرست حياتها لإرضاء خنزيز كل همه أن يأكل ويضاجع.
هى حاله عبودية..حالة غرق للإنسانية فى مخاط الحيوان اللزج.
2:لقد اعطانا الله الحرية ووهب لنا الشهوة ولكن لم يوهب الشهوة لنشبعها أكلا وشربا ومضاجعة..وإنما وهبنا الشهوة لنقمعها ونكبحها ونصعد عليها كما نصعد على درج السلم.
فالجسد هو الضد الذى تؤكد النفس وجودها بقمعه وكدحه وردعه والتسلق عليه.
وبقمع الجسد وردعه وكبحه تسترد النفس هويتها كأميرة حاكمة وتعبر عن وجودها ونثبت نفسها وتستخلص ذاتها من قبضة الطين وتصبح جديرة بجنتها وميراثها السماء كلها,ومقعدها الصدق إلى جوار الله,,وهذه هى السعادة الحقة.
وطريق الأنسان هو هذا الكدح خارجا من قبضة المادية إلى نورانية نفسه.
وهو دائما فى مكايدة دائمة من لحظة ميلاده يتأرجح بين قطبى جسده فى قلق لايهدأ وصراع لايتوقف..يصعد ثم يعاود الصعود ثم يعاود السقوط.
وكل منا على قدر عزمه وإيمانه.
وكل منا له معراج الكمال وحريته الكاملة.
3:ولقد ضرب لنا نبى الله يوسف أروع مثالا فى الصعود لهذا المعراج وفى حسن أستخدام الحرية التى وهبها الله لنا جميعاً.
فحينما رفع أكف الدعاء اللا الله مستنجدا من غواية النسوة قائلاً:(رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه).
فنبى الله يوسف كان يطلب حرية ولم يكن يطلب سجناً.
والمسألة نسبية..فما يحصل عليه من حرية فى زنزانة وهو مقيد اليدين والقدمين أكثر بكثير مما يتبقى لم من حرية ساعة شهوة..فحينما تجمع الشهوة لاتبقى لصاحبها حرية فهو لايرى إلا على مرمى ساقين ولايسمع الإ على مرمى شفتين ولايعى حكمة ولايبصر عافية ولايحفظ عهدا ولايرعى واجبا..وهو أعمى أصم مقيد الذراعين والساقين إلى حركة آلية وفعل لامعقول كل هرموناته ودمه وفكره وحسه ومواهبه فى خدمة هذه اللحظة اللا معقولة من الأشباع والفناء الذى يشبه السقوط فى هوة اللاشئ..وذلك منتهى السجن ومنتهى استنفاذ الطاقة واستفراغ القوة وإنهاك العزم وتبديد الهمة..ثم بعد ذلك إلا الخمول والبلادة والأسترخاء والرغبة فى النوم والرغبة فى عدم التفكير فى اللا شئ.
تلك الزوبعة التى تعصف بالدم وتطيش بالعقل وتذيب المفاصل وتأسر الحسد هى ذروة العبودية.
ولهذا قال النبى الله يوسف صارخاً:رب السجن أحب إلى من هذا الخضوع لهؤلاء النسوة..فالزنزانة ولاشك أرحب وأوسع من قبضة شهوة إمراة تسلل إلى النخاع وتعتصر المخ وتحجب العينين وتسد الذنين وتغلق منافذ القلب فلا يعود شئ فى الكون سمع إلا لهاث أنفاسها..فكأنما أصبحت المحراب والصنم والقبلة ومائدة القرابين.
والسجن هنا منتهى الحرية بالنسبة لهذا القيد الشامل المطلق وهو أرحب ألبف مرة لأى رجل فى كمال وعقل النبى يوسف يريد أن يصعد ويحلق إلى السماوات فلا شئ يساوى الحرية.
وأى لذة واى مقابل فورى مادى أو حسى لايساوى عقلاً طليقاً وخيالاً محلقاً وفؤاداً مرفوفاً ووجداناً طائراً وفكرا مهاجراً وقلباً مسافراً وأقداما ساعية لاتحد لحركتها حدود.
نعم لاشئ يساوى الحرية.
وأحسن استسمار للحرية أن تبذلها لوجه الله فتجعلها فى خدمة الحق والعدل والخير..فالعبودية للخالة تحررك من العبودية للخلق وتخلع الحاكمية من كل الذين حكموك فلا يعد يحكمك أحد ولايعود يحكمك شئ..بل تصبح أنت بحكم الخلافة عن الله حاكما عن الكل..وتصبح لكلماتك ربانية على الجميع ويطيعك البر والبحر والريح وتنقاد لك الشعوب ويستمع إليك التاريخ.
4:كيف تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟
يقول حكمائنا العظام:منذ ان تفتح عينك لتصحو حتى تغلقهما لتنام لاتعلق همتك بأمر من أمور الدون.
لاتنم على غل وتصح على شهوة ولاتسع إلى طمع ولاتسابق الا سلطة وإنما أجعل همك وأهتمامك فى الخير والبر والحق والصدق والمروءة والمعونة قاصدا وجه ربك الكريم على الدوام.
حاول أن يكون فعلك مطابقا لقولك,وسلوكك مطابقا لدعوتك..فإذا غلبتك بشريتك وهزمك هواك فى لحظة ..لاتيأس وإنما اسجد واستصرخ لربك..وقول:الغوث يارب...فيخرجك بيده من ظلمة نفسك إلى نور حضرته.
فإن كنت عمال الله فى الأرض وأحد سفرائه إلى قلوب الناس فإنه سوف يرحمك إذا أخطأت ويغفر لك إذا أسأت ويعيدك إلى الطريق إذا أنحرفت..وسوف يرعاك ويتولاك.
وتيأس مههما بلغت أوزارك ولاتقنط مهما بلغت خطاياك ..فما جعل الله التوبة إلا للخطاة وما أرسل الأنبياء إلا للضالين وما جعل المغفرة إلا للمذنبين وماسمى نفسه الغفار التواب العفو الرحيم الكريم إلا من أجل أنك تخطئ فيغفر.
جدد استغفارك كل لحظة تجدد معرفتك وتجدد العهد بينك وبين ربك وتصل ما انقطع بغفلتك.
وأعلم أن الله لايمل دعاء الداعين..وأنه يحب السائلين الطالبين الضارعين الرافعى الأكف على بابه..ويمقت الله المتكبر الذى يظن أنه أستوفى الطاعة وبلغ غاية التقوى وقارب الكمال..ذلك الذى يكلم الناس من عل ويصافحهم بأطراف الأنامل.
ثم بعد التوبة الاستغفار والتخلى عن الذنوب والتبرؤ من الحول والطول..يأتى التحبب والتقرب والتخلق والتحقق.
حاول أن تتخلق بأخلاق سيدك..فإذا كان هو الكريم الحليم الصبور الشكور العفو الغفور..فحاول أن يكون لك من هذه الصفات نصيب.
فإن غالبتك نفسك الأمارة..أسجد وأبكى وتضرع وتوسل وقل بين دموعك:يامن عطفت على الطين فنفخت فيه من جمالك وكمالك.
يامن أخرجت من الظلمة.
يامن تكرمت على العدم.
أخرجنى من كثافتى وحررنى من طينتى وخلصنى من ظلمتى وقونى على ضعفى وأعنى على نفسى..فلا أحد سوال يسطيع أن يعل هذا ياصانعى.
نعم أن الجهاد يطول فلا تتعجل الثمر..فكلما عظمت الأهداف طال الطريق..فلا تبرح الباب وأطل السجود وأدم البكاء ..فإنك لاتتطلب نيشانا أو جائزة وأنما تطلب وجه صاحب العرش العظيم.
تطلب رب السماوات.
تطلب العزيز الذى لايرام.
وذلك مطلب لايبلغه طالب إلا بعد أن يبتلى ويمتحن ويتحقق إخلاصه.
وكيف تصعد إلى السماوات إلا بعد أن تلقى بمتاعبك الأرض وأثقالك..ثم تلقى بنفسك الحيوانية من حالق..ثم تلقى بغرورك وانانيتك وشهواتك وأطماعك..تتجرد من دواعى بشريتك.
حيئذ تبلغ الحرية حقا..وتشاكل الأبرار والشهدا والقديسين والملائكة.
ذلك معراج يحتاج الى عمر بطوله وإلى زاد من التقوى والمحبة والطاعة وصبر على البلاء ولايقد على ذلك إلا آحاد.
ولهذا خلقت الجنة ولهذا خلقت النار.
صلاح النجار