واقع العرب الموازي

كمال غبريال في الثلاثاء ٠٥ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

يمكننا تقسيم نتاج الفكر الإنساني نوعياً إلى قسمين رئيسيين متقابلين، الأول هو الفكر المتسامي أو الطوباوي، ومصدره الأيديولوجيا، علمانية كانت أم ميتافيزيقية، ونستطيع تصوره كأنه منظومة تهبط علينا من علياء، تحوي شروطاً ومواصفات نموذجية مفترضة لحياة البشر وعلاقاتهم البينية، وعلاقاتهم ورؤيتهم لحقائق العالم المادية، ويسعى معتنقو تلك الأفكار لتطويع الواقع، أو صبه في تلك القوالب المفترض خيريتها، وقد يكون معيار الخير المستهدف بتلك الأيديولوجيات أرضياً بتحقيق سعادة الإنسان في حياته الدنيا، وقد يكون أخروياً يعد بفردوس سماوي فيما بعد هذه الحياة، ولا يمنع أن يلحق بهذا الهدف والوعد ولو بطريقة ثانوية وعود وآمال في حياة أرضية أفضل، لكن يظل الهدف الأخروي هو الأساس.
التصور هنا في هذا النوع من الفكر المتسامي أن الواقع الأرضي مجرد مفعول به، كأنه قطعة صلصال فائق المرونة، يشكل منه المثَّال -أي الفكر وحامله- ما يشاء من تشكيلات، مفترضاً بصفته الفاعل الأوحد مطلق الصلاحية والقدرة – مقدماً وإلى الأبد- أنها الصورة النموذجية فائقة الخير والجمال، بغض النظر عن النتائج المتحققة عملياً، والتي تنسب أي مساوئ تظهر فيها إلى اختلال التطبيق، أو تُعتبر ضريبة تُدفع في سبيل الوصول إلى الفردوس السماوي، وبالتالي يكون النموذج الأساسي المعياري بمنأى عن أي مراجعة، كجوهر ثابت عبر كل الأزمان ومختلف الأحوال.
يلزم بالطبع أن نتحفظ هنا، حيث ما ننسبه لذلك النوع من الفكر من انفصال عن الواقع الأرضي غير مطلق الصحة، فالواقع يكون دائماً حاضراً مهما حلم الحالمون، لكننا نستطيع القول بأن ذلك النوع من الفكر عموده الفقري متسام، ومفارق للواقع الذي يمكن تشبيه دوره هنا بكسوة من لحم لذلك الهيكل skeleton أو العمود الفقري، إذا ينتظم فيه الواقع وفق علاقات هذا النموذج المفارق، وليس وفق العلاقات الطبيعية المكتشفة والممكنة بين عناصره.
النوع الثاني من الفكر مصدره الاتجاه المقابل، أي الأرض بحقائقها الواقعية، وهو عبارة عن اكتشاف العلاقات بين تلك الحقائق، بغض النظر عن الخلاف حول ما إذا كان الفكر قادراً على الوصول إلى ماهية هذه الحقائق من عدمه، بل وبغض النظر عما إذا كانت لتلك الموجودات ماهية من الأساس، أو أنها مجرد تصورات العقل، كما قال بيركلي وإيرنست ماخ، فمن الأكيد أننا لا نستطيع بالأحاسيس المدعومة بالوعي إلا أن نتعرف على التأثيرات أو العلاقات بين الوقائع المختلفة، وأي طموح أبعد من هذا يفتقد إلى المبرر والجدوى المادية، بذات قدر افتقادنا إلى الآليات والقدرات العقلية اللازمة لتحقيقه.
هذا النوع من الفكر يكتشف العلاقات القائمة، ويسعى لتعميق اكتشافه بتحويله إلى صيغة رقمية، أي تحويل ما يرصده من كيف إلى كم قابل للقياس، كخطوة أولى ضرورية، ليتمكن بعدها من التحكم في تلك العلاقات، تطبيقاً لمبدأ "ما لا تستطيع قياسه لا يمكنك التحكم فيه What you can’t measure you can’t control"، كما يتمكن الفكر من استنباط وتوليف علاقات جديدة، يوظفها لإنتاج مخترعاته التكنولوجية، وهكذا يعين هذا النوع من الفكر الإنسان على السيطرة على مقدرات حياته، وعلى محيطه الحيوي الذي يتوسع مع الوقت ليتجاوز حدود كوكب الأرض، مخترقاً قلب الكون المظلم، والذي سبق أن نسج النوع الأول المتسامي من الفكر حوله الخيالات والأساطير.
بين هذين النوعين من الفكر اللذين ينتجهما الإنسان هوة واسعة، وقد بدأ إنتاج النوع الأول مع فجر الوعي الإنساني، وازدهر بعد ذلك بمعدل متسارع عبر أحقاب عديدة، فعملية إنتاجه كانت سهلة نسبياً، فلم تتطلب أكثر من سعة خيال لدى الصفوة، التي قد تنخرط في صفوف من نطلق عليهم تصنيف الفلاسفة أو الكهنة، ثم لا يكون مطلوباً بعدها من الجماهير إلا الإيمان والاستظهار والاجترار، وهو ما كانت دائماً مستعدة له ومرحبة به، ولم لا وهو يمنحها ما تحتاج إليه من يقين ليستقيم عودها في مواجهة أعاصير الواقع، ولا يطلب منها في المقابل فعلاً، أي كدحاً مرهقاً، أما النوع الثاني وهو الفكر المستخلص من الواقع الصلب concrete فإنتاجه أصعب من الأول بما لا يقاس، ورغم أن بداياته الأولى ممثلة في الفلاسفة الطبيعيين (قبل السقراطيين) كانت مبكرة (قبل القرن الخامس قبل الميلاد)، إلا أن صعوبة مساره أجل البداية الحقيقية والقوية لإنتاج ذلك الفكر حتى القرن السابع عشر الميلادي، لكن تلك المسيرة لم تتخذ قوة اندفاعها الكاملة بمجهودات القلة من محترفي العلوم المشهورين والرواد وحدهم، وإنما برفد تلك المجهودات بنتاج سعي الآلاف ثم ملايين البشر، الذين توجهوا نحو كوكب الأرض بكل موجوداته وأحيائه، ليكتشفوا أسراره ويفضوا مغاليقه، مجهودات ضخمة أو فلنقل هائلة، لابد وأن يصاحبها وعي قادر على استخلاص المعرفة كما لو كانت عروق ذهب في رحم صخور صلدة.
هذه المسافة أو الهوة بين نوعي الفكر قد فاقم من صعوبة عبورها كم الجهد ونوعية الوعي المطلوب من الشعوب التحلي بها، للانتقال من سيادة إنتاج واستهلاك النوع الأول من الفكر، إلى إنتاج واستهلاك النوع الثاني، هي السبب الأساسي إن لم يكن الوحيد، وراء تقسيم عالمنا إلى قسميه الرئيسيين: العالم المتقدم والعالم المتخلف، أو إن شئنا الفقراء والأغنياء، فبينما امتلك أهل الفكر الثاني مصيرهم بين أيديهم، وشقوا بسواعدهم ووعيهم طريقاً نحو الرخاء والتقدم الحضاري، بقيت الشعوب الأخرى عالقة في سماوات منظوماتها الفكرية المتسامية، بما تضمه من أوهام وأساطير، كانت وظلت هي كل ما تمتلك وتستطيع، وترتب على تلك الحالة غير المريحة لتلك الشعوب، التي نستطيع تخيلها عالقة في الفراغ، فلا هي استطاعت الانطلاق إلى السماوات، ولا استطاعت أقدامها الاستقرار على الأرض التي تجهلها، ويطفح منها العوز والشقاء، ترتب على تلك الحالة من القلق وعدم الاستقرار، أن قامت تلك الشعوب بإنتاج نوع ثالث من الفكر، تستعين به على سد الفجوة بين الفكرين أو بين العالمين، عالم الأرض وعالم السماء، فقام ذلك الفكر بإنتاج عالم مواز لا وجود له إلا في خيال أهله، يجمع بين صور العالم الأرضي، ليس كما هي في الواقع، لكن مرتبة ومنتظمة وفق الفكر المتسامي السائد، لتعيش الجماهير في ذلك العالم الموازي، بغض النظر عن أي حقائق وعلاقات موضوعية، وتلعب وسائل الإعلام العربية وفي مقدمتها القنوات التليفزيونية الدور الأكبر في تصميم وتصوير ذلك الواقع الموازي، بما يتوافق والآمال التي تتوق الجماهير أن تتحقق، ويتيح هذا لتلك الشعوب تخفيف أو إزالة قلق الشعور بالدونية، فترى نفسها خير شعوب العالم، وأن العالم الذي يظن نفسه متقدماً في سبيله عاجلاً أو آجلاً إلى الانهيار، وأن العروبة مثلاً تنتصر أو في سبيلها للانتصار بصمود نظام البعث الأسدي في سورياً، وأن فدائيي صدام ومجاهدي القاعدة قد مرغوا أنف الولايات المتحدة في التراب على أرض العراق، وأن نظام الملالي وأحمدي نجاد في طهران يقفون كالأسود في مواجهة العالم الغربي المرتعب من قوتهم وصمودهم!!
ولأن منظومتنا المتسامية تضع الآخر في موقع العدو الذي يحق لنا استباحته وإذلاله، نرى في عالمنا الموازي أن جميع الدول والشعوب لا هم لها إلا تدبير المؤامرات لنهب ثرواتنا، ولإضعافنا وإذلالنا والحيلولة دون وحدتنا، ونرى انشقاقاتنا الداخلية لا ترجع لعوامل في بنياننا، وإنما كجزء من المؤامرة الكبرى علينا، أما بنياننا ذاته فطبقاً لأفكارنا المفارقة للواقع بنيان سليم ونموذجي، جدير بأن يأخذه العالم عنا، وحتى ما به من شوائب أو اعوجاج هو نتيجة حيود حكامنا وبعض منَّا عن نموذجنا الرفيع، ونتيجة لتأثرنا بالآخر العدو ومحاكاته في حياته، كما هو من قبيل الغضب السماوي علينا لتراخينا في الالتزام بخطنا المستقيم.
من ناحية أخرى واستمراء لنهج نسج عالم مواز، والاستمتاع بالعيش في رحابه، تقوم مثل تلك الجماهير وصفوتها بفهم أو قراءة حقائق الواقع وأحداثه عبر مناظيرها الأيديولوجية المتسامية، فتكون أعمال القتل التي يمارسها شبابنا نضالاً في سبيل الوطن، أو جهاداً في سبيل الله، وتكون ملاحقة هؤلاء الإرهابيين واعتقالهم أو قتلهم أعمالاً بربرية وحشية وجرائم ضد الإنسانية، ويكون آلاف القتلى من العراقيين هم ضحايا القوات الأمريكية التي تمارس الإبادة ضد الشعب العراقي، وتكون منظمة القاعدة والمسلحون المتسللون من كافة الدول العربية لممارسة القتل على الهوية وبدون هوية في العراق هم المجاهدون في سبيل العروبة وفي سبيل الله، بهذا يكون جورج بوش مجرم حرب، ويكون بن لادن وصدام والأسد والرنتيسي وأحمد ياسين وخالد مشعل وإسماعيل هنية هم أبطال هذه الأمة وطليعتها المجاهدة المناضلة، ويكون الحكام العرب المتعقلون والساعون إلى السلام والاستقرار هم خونة هذه الأمة، وهم انبطاحيون وعملاء ومرتدون، إلى سائر قائمة السباب والتهم الجاهزة لكل من لا يستجيب لأحلام الغوغاء ومحرضيهم، ويكون قطع إسرائيل لتمويل غزة بمقومات الحياة جريمة ضد الإنسانية، فيما إطلاق حماس للصواريخ على سكان إسرائيل المدنيين حق مقاومة مشروع، لاحتلال لا ننتبه إلى أنه لم يعد قائماً في قطاع غزة، ويعوزنا الوقت واتساع المجال للاستمرار في تعداد أمثلة وملامح العالم الموازي، الذي خلقته شعوب شرقنا الأوسط، لتهرب إليه من ضغط القلق والإحباط والشعور بالدونية، وهو ما ترتب على ما وصفناه بحالة شعوب عالقة ما بين الأرض والسماء.
عالمنا الموازي إذن يتشكل من صور مطابقة لأفكارنا الطوباوية، مختلطة بصور نضالنا وجهادنا ضد القوى الشيطانية المناوئة، عالم من صنع أفكارنا، لا يربطه بالعالم الواقعي سوى اليسير من التشابهات، المنخرطة في منظومة مفارقة تماماً لمنظومة العلاقات الواقعية، التي تسود الكوكب الذي نسعى على ثراه.
لا نظن بالطبع أن حل ابتكار العالم الموازي قد وفر بالفعل لتلك الشعوب مهرباً من مأزقها النفسي، بل ربما يؤدي مع الوقت إلى تفاقمه، كما لا يمكن لهذا العالم الموازي أن يوفر حلاً للمأزق المادي الحضاري، إذ تظل تلك الشعوب رغم تصوراتها وأوهامها في حالة عوز واحتياج دائم، أو حالة تسول لمقومات حياتها من شعوب العالم الآخر، حتى لو مارست تسولها تحت شعار "حسنة وأنا سيدك"، الذي ورثته المنطقة من أيام الاحتلال العثماني، والذي كان في الماضي على سبيل التندر على المحتلين الأتراك، الذين يشحذون ويتسولون من أهل البلاد، وفي نفس الوقت يتعالون عليهم، وليصبح هذا النهج الآن لسان حال الأمة العربية في تعاملها مع العالم المتقدم والكافر في نفس الوقت، وعنواناً بارزاً في العالم الموازي الذي تحيا في أبهائه السعيدة!!

اجمالي القراءات 11031