مخيرا ام مسيرا..؟!!

محمد حسين في الأحد ٠٣ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

من اليسير ان يتيح شخص ما لنفسه المجال لسرد ورص المبررات لدى البعض ، و التى يظنها كافية حتى يقنن فعلا ما قد أتاه ، ومن منطلق هذا يبدأ فى تقديم اوراقه ومرافعاته للدفاع عن نفسه حيث يضطر الى ذلك. غالبا ما تكون تلك المبررات اخلاقية او عاطفية ، او يكون الانسان لديه نزعة متسلطة على الذات الالهية فيقول هى من عند الله "ربنا عايز كده" . ولا يقف الانسان وحده متفردا فى هذا الامر ان كان بتلك الصورة ، وانما هذا الانسان كفاعل له بيئة ومجموعة من الموروثات والعادات التى تحف الاخرين ممن يق&Yacacute; لديهم مسئولا او النظارة ، والتى تتسم عقولهم بتبنى نفس المنطق الذى يتيح اليه الفرصة لمجرد حمل غبار فعله لينفضه على مبرر ما. اعنى انه اذا كان حاضروا المسائلة او النظارة هم اولئك الذين يمتلكون العقلية التى ترفض تلك النوعية من مبررات الافعال لما اقبل من يسأل –هذا الشخص- لمجرد التفكير او النحو الى هذا المنحى من تحميل المسئولية على عاتق المبررات بدلا منه ذاته.
ولآخذ مثالا قبل الاسترسال فى الامر حتى يتسنى لنا ان نقف على ارض ثابتة بدلا من ان ندغدغ ادمغتنا على صخور محاولة الفهم. فعلى سبيل المثال ، قانونا كقانون مراعاة الحالة النفسية لقاتل زوجه حين اكتشاف خيانتها ، هو احد المبررات التى تفترض وجود الشخص خارج نطاق عقله وكأنه بهيمة من الانعام التى تعقل اكثر منه ، والتى تقنن فعله ، فتجعل الامر يسيرا عليه ان يبدأ بسرد المبرر قبل ان يعترف بمسئوليته عن وقوع الفعل ، ذاك ان القانون والعقول المحيطة به تقبل بهذا الهراء سابقا ، ثم تتبع ذلك من تعاظم الامر فيبدأ بتوزيع المسئولية هو والمحيطون على كل ماهو خارج عن ارادته –ليس فى هذا الموقف فقط بل وايضا فى مواقف مختلفة- حتى تتعدى الى ان تصل حدود ارادة الله. وكأن الانسان عبارة عن "كومودينو" وليس عقلا مسئولا عن ذاته وعما يفعله.
ولو كان الامر غير ذلك وان البيئة المحيطة تعتبر الانسان بما يختار فعله وما يفعله ، لما وجد داخل وجدان هذا الشخص ما يجعله يقدم على تبرير الفعل ايا كان فظاعة الفعل وفجاجته ومن ثم النتائج اللاحقة به.
وهنا اعتقد اننا يمكن ان نمسك طرف الخيط الذى قد ينحو بنا نحو معرفة ما آل اليه العقل داخل مجتمعات بعينها.
الشخص عندما يفعل شيئا يجب ان يكون نابعا من اختيار تقوم ركيزته على عقل له الحرية فى التفكير ، حتى وان كان يظن هذا الشخص انه يفعل ذلك رغما عن اختياره ، فمراد الاشياء الى اصلها تعرف الاشياء. فعلى سبيل المثال ، ان الانسان عندما يحتار فى امر يذهب الى شيخ ما بعينه كى يسأله ، او لرجل دين عموما ، قد سبق وان قرر فى نفسه انه ذاهب لسؤال هذا الرجل –اعنى رجل الدين- بذاته دون سواه ، فهذا فى حد ذاته له واقعان ، اما انه يعلم نوع الاجابة مسبقا والتى سيسديها له رجل الدين هذا او انه يعلم وان اراء هذا الرجل تتفق واهوائه وفى الحالتين تتفق ومعرفته الاجابة مسبقا. فيظن دون علم وهو متكئا على عصاة الانسلاخ من المسئولية انه بمجرد الاجابة او النصيحة واتباعه لتلك الاجابة يكون حسابه ان اخطأ الفعل -الناتج عن السماع الى النصيحة- على المدلى بتلك النصيحة او الاجابة ، وهذا فى حد ذاته لغط واسفاف. حيث انه باختياره لرجل الدين هذا بعينه يكون قد قام بالاختيار والوقوع فى المسئولية ، حتى لو رفض اثناهما الاعتراف بذلك ، فلو كان السائل عاقلا لكان من دواعى الذاتية ومسئوليتها ان يسأل غيره ثم غيره ثم يبحث وراء الاجابة بعقله وبالمنطق ، ذاك انه من المفترض ان يأتى بالفعل الصواب القائم على اختياره وادراكه للامور ، فالمسألة من المستحيل ان تقف عند الادلاء الاجابة او الاسداء بالنصيحة والا انتفت معايير واسباب وجود الحساب واصبح فى طيات اللامعقول والعبث. ومن هنا لا يتسنى ان نظن ان الانسان غير مسئولا بذاته وعن ذاته وعن مجموع ما يفعله ، لانها محصلته شاء ام ابى تكوينه العقلى لهذا الواقع وهذه الحقيقة ، حتى ولو كان ما يفعله مبنيا على نصائح الاخرين او توجيهاتهم ، وحتى لو تدخلت المبررات ذات النزعة العاطفية فى اروقة ما يفعله ، فالمحصلة ان مجموع ما يفعله هو اختيار مهما اختلفت الماهيات والاشكال.
ثم امتطى بنفسى جواد الزمن حتى اعود الى الوراء عبر الزمان البائد ، غير قاطع للصلة بين عقل الان وواقعه والتى هى موضوع ما اسرده هنا. اقول اذا عدت بالزمن حتى اخذ مثالا نعيشه ونحياه رغم خمرته ، والقى الضوء على الموروث الذى عصف بكيان ذاتية الانسان ، وانتقى منه ما يقال عن السن والتسنين "التقنين" ، وهو قول مشهور مفاده انه من عمل او سن سنة حسنه فله اجرها واجر من عمل بها ومن فعل العكس فعليه وزرها ووزر من عمل بها. وانا اتهم تلك المقولة ايا كان قائلها مهما بلغ من المكانة بشرا كان او قديسا "كما يرتأى لهم" بأنه ساعد وعمل على انفلات طبيعة الذات المسئولة ، فالذات الفردية هى وحدة كيان مجتمع يفرز افرادا مسئولة . فكما ذكرنا دون الحاجة الى التفصيل مرة اخرى ، ان مجرد العمل والموافقة على نصيحة او سنة فهى اختيار شخصى بالعمل بتلك النصيحة ، وحقيقة ان الفرد الغى عقله وذاته باتباعه للاخرين لا تنفى عنه المسئولية ولا الاختيار ويتحملها –اى المسئولية- ايا كانت العواقب ، فبمجرد انى قررت الغاء عقلى فهو فى حد ذاته اختيار.
واستشهد بمثال "ولا افرض الصحة المطلقة لما اقول لاحقا" ، انه اذا كان الشخص بوذيا فلن يسمع الا الى نصيحة وتوجيه رجل دين بوذى مثله ، والمسيحى كذلك والمسلم كذلك واليهودى ..الخ ، وبمجرد فرض هذا فان هذا فى حد ذاته يعتبر التزاما ، لان الشخص ايا كانت ملته او توجهاته قد اختار بنفسه اين يذهب واين يسأله بل وقد اختار من يوجهه ، اذا فهو مسئول. وتكون المبررات التى تقبلها تلك النوعية من العقول حين المسائلة "هم قالوا لنا نحن متخصصون واهل ثقة وعلم" ونسوا –فى حالة المسلم- انه "كل انسان الزمناه طائره فى عنقه".
قد تسألنى فى علم الاقتصاد او الطب واسدى اليك نصيحة ، ولكن لن ينتهى الامر عند هذا ، فواجبك ان تبحث ورائى قدر استفادتك من الامر والى اى مدى افضت بك حاجتك الى السؤال فى هذا الامر بالذات ، كشراء اسهم مثلا او الما فى الاسنان ، فى تلك الحالة لن تكون مطالبا بالبحث فى كل علوم الاقتصاد او الطب ، وانما البحث وراء النصيحة فيما يهمك حتى يكون الاختيار سليما لانك وقعت فيه عندما ذهبت فى هذا الامر بعينه الى هذا الشخص بعينه –كما اردفنا سابقا- وحتى اذا اخترت الطبيب فى معالجة ضرسك الملتهب فبهذا قد وقعت فى المسئولية بقدر هذا الاختيار. ومع ذلك فالامر مختلف فى الدين ، فتبعيات ما قد يحدث لك شخصيا فى مسألة وجع الاسنان ستكون اضراره بالتبعيات التى ستلحق بك والمضاعفات ، اما فى مسألة الدين فغالبا ما قد تؤدى الى خسارة جمة قد يكون الفصل فيها عذابا او نعيما ، فهنا تشتد حمأة الامر. وهنا تقع المسئولية الكبيرة على عاتق الفرد بالدرجة التى تنفى معها الاستشهاد باى مدل او مسد بالنصيحة ايا كان فى صيغة تبريرية لما تبع عملية التوجيه النصائحى من توابع.
وهنا اقود نفسى الى مشهد اخر ونتيجة اخرى ، وهى صيغة الحكم التى امتدت عبر السنين بماهيتها وهيأتها رغم اختلاف اماكنها وشخوصها ، ولاركز على الحاكم الاله ، او ظل الله فى الارض كما كان يحدث ، ولم يزل –وقد يقول البعض اننا لا نؤله الحاكم ، فاقول: العبرة بما تفعله ونتائجه وليست بما تقوله ، فلتقل ما تشاء ويبقى فى النهاية نتاج الفعل- ، اقول ولم يزل الحاكم الاله ، لم يكن ليظهر مرة واحدة بهذه الصورة ، وانما كان من خلفه رجال دين –ولا يزالوا- ، وبموافقتنا على قدسية رجال الدين ، سواء ان كانوا اثرا ام واقعا ، واقتناعنا بانهم يحملون المسئولية عنا ، ايا كانت ملة الشخوص او رجال الدين موضوع المثال ، هو فتح بابا باختيارنا لظل الله حتى يستخدم رجال الدين ويشرع بهم ، ويستخدمه رجال الدين ويشرعون له ، فتصير علاقة نفعية يشترك فى المسئولية عنها الفرد المحكوم بتلك الطريقة الثيوقراطية ، لانه منذ البداية اختار هذا الوضع لنفسه واختياره لهؤلاء بالذات ، فبينما اراد لعقله المغيب ان يعتقد بانه مظلوما وغارقا فى الظلم ، يكون هو مسئولا من كل النواحى عن هذا الوضع وجزءا لا يتجزأ من المسئولية.
وهذا دون الدخول فى تفاصيل فرضية ان رجال الدين من الممكن ان يكونوا متواطئين مع من لا يصح التواطؤ معه ، سواء ان كان عدوا او حاكما ظالما ، ذاك ان هذا عبثى المنحى لاننى كمسلم لا يوجد لدى ما يسمى رجال الدين ، فالامر مرفوض برمته من المصدر ، فلا عمة عندى ولا قفطان ولا مجال لذقن او سبحة.
وهذا ما قد يساعد فى فهم او تفسير لماذا لم يتم رواج بضاعة الفلاسفة من المعتزلة والوجوديين ، على سبيل المثال لا الحصر ، لدى البعض بل لدى السواد الاعظم من الدهماء وعامة الشعوب ، لان ما حملوه على مسئولية الفرد كان ولا يزال صدمة لضمائرهم التى اخذت فى سنة ، فهؤلاء ينادون ويؤكدون على المسئولية الفردية ووقوف الفرد بذاته مسئولا عن تصرفاته وافعاله واختياراته قبل اى شئ وايا كانت ماهية الفعل المسبوق بالاختيار. وهذا ما لم يلق استحسانا لدى العامة من الدهماء والجهلة من ناحية ، ويخيف بها المتسلطون شعوبهم من ناحية اخرى بدعوى التكفير تارة ودعوى الالحاد والضلال تارة اخرى . فلا يريد الفرد ان يعلم انه مسئول بالفعل ، ولو انه حدود المسئولية قد رسمت فردية وايقن كل شخص انه فى النهاية قد اختار منذ البداية فاصبح مسئولا وملتزما عما يفعله وعما يجنيه من محصلة افعاله لما وجدنا على سبيل المثال تهافتا على سلطان ايا كان نوعه ، ففى ممجتمع يعى الفرد فيه ذاتيته ستكون السلطة فى هذا المجتمع امتيازا لا حقا كما يعتبرها السواد الاعظم.
وعلى مر التاريخ البشرى لم تذهب الصيحة بحكام فقط ، وانما فى غالب الامر ان لم يكن كله تعصف بالرعية ايضا ، ذاك انه من السفاهة ان يظن ان الحاكم الموصوف بالظلم لم يأتى فى قوم يعقلون ، فهو يرفع او يصل الى مكانته او سلطانه –ايا كان ذلك السلطان- كنتاج على شاكلة محكوميه ، وعندما يأخذ موضعه لا يسمح بل ويعمل جاهدا على منع اى صيغة او فكرة تتيح للفرد معرفة حقيقة انه مسئول وذو اختيار منذ البداية وحتى النهاية. قس على ذلك ماهية الحكم او السلطة ، سياسية كانت ام اجتماعية ام دينية ...الخ ، المهم فى هذا ان المنبع هو اهمال الشخص واعتقاده بعدم مسئوليته وانه اختار.
وهذا ما جعلنى اؤمن شخصيا بان الانسان مخير ، مسئول فى الدنيا لمن يؤمن بالدنيا فقط ، وفى الاخرة لمن يؤمن بها فقط ، وفى اثنتيهما ان امن بهما معا ، فالمحصلة فى النهاية انه يختار اذا فهو مسئول ، بل وستكبر المسئولية لتأخذ ابعاد الالتزام بما هى محصلة افعاله ، والتزامه تجاه افعال الاخرين فى بعض الاحيان.
ولا نستثنى ايمان الانسان او اعتقاده من هذا الاختيار ، ايا كان هذا الاعتقاد او الايمان ، بنظرية كانت ام ملة ام ديانة ، فمن المفترض بل ان المحصلة هى قائمة على اختياره لاى من هؤلاء بالافضلية على نظائرها ، وهى المشيئة فى النهاية "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ، فأى شخص يفرض صحة ما تم زرعه فى عقله وشب عليه ومن ثم ما يترتب عليه من افكار او ايمان قبل ان يعقل الاشياء لهو نوع من العبث ، ان لم يكن العبث فى ذاته ، واحد نقائص الايمان ان لم ينتفى فى تلك الحالة ، فالعملية تصبح تقليدا والغاءا للعقل مع عدم انتفاء المسئولية لانه اختار الغاء عقله فى البداية ، ذاك ان الايمان ليس له قواعد ولا اسس فرضية ، وانما يبدأ بالشك ويكون اخر مراحله. عى سبيل المثال ، رؤية الاشياء بالعين المجردة ، لا تعنى بالضرورة اجتياز الذات لمرحلة الاختيار ، وانما هى بداية لاعمال العقل الذى يحلل ما نراه ، حتى اذا ثبت صحتها داخل طيات هذا العقل يفترض القيام بعدها ، كخطوة لاحقة ، بتحليل كل ما هو ملحق به ولا يرى بالعين المجردة. ولننحو منحى اكثر بساطة ، ولنأخذ مجال الاديان مثلا ، فهو مجال يفترض ان ممثلوا الاديان من كتب ماهى الا بضاعة ذات صفة مرئية بالعين المجردة ، يأتى الانسان ويلقى نظرة ثم ياخذ القرار "ويختار" ان يفتح كتابا من تلك الكتب ، ويبدا البحث عن الملموس فيه والذى بدوره هذا الملموس شيئا مرئيا خاضعا للتحليل. فالقرآن مثلا فيه مواضع قال عنها الله "تلك آيات الله" تسترسل معها النظرات فيحللها العقل جاهدا ليثبت صحتها ام عدم صحتها ، ففرضا انه ثبت صحتها جاء دور الاقتناع بما هو موجود فيأتى دور المنطق ومنطقية الاشياء فى ما لا يرى بالعين المجردة او الملموس ، كحوادث التاريخ مثلا. فما ان يصح الثابت تصبح النتائج والنظريات المترتبة على ذلك مقبولة عند حد ما ، غير انها تظل خاضعة للبحث المنطقى والعقلى ان شاء الذى اختار ، منها من يظهر عبر الزمان وعبر البحث كأثرا من الاثار "كشق القمر مثلا" فيضيف الى قواعد الايمان رشخا جديدا يرسخه.
وبالتالى ان جاء احدهم وبدأ فرضيات ايمانه مثلا بمعادلة غيبية كان يقول انى امنت بالقرآن لان محمدا كان بطلا او شجاعا او صادقا امينا فهذا مراده العبث ، بل ومنطقيته لا ترقى الى العبث ، لانه ببساطة لم يرى محمدا حتى يجزم بشجاعته بل ووجوده فى الاصل ، وما يترتب عليه الايمان على حساب ذلك. ايضا على نفس المعيار يقاس كتابا كالانجيل ، فيأتى شخص يقول امنت به لان عيسى قد صلب وضحى من اجل البشرية ، فهذا منطق غير مقبول لانه ببساطة لم يرى عيسى ولم يشهد صلبه حتى يجزم بفرضية ايمانه القائم على تلك الواقعة.
هذا وما يترتب عليه هى فى الاساس اختيار ، اختيار بحت من الانسان سواء ان رضى باعمال عقله ام لم يرضى ، ولكنه فى النهاية مسئولا عن اختياره ولا يصح ان يلقى بمسئوليته على الاخرين لجهل او تكاسل عن ايقاظ ذاته الاختيارية ، يجوز ان يشترك فى المسئولية ولكنها لن تنقص من حجم المسئولية فرادا.
الانسان يختار ، اساسه الاختيار وهو ملتزم بهذا الاختيار ايا كانت ماهيات الافعال ومحصلات الاعمال ، فهو من سيسأل "بضم الياء" عن البرهان وسيؤتى فرادا وسيطالب "بضم الياء" بان يدعو شهداءه ان كان صادقا.

وللحديث بقية

اجمالي القراءات 11296