سلسلة دراسات قرءآنية
الدرس الرابع
متابعة القاء الضوء على القواعد والمبادئ التى بنى عليها القرءآن
بسم اللــه الرحمـن الرحيم
القاعدة الثالثة: ما فرطنا فى الكتاب من شيئ – وتبيانا لكل شيئ
الدين الاسلامى منهج حياة ويحتوى هذا المنهج على كل ما تحتاجه البشرية فى الحياة الدنيا والآخرة. القرءآن الكريم يحتوى على الغاية الأسمى التى تهدفها الانسانية، فقال س&Egrate;بحانه عن هذا المنهج – القرءآن الكريم – " يهدى الى الحق والى صراط مستقيم " وقال تعالى " ما فرطنا فى الكتاب من شيئ " ولم يكتفى بأن لم يفرط فى هذا المنهج من شيئ إلا وقد بين هذا الشيئ تبيانا فقال " وتبيانا لكل شيئ " فان هذا المنهج أساسه ان اللــه لم يفرط وبين كل شيئ، كل شيئ نحتاجه فى الحياة الدنيا والآخرة .. فهو الحق.
فنجد أن هذا المنهج يحتوى على العقائد الدينية والأخلاقيات والقوانين العملية، ولا نرانا بحاجة الى سرد كل الآيات فى هذا المجال، ولكن شيئ من التفصيل المختصر نجد أن بدقة النظر فى النقاط التالية توضح لنا مدى اشتمال القرءآن على كل شيئ التى لا بد من توفره للانسان. فالقرءآن ذاته يوضح ويبين اشتماله على حقيقة شرائع الأنبياء يقول:
" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى..." والقرءآن لا يمكن تحديده بوقت من الأوقات أو زمان من الأزمنة، والقرءآن ينص على تمامية كلامه فيقول " انه لقول فصل وما هو بالهزل ".
الأعمال التى تصدر من الانسان لا تكون الا فى اطار وأنظمة هذا المنهج. ذلك وأن الانسان الذى له نصيب من العقل لا يعمل شيئا الا بعد أن يريده، فعمله صادر عن إرادته النفسية. فإن الارادة النفسية هى المنبع التى يدرك كل هذا وقد عنى القرءآن بالنفس وتهذيبها ووضع لها القوانين وارشدها الى الطرق المؤدية الى النجاح وان هذه النفس مخيرة لأن اللــه سبحانه حين خلقها الهمها فجورها وتقواها.
فاذا لابد للانسان من هدف خاص فى أعماله الفردية والاجتماعية ولا مفر من تطبيق أعماله لقوانين واداب خاصة منبعها الوحيد هو هذا المنهج.
ان أى انسان عارف باللغة العربية بامكانه ان يدرك معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كل قول عربى. فان اللــه جاء يبين ءاياته ويفصلها فنجده يخاطب فى كثير من الآيات طوائف خاصة كبنى اسرائيل أو المؤمنين أو الكفار وعندما يريد مخاطبة عامة الناس فيقول ياايها الناس، وغيرها من الآيات الكثيرة فى هذا المنهج.
وبديهى انه لا يصح التكلم مع الناس بما لا مفهوم واضح عندهم كما لا يصح التحدى بما لا يفهم معناه " أفلا يتدبرون القرءآن أم على قلوب أقفالها " معنى ذلك .. ان هذا المنهج البين لكل شيئ والذى لم يفرط فى شيئ نحتاجه فى الحياة الدنيا والآخرة، لابد من ضرورة التدبر فى القرءآن، الذى هو بمعنى التفهم والدراسة التى يرفع ما يظهر بالنظرة الأولى من الاختلاف بين الآيات ومن البديهى ان الآيات لو لم تكن لها دلالة ظاهرة على معانيها لما كان معنى الأمر بالتدبر والتأمل والدراسة كما لا يبقى مجال لحل الاختلافات الصورية بين الآيات بواسطة التدبر والتأمل.
وبالتالى يجب أن يحكم على الانسان العقل السليم البعيد عن الشوائب، لا مطالب النفس اللوامة والعواطف المخالفة للعقل، كما يجب أن يكون الحاكم على المجتمع هو الحق -القرءآن – لا انسان قوى مستبد يتبع هواه وشهواته ولا الأكثرية التى تخالف الحق والمصالح العامة.
وهنا يتضح ان تشريع الأحكام ووضع القوانين راجع الى اللــه تعالى وحده وليس لأحد ان يشرع القوانين ويضع المقررات ويتحكم فى مصير العباد..
ويكون المبدء.. سمعنا وأطعنا.. فالأمر واضح وصريح بتدبر ءآيات هذا الكتاب.
القاعدة الرابعة:القصص والأمثال
إن القرءآن لم يكتفى بذكر ءايات محكمات واخر متشابهات، ولكن زيادة فى التفصيل والبيان لتقريب المعنى إلى الأذهان أخذ فى ضرب الأمثال الملموسة ذهنيا وماديا للعقل البشرى الذى يلزم عليه تدبر هذا القرءآن، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فى أمر الحق والباطل قال سبحانه وتعالى:
" أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع، زبد مثله كذلك يضرب اللــه الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض، كذلك يضرب اللــه الأمثال."
فبين سبحانه أن حكم المثل جار فى أفعاله كما هو جار فى أقواله، ففعله تعالى كقوله الحق انما قصد منها الحق – واللــه أعلم - الذى يحويانه ويصاحب كلا منهما امور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ويبقى الحق الذى ينفع الناس، وانما يزول بحق آخر مثله. والكلام فى هذا المثل ينطبق على افعاله الخارجية المتقررة فى عالم الكون.
فان المعنى المقصود فى هذا المثل، ان المعارف الحقة الالهية كالماء الذى انزله اللــه من السماء هى فى نفسها ماء فحسب من غير تقييد بكمية ولا كيفية ثم انها كالسيل السائل فى الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق وهذه الأقدار أمور ثابتة فى الأحكام التشريعية والروابط التى تربطها بالحقائق الثابتة، وهى فى سيرها كمثل الزبد الذى يظهر على السطح ثم يزول بسرعة.
فهذه الأمثال لا بد من الوقوف على أصل المعنى لا المعنى اللفظى الذى يسر الأذهان المختلفة فتحمل معانى مقصودة كالزبد فى السيل. وأن البيانات اللفظية القرءآنية امثال للحقائق الالهية وذلك لأن البيان هنا فى هذا المثل نزل ليوضح المعنى ويرفعه الى سطح الأفهام العامة التى لا تدرك الا الحسيات. نظرا إلى أن العقول تختلف فى مدى تفهمها واستقبالها للمعانى من الآيات فنرى ان القرءآن يستعرض تعاليمه بأبسط المستويات التى تناسب كل هذه العقول على إختلاف درجاتها من حدود الفهم والادراك. وان هذه الأمثلة تقرب المعنى المستتر فى الفهم. فقال سبحانه وتعالى:
" ولقد صرفنا للناس فى هذا القرءآن من كل مثل فأبى أكثر الناس الا كفورا".
" وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " الاسراء89 العنكبوت43
وأما من ناحية القصص.. فان قصص القرءآن لم يأت للتسلية وانما للاعتبار والتفكير ومهما احتوى القصص القرءآنى على اعجازات تاريخية فانه لا ينبغى أن يصرفنا عن هدفه الأساسى وهو الاعتبار والموعظة. كما قال تعالى:
" لقد كان لقصصهم عبرة لأولى الألباب " وعن فرعون " ان فى ذلك لعبرة لمن يخشى"
وقد آن الأوان لنعتبر ونخشــى...
القاعدة الخامسة: فصل تفصيلا
" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون " الأعراف 52
ان طبيعة هذا القرءآن الكريم تحتوى على قوة خارقة يحسها كل من له ذوق وبعد وادراك للكلام، واستعداد لادراك ما يوجه إليه ويوصى به والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال وهوتاريخ الأمم والأجيال وقطعوا جمود الأفكار والتقاليد.
إن اللــه تعالى قال " يدبر الأمر " فهو الآمر وصاحب الأمر، ومن تدبيره الأمر " يفصل الآيات " وذلك لسبب وحكمة... " لعلكم بلقاء ربكم توقنون "، حين ترون الآيات مفصلة منسقة ومرتبة ترتيبا علميا ولغويا واعجازا عدديا فى كل كلمة وحرف فى هذا القرءآن الكريم، ذلك كله يوحى بأن لا بد من عودة الى الخالق بعد الحياة الدنيا لتقييم أعمال البشر ومجازاتهم عليها.
فحين قضت سنة اللــه ان البشر سيلاقون ربهم لتقييم أعمالهم ومجازاتهم عليها، لذلك قضت حكمته وعدله ان يفصل المنهج الذى سيحاسب عليه هؤلاء وهؤلاء. وليس من العدل ان اللــه يقول " كتاب فصلت ءآياته " ثم نقول نحن البشر ان هذا الكتاب غير مفصل، وإذا قال اللــه انه فصل تفصيلا ونعود مرة ثانية ونقول ان القرءآن لا يحتوى على التفاصيل بل يحتوى على النقاط العامة...! فى الفقرات القادمة وباختصار سنستعرض مثال على ذلك التفصيل حتى نستطيع ان نطمئن ونقول أن هذا القرءآن فصل تفصيلا من لدن حكيم خبير وأن هذا التفصيل على علم، كى لا نقع فى الافتراء على اللــه بأن نوصف هذا الكتاب بأنه غير مفصل.
قال اللــه سبحانه فى سورة هود " وفى الأرض قطع متجاورات " متعددة الشيات والا ما تبين انها " قطع " فلو كانت متماثلة لكانت " قطعة " منها الطيب والجدب والصخر، وكل واحد من هذه أنواع وألوان، ومنها المزروع ومنها المقفر، ومنها المروى ومنها العطشان.. وهى كلها فى الأرض متجاورات.
هذه هى الآيات ثم يتبعها التفصيل " وجنات من أعناب " " وزروع " " ونخيل "...
تمثل ثلاثة أنواع من النباتات الكرم والنخل و الزرع من بقول وأزهار ...الخ
ثم يتبعها تفصيلات التفصيل، ذلك النخيل صنوان وغير صنوان، منه ما هو عود واحد ومنه ما هو أكثر من اصل واحد وكله " يسقى بماء واحد " والتربة واحدة ولكن الثمار مختلفة الطعوم " نفضل بعضها على بعض فى الأكل " فمن غير الخالق المدبر الذى يرسل بالآيات ثم يفصلها تفصيلا.. من غيره يفعل هذا وذاك.
وفى موضع آخر يفصل الآيات فيقول " والأنعام خلقها " هنا يبرز نعمة الأنعام التى يصعب الحياة بدونها ويفصل آياته سبحانه، اما الأنعام فهى الابل والبقر والضأن والماعز،
" ومنها تأكلون " أما الخيل والبغال والحمير " لتركبوها وزينة " ولا تؤكل وتفصيل آخر
ففى الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار، ومنافع فى هذه من اللبن واللحم، ومنها تأكلون لحما ولبنا، وفى حمل الأثقال وفيها كذلك جمال. وفى تفصيل الخيل والبغال والحمير لتركبوها لتلبية ضرورة و " زينة " لتلبية حاسة الجمال وختم الآية بقوله :
" ويخلق ما لا تعلمون " حتى يترك الباب مفتوحا للتدبر والحث على العلم المستمر والتطور حسب احتياجات ومتطلبات الحياة فى كل مكان وكل زمان.
القرءآن الكريم ملئ بالآيات المفصلة وآيات مفصلة تفصيلا لتوضح وتبين المفصل، فكل هذه الآيات بتفصيلاتها لا توقظ القلوب ولا تنبه العقول...!
فلا يلوح لهم تدبير المدبر وقدرة الخالق كأن العقول مغلولة والقلوب مقيدة...
" ... أم على قلوب أقفـــالها ".
ولنا لقاء أخير مع القواعد والمبادئ فى الدرس القادم من هذه السلسة حتى نبدأ فى كيفية التدبر والشروط المقترحة لذلك إن شاء اللــه تعالى وإن كان هناك فى العمر بقية.
وباللــه التوفيق والسلام عليكم ورحمة اللــه وبركاته.