قصة آدم عليه السلام

محمود دويكات في السبت ٢٢ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً



إن من روعة القرءان أنه اختصر فلسفة خلق و مصير البشرية في قصة من أجمل و أدق و أقصر ما يكون . ففي أول قصة في القرءان على الاطلاق نعلم أن الله خلق آدم عليه السلام بهدف جعله موضع مسؤولية عن الارض ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )30/البقرة ، و على سبيل إعلامنا بالطريق التي يجب أن نسلكها(نحن) لاحقا لاتخاذ قرارات في حياتنا فقد جاء الله بالقصة و كأنه (رغم عدم حاجته لذلك) جل وعلا يستشير الملائكة في الموضوع : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ) 30/ البقرة. إلا أن متابعة القصة تبدي وكأن الله سبحانه استفرد برأيه عن ما أدلى به الملائكة : (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )30 / البقرة. وقد لا يبدوا هذا مغايرا(في الظاهر)  لمقولة فرعون : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) 29/غافر.( إلا أن الفرق كان جوهريا بين المقولتين كما سنري)

فسبحانه جاء بالدليل التجريبي الداعم لرأيه وبشكل منطقي من رد الملائكة أنفسهم ، فبعد أن (عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) 31/ البقرة. وعرض التجربة وبشكل تفاعلي مع وعلى الملائكة ، كان رد الملائكة ببساطة (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا )32/البقرة. ومنها أخذ الله عز وجل ذلك فرد عليهم : (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) 33/البقرة. أي أن الله أثبت للملائكة أن آدم بإمكانه اتباع الاوامر وبشكل جزل و بفارق تفوقه باستخدام قدرته على التفكير في الربط بين الاسماء و المسميات (يعني المنطق والتفكير البسيط) ابتداءا من معطيات بسيطة في الاساس. وكأن الله يقول للملائكة : إن هذا الآدم ، إن اتبع الاسس البسيطة المرسلة إليه و استخدم عقله بالتفكير بتلك المعطيات ، فلا شك بأنه سيكون مغايرا لما تصورته الملائكة و سوف لن يقود حياة تشبه حياة تلك الكائنات التي تفسد و تسفك الدماء (كالوحوش كما هم اليوم).

و يقوم الله بتهيئة آدم للمهمة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا )30/ البقرة. و تكون المهمة الاوليه هي وضع أدم عليه السلام في اختبار لما ستكون عليه حياته (وذريته) لاحقا . المبدأ الذي ستقوم عليه حياة أدم و ذريته بعده بسيط للغاية ، و قد وضحه الله لآدم عبر ذلك الاختبار البسيط ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ )35/ البقرة. فالله لم يعطيه لوائح بكل الامور التي يراها هو (الله) لازمة لحياة آدم في تلك الجنة بل تركه يرفل بالحرية خلا شيئا واحدا: التزام أمر واحد و صريح بعدم الاكل من تلك الشجرة. (لماذا تلك الشجرة بالذات؟ هذا السؤال شبيه بمن يسأل استاذه من التلاميذ: لماذا كان ذلك السؤال بالذات في الامتحان يا استاذ؟ ).

و لكي يجعل الله الموضوع أوضح (وأعقد حبتين) لأدم فقد شاء له قبل ذلك الاختبار أن يمر بتجربة أمام عينيه لرؤية و احساس كل من عدوه المباشر و أحد أسباب تعاسة ذريته لاحقا . لذا أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لآدم : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ) و رغم أن أمر الله - كما هو واضح في جميع آيات القرءان - كان موجها للملائكة ، إلا أن الله عز وجل أراد إدخال إبليس في الموضوع ، و الملاحظ أن إبليس لم يكن من الملائكة أصلا (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) 50/الكهف. فالحادثة تشبه مثلا دخول أحد المسؤولين على جمع من الناس – كلهم رجال إلا إمرأة واحدة - فيقول المسؤول: على الرجال كلهم دفع مبلغ من المال ، فيقوم الرجال كلهم بدفع ذلك المبلغ إلا تلك المرأة بحجة أنها لم تؤمر بذلك. فيقوم المسؤول بتوجيه سؤال (حركشة) لها: لماذا لم تدفعي المبلغ ؟ - طبعا الواجب من باب الاحترام لذلك المسؤول أن تقول له أن الامر لم يشملها لأنها ليست من الرجال . إلا أن ما حصل من إبليس كان على الجهة المعاكسة من الاحترام ، حيث بلغ به التطرف والجدل في رؤية نفسه (واعتبار نفسه دائما على صواب كما هو حال الكثير من الناس) الى أن قال: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ) 12/الاعراف و 76/ ص و قال (أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) 62/الاسراء. فجاء الرد الالهي على نفس القدر من البساطة و الاوتوماتيكية: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) 12/ الاعراف. وبالتالي حق عليه حكم رب العالمين : ( إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) 34/البقرة.

في تجربة السجود البسيطة أوضح الله لأدم شيئين: أولا: أن أحد الاسباب اللاحقة لتجرع ذريته المرار و الدمار فيما بعد هو تكبر بعضهم على بعض و الشعور بالترفع و التمييز ضد الاخرين(بغض النظر عن الحجة بين يديهم) و تلك اختصرها إبليس بثلاث كلمات: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ) 12/الاعراف . و الشيء الثاني: أن تلك الجماعات من البشر التي ترى نفسها خير عن بقية العالم لسوف تسعى بالافساد و حرف الناس (الامنين) عن حياتهم ومنهجهم بدافع التمييز و الترفع و التكبر و التي قد توصل للبغض ، لذا يستوجب التيقظ من كل تلك الدعوات التي تلمح أو تشير إلى أفضلية أو ترفع (أو تكفير) جماعة على أخرى و غيرها من الدعوات التي لا تزرع إلا دمارا. فلا يملك ذلك الحق بالتمييز بين الناس إلا خالقهم الذي لم يجعل له أي وكيل لذلك الامر في الدنيا.

إن من الملاحظ أن الله لم يهتم بجميع الشكليات في حياة أدم و زوجه في الجنة. فلم يأمره حتى بالصلاة أو الدعاء اليه .. الخ ، بل إن الله (على قدرته و علمه) ترك آدم يواجه إبليس الذي رأى منه ما رأى. و أعطى الله المدة الزمنية الكافية لإبليس أن يفعل فعله دون أي أثر يذكر لرعاية الله لأدم أم حتى مجرد تذكيره برسالة ربه له في تلك الفترة رغم بساطتها ( فرسالة الله لأدم وقتها كانت مباشرة : َكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ-35/البقرة) . أي أن الله عز وجل أعطى لأدم الرسالة ( بدون تفصيلات أو تعليلات ) و من ثم تركه و حريته(أي بدون فرض رأي أو إكراه في الدين) في إما أن يتبع (يرد) على أمر الله السابق له أو ان يسير حسب ما يراه هو نفسه مناسبا له في وقته. و كأن الله يريد لأدم أن يستشعر أهمية التذكر والرجوع دائما لتلك الرسالة الربانية التي أعطاها الله له لكي يتدبر معيشته بأقل ضنك و شقاء. و بالطبع يفشل آدم لسبب بسيط: أنه تجاهل أمر الله له و اتبع أهوائه و كلام الاخرين له دون الرجوع الى كلام الله كمرجع ( زي حالة المسلمين الان – ترجع لكلام البشر و تغفل عن كلام الله ) .

و في نهاية القصة وضع الله الفكرة الرئيسية لنمط حياة أدم على الارض إن شاء تجنب الضنك و الشقاء ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )38/ البقرة.

نسأل الله أن يرد الناس الى عقولهم أولا ثم الى قرءانهم ثانيا فيعقلوا ما فيه.

اجمالي القراءات 30418