مقدمة:
الموضوع ليس بجديد وقد قتل بحثا ردحا من الزمن ، ولا أبالغ إذا قلت أن الموضوع تم إثارته بعد وفاة الرسول (ص) فحكم أبو بكر بمحاربة مانعي الزكاة على أنهم مرتدين ، وليسوا مذنبين ، ثم ما حدث بين الحسن البصري إمام أهل السنة وتلميذه واصل بن عطاء إمام المعتزلة ، وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين ، وبخلود العاصي في النار ، وقد اتخذوا من قوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما" النساء 93 دليلا على خلود مرتكب الكبيرة &Ya في النار ، ولما علموا أنه قال لا إله إلا الله ، فتناقضوا مع أنفسهم وقالوا أنه ليس بمسلم وليس بكافر ولكنه في منزلة بين المنزلتين ، وقد أفاض القاضي عبد الجبار بن أحمد – احد كبار المعتزلة – في شرح وجهة نظرهم في كتابه الأصول الخمسة وأدلتها ، وقالت الخوارج يكفر المسلم بإرتكابه المعصية ، أما المرجئة فقالوا لا يضر مع الايمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة .
ثم جاء كتاب استاذي الدكتور أحمد صبحي منصور (المسلم العاصي) ليؤكد على أن العاصي في نار جهنم خالدا فيها إذا لم تدركه رحمة ربه بالتوبة قبل الموت وأن الميزان العدل يوم القيامة يختلف عن ميزان الدنيا فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هي نار حامية ولا منزلة وسطى بين الجنة والنار ، وقد جاء رأيه قائما على رفضه المرويات الكثيرة والاحاديث المنسوبة للرسول (ص) والتي تتكلم عن 99 سجلا مدى البصر من الذنوب ، وعن قتل 99 نفسا ثم تمام المائة بالراهب ، ولكن أصحاب ذلك ينعمون بالجنة ، فمن منطلق رفضه لكل هذه الاحاديث قال بأن المسلم العاصي في النار خالدا فيها ، وأن من يدخل النار ستغلق عليه في عمد ممدده ويبقى في العذاب خالدا فيه مهانا.
وفي هذه الدراسة سوف نناقش موضوع المسلم العاصي ومدى دقة هذا المصطلح (المسلم العاصي) ، وما معنى المعصية ، وهل يخلد المسلم العاصي في النار من عدمه
تعريف:
قبل أن نبدأ في شرح فهمنا لحكم المسلم العاصي ، يجب أن نتفق على تعريف لمعنى المعصية لغة وشرعا مأخوذ من القرآن ، ثم يمكننا تطبيق ما توصلنا لفهمه على الموضوع.
لغة:
فالمعصية مشتق من عصا والتي تعني العود (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) ، ويقال فلان صلب العصا إذا كان شديد المراس أو شديد على من يقودهم ، ويقال فلان يعصي الريح إذا أستقبل مهبها ، كما يقال (عَصِيَ الرجلُ في القوم بسيفه وعَصاه فهو يَعْصَى فيهم إذا عاثَ فيهم عَيْثاً) ، ويقال في لسان العرب (عصاني فعصوته) أي خشاني بعصاه فغلبته ، والعِصيانُ: خِلافُ الطَّاعَة. عَصى العبدُ ربه إذا خالَف أَمْرَه، وعصى فلان أَميرَه يَعْصِيه عَصْياً وعِصْياناً ومَعْصِيَةً إذا لم يُطِعْهُ، فهو عاصٍ وعَصِيٌّ. قال سيبويه: لا يجيءُ هذا الضَّرْبُ على مَفْعِلٍ إِلاَّ وفيه الهاء لأَنه إن جاءَ على مَفْعِلٍ، بغير هاءٍ، اعْتلَّ فعدَلوا إِلى الأَخَفِّ. وعاصَاهُ أَيضاً: مثلُ عَصَاه. ويقال للجَماعةِ إذا خَرَجَتْ عن طاعةِ السلْطان: قد اسْتَعْصَتْ عليه.
شرعا:
لم يخرج معنى المعصية شرعا عن معناه اللغوي ، قال تعالى " واذ اخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما اتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يامركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين" (البقرة 93) ، ويتضح من النص القرآني أن معنى المعصية هو عكس معنى الطاعة إذ أنهم سمعوا ووعوا الأوامر وأعطوا رب العزة الميثاق ولكنهم عصوا وأرتدوا على آثارهم كفار بعد إيمانهم إذ أشربوا في قلوبهم العجل (بكفرهم) ، والمعصية شرعا إذا أطلقت مجردة فهي مرادف للكفر وعكس الإيمان قال تعالى" قل اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم" (الانعام 15) ، فكان نتيجة المعصية عذاب يوم القيامة وهي بذاتها نتيجة الكفر قال تعالى" قال الله اني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فاني اعذبه عذابا لا اعذبه احدا من العالمين" المائدة115
الخلاصة:
المعصية لغة وشرعا خلاف الطاعة ومخالفة الأمر الصادر وعدم إتباعه ، فيكون العبد العاصي قد إشتد على الطاعة كما تشتد العصا (العود) على المعصي بها.
دقة مصطلح المسلم العاصي:
من رأي انه لا يتفق الإسلام والمعصية في شخص واحد لأن الأصل ألا يوجد قلبين في جوف رجل واحد ، قال تعالى" ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ...الآية" الأحزاب4 ، والإيمان عكس المعصية ، ذلك أن الإيمان مرادف للتسليم والإذعان ، والمعصية مرادف للكفر والعصيان ، قال تعالى " واعلموا ان فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان اولئك هم الراشدون" الحجرات7
فقد جعل الله سبحانه وتعالى العصيان مرادف للكفر والفسوق بل وجعله أحط مستويات الكفر وأشدها ، وهو عكس الإيمان فالمعصية مكروهة في قلب كل مسلم والإيمان محبب لكل مسلم أطاع الرسول وأتبع الرسالة.
لذلك لا يوجد مسلم عاصي إذا ما أعتبرنا أن المعصية مرادف للكفر والكفر عكس التسليم والذي هو جوهر الإيمان والإسلام ، فكيف يمكن أن نطلق لفظ مسلم على من عصى بالكفر ، فكأنما نقول مؤمن وكافر في وقت واحد وهو المستحيل بعينه.
الدليل من كتاب الله
قال تعالى" من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين ولو انهم قالوا سمعنا واطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم واقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليل"ا (النساء 46)
وقال تعالى"قل اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم" (الانعام 15)
وقال تعالى"واذا تتلى عليهم اياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقران غير هذا او بدله قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحى الي اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم" (يونس 15)
وقال تعالى"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" (91) يونس
وقال تعالى"قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي واتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدونني غير تخسير" (هود 63)
وقال تعالى"قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك امرا" (الكهف69)
وقال تعالى"وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا" (مريم 14)
وقال تعالى"يا ابت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا"(مريم 44)
وقال تعالى"الا تتبعن افعصيت امري" (طه 93)
وقال تعالى"فاكلا منها فبدت لهما سواتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ادم ربه فغوى" (طه121)
وقال تعالى"فعصى فرعون الرسول فاخذناه اخذا وبيلا" (المزمل16
الشاهد في كل هذه الآيات أن المعصية مرادف للكفر وضد الإيمان بل والإسلام في معناه العام وهو التوحيد فالشيطان كفر بمعصيته ، وجميع الأنبياء كانوا يخافون من المعصية بمعنى الكفر لأنها تؤدي لعذاب يوم عظيم ، وفرعون أيضا عصى الرسول فكان عصيانه كفر وهو ضد الإسلام فقد قال تعالى " وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى اذا ادركه الغرق قال امنت انه لا اله الا الذي امنت به بنو اسرائيل وانا من المسلمين" يونس90 أي انه عصى فكان من الكافرين فلما أدركه الغرق إدعى أنه من المسلمين ولكن الله لم يقبل منه وقيل له (الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) فالعصيان الذي كان فيه ضد الاسلام الذي إدعاه وقت الغرق.
المعصية والذنب
عرفنا المعصية من قبل ، أما الفرق بين المعصية والذنب أن المعصية من الذنوب ، فالذنب أعم وأشمل من المعصية
فمن أمثال الذنب الزنا ومحاولة الزنا ، قال تعالى" يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين" يوسف 29
ومن الذنب القتل ، قال تعالى في حق موسى عليه السلام " ولهم علي ذنب فاخاف ان يقتلون" الشعراء 14
ومن الذنب الكفر والظلم والمعصية وتكذيب الرسول ، قال تعالى في حق الأمم السابقة " فكلا اخذنا بذنبه فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا ومنهم من اخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من اغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون" العنكبوت 40
وكذلك قد يكون الذنب صغيرا وهو شيء من اللمم أو أقل عندما ينسب للرسول عليه السلام ، كقوله تعالى " فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار" غافر 55 ، وقوله تعالى " فاعلم انه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم " محمد 19 ، وقوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما" الفتح 2
وقد يكون الذنب كل ما يرتكبه الإنسان من آثام صغرت أو كبرت كقوله تعالى" غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله إلا هو إليه المصير" غافر 3
وقد يكون الذنب هو الكفر والمعصية تحديدا كقوله تعالى" فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير"الملك11
وتكذيب الرسول ذنب مع رد الأمر الذي هو عين المعصية كقوله تعالى" فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها" الشمس14
والشاهد هنا أن الله سبحانه وتعالى قد نسب فعل الذنب للرسول ولكنه سبحانه لم ينسب فعل المعصية له ، بما يدل على أن الذنب أعم وأشمل من المعصية قد يجمع الفواحش وقد يجمع اللمم والإثم وقد يجمع الكفر والشرك والفسوق والمعصية ، فكلها ذنوب تختلف في درجاتها ولما لا يمكن أن يكفر الرسول الذي اختاره رب العزة لتبليغ رسالته ، فإن الله لم ينسب له فعل المعصية بل نفاه عن بعض الأنبياء والرسل كقوله تعالى في حق يحي بن زكريا " وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا" (مريم 14) ، أما الذنب على العموم فيمكن نسبته حتى للرسل كما أسلفنا ذكرا من كتاب الله
فيمكن إذا أن نقول المسلم المذنب ولا يمكن أن نقول المسلم العاصي
المعصية والإثم
أما الإثم فهو أيضا ضمن الذنوب بمعناها الشامل ، ولكن الفرق أن الإثم قد يكون الفعل في ظاهرة مباح وكن ارتبطت به نية سقيمة فاسدة فتحول الفعل من كونه مباحا إلي كونه إثما ، وأكبر مثال على ذك الربا ، فقد يتفق مرابي ومعسر على أن يقوم المعسر يع عقار له للمرابي مثلا بسعر مائه ويسترده منه بمائة وعشر والعشر هذه هي ربا ، ولكن تمت في صورة بيع فإن ذك إثم والشاهد على ذك قوله تعالى"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون" البقرة 188.
ودائما جاء السياق القرآني في الحديث عن الإثم ليبين لنا أن ظاهر الفعل قد يكون مقبولا ولكن ارتبط بنية فاسدة أفسدته ولنتدبر قوله تعالى"فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم" البقرة 181 ، كما أكد القرآن أن الفعل لو كان في ظاهره متعديا ولكن ارتبط بنية صالحة ولم يقترن به التعمد فلا إثم ، ولنتدبر قوه تعالى "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ان الله غفور رحيم" البقرة 182 ، وقوله تعالى" واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا إنكم إليه تحشرون" البقرة 203
ويؤكد ذهابنا هذا قوله تعالى " فان عثر على أنهما استحقا إثما فاخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين" المائدة107 فالشاهد من هذه الآية الكريمة أن العثور يحتاج للبحث والنتيجة ترجيحية يغلب عليها الظن في قوله (استحقا إثما) لأن ظاهر الفعل مخالف لنية الفاعل فكان لزاما البحث في الشواهد والأدلة والبراهين ، ثم النص لم يأتي بقول (أنهما آثمين) ولكن جاء النص (استحقا إثما) ، وكذلك عندما نتدبر قوله تعالى" وذروا ظاهر الإثم وباطنه ان الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون" الأنعام 120 ، فظاهر الإثم الذي يمكن العثور عليه بسهولة ويسر ومعرفة انصراف نية فاعلة لارتكابه أما باطنه فهو المخفي الذي لا يطلع عليه إلا الله ويحتاج للعثور عليه كثيرا من البحث والتحري
الخلاصة:
الذنب هو المظلة الشاملة التي تستغرق في طياتها كل الأفعال التي لا يرضى عنها رب العالمين ومنها الفواحش واللمم والكبائر والإثم والكفر والفسوق والعصيان ، وقد يقع من مسلم كما إنه يقع من مشرك وكافر ، والإثم يرتبط بعمل القلوب أكثر من ارتباطه بظاهر الأفعال ، أما المعصية فهي مرادف للكفر والفسوق ، ولا تجتمع في قلب مسلم مع الإيمان ولا يتصور حدوثها من مسلم إلا جهلا.
المغفرة:
قال تعالى" غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله إلا هو إليه المصير" غافر3 ، فهو سبحانه غافر الذنب لمن أخطأ ولم تدركه التوبة وقابل التوب لمن تاب من الذنب وكان صادقا في توبته وشديد العقاب على من عصى ، ذي الطول قادرا على عباده لن يهرب منه أحدا ولن يفلت كافر أو مشرك أو فاسق أو عاصي من الحساب
والله سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه غفران الذنوب جميعا إلا الشرك به فهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذك لمن يشاء مصداقا لقوله تعالى "ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما" (النساء48) ، وقد أفائت علينا هذه الآية بواحدة من الأسرار العظيمة لكتاب الله سبحانه وتعالى إذ اعتبر الشرك (إثم عظيم) لأن المشرك قد يظن أحيانا أنه بشركه يعظم الخالق ولكنه في الحقيقة عبد غيره وهلك ، قال تعالى" إلا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ان الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدي من هو كاذب كفار" الزمر 3 ، وهنا رغم اختلاف فعل المشرك عن نيته إلا أن نيته الثانية فاسدة أيضا لأنه ظن أن الذين يعبدونهم من دون الله يملكون على الله التألي ويشفعون لمن عظمهم وعبدهم ، لذلك كان (إثم عظيم)
قال تعالى"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار" البقرة 175 ، فالمغفرة هي فضل من الله سبحانه وتعالى وإن لم يقابله فعل من العبد فمازالت المغفرة قائمة يتمتع بها من أحب الهدي وأتبعه وكره الضلالة وأنصرف عنها ويحرم منها من أحب الضلال فيقع في العذاب ، أما قبول التوبة فهو فعل مقابل فعل أن يتوب الله على العبد فيرشده للتوبة فيتوب العبد فيقبل الله منه هذه التوبة.
والآيات كثيرة تدل على أن المغفرة وعد من الله يتكرم بها على من يشاء من عباده ليس لأنه تاب منها ولكن لأن مجموع أعماله صالحة فوعده الله سبحانه وتعالى بمغفرة السيئات والذنوب التي في أعماله كقوله تعالى" ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون" آل عمران157 ، وكذلك المائدة 9 ، والأنفال 4 ، هود 11.
وقوله تعالى" ... ان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وان ربك لشديد العقاب" الرعد6 ، فبرغم ظلم الناس إلا أن الله وحده هو الذي يقرر من يستحق المغفرة رغم ظلمه فيغفر له ، ومن لا يستحق فيساق للعقاب الشديد ، لا معقب عليه في ذلك فهو سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
معصية إبليس
قال تعالى"وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)
وقال تعالى "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)[الحجر]
وقال تعالى"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)[الإسراء]
الشاهد في هذه الآيات الكريمة أن إبليس رد الأمر على رب العزة عصيانا بعدما تدبر الأمر مليا وأعمل القياس الفاسد بين مادة خلقه وهي النار ومادة خلق البشر وهي الطين ، سيقول قائل أن الله لم يذكر لفظ المعصية تصريحا في حالة إبليس ، فنقول له أن الله ذكر لفظ (أبى) والإباء هو أحط مراحل المعصية لاشتماله على العناد ، لذلك استحق لقب وعقوبة (رجيم) ومما يؤكد عناده أنه طلب من رب العزة أن يمهله ليوم البعث حتى يمارس وظيفة الإغواء للبشر.
وهو لا يعلم أنه بغباء لا يحسد عليه نفذ إرادة الله ومشيئته في الوظيفة التي خلق الله من أجلها البشر وهي وظيفة العبادة ، لأن الشيء لا يعرف ولا يبرز إلا بضده ، فالعبادة لا تعرف إلا بالغفلة ، فلو اقترنت الغفلة بوسواس يحض عليها كانت للعبادة قيمة أعلى ، ولو أحيطت الغفلة بالشهوات مع وجود الوسواس ، واحتاجت العبادة للتضحية بالوقت والمال وما يطلق عليه لفظ الملذات ، فإن قيمة العبادة هنا تصل للحد الذي يطلبه الله منا لأنها تمت بالاختيار في ظل ظروف وعوامل تساعد على غيرها ومن نفس قد ألهمها الله الفجور مساوي للتقوى.
وهذا النوع من العبادة لا تقدر عليه الملائكة لأنهم مسيرون غير مخيرين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون ، والعبادة المقترنة بالإغواء والشهوات لا يقدر عليها إلا المكلف المخير ، وهي أسمى أنواع العبادة ومن استحقاقات رب العزة لذلك خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض ، وكذلك الجن من أجل تصريف هذه العبادة له ، وهو لا يريد منهم رزقا أو طعاما ، لذلك جعل الله جزاء العبادة الخالصة مع استحضار النية وترك الملذات ورد وسواس الشيطان والتي تأتي بعد الوقوع في الذنب وارتكاب السيئات أن يغفر هذه السيئات وليس فقط بل يبدلها حسنات ، قال تعالى " إلا من تاب وامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما" الفرقان70 ، وقال تعالى" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين" هود 114
سبب الإشكالية:
الحقيقة أن السبب الرئيسي في هذه الإشكالية والخلاف بين الفقهاء أن الجميع وقعوا في خطأ تفسير مفهوم المعصية ، فالطريقة الوحيدة لفهم النص القرآني فهما صحيحا هو معرفة معنى مفرداته وقت النزول والذي يأتي دائما متفقا مع السياق ، وكلمة المعصية في النص القرآني وفقا للسياق هي بديل للكفر والفسوق ، وقد ذكرت مفردة عصى ومشتقاتها في القرآن سبعة عشر مرة (17) وكانت تعني في كل مرة الكفر برد طاعة الرسول (فيما جاء به من رسالة) ، حتى في المرة الوحيدة في سورة الممتحنة في بيعة المؤمنات (للنبي) وقد جاء في القرآن بلفظ النبي ، فإن الله خصص عدم المعصية بشبه الجملة من الجار والمجرور (في معروف) فقد قال تعالى" يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ان الله غفور رحيم (الممتحنة 12) ، ومن عظمة النص القرآني أن جاء ت جملة الشرط بالأمر للنبي وليس للرسول لأن البيعة مرتبطة بزمان ومكان الحدث فيأخذها منهم النبي بصفته البشرية نبي ، وهنا دليل آخر على الديمقراطية والشورى ، ولكن عند ذكر لفظ (المعصية) بقوله "ولا يعصينك" فقد أردفها بقوله "في معروف" أي في الرسالة التي جاء بها بأوامرها ونواهيها ، أي لا يعصينه حال أداءه لوظيفة الرسول.
أما معنى المعصية عند فقهاء العصر العباسي فقد جاء مرادفا للذنب مهما صغر ، فلما سلم علماء المعتزلة بالمعنى المتداول لكلمة المعصية في العصر العباسي ، وحكموا بهذا المعنى على النص القرآني والذي توعد صاحب المعصية بالنار خالدا فيها وبالعذاب الأليم ، فقالوا أن المسلم العاصي في المنزلة بين المنزلتين وهو في النار خالدين فيها.
مع إنهم لو أخذوا معنى الكلمة وقت التنزيل وفسروا النصوص وفقا لسياقها ، لعرفوا أنه لا يمكن أن يكون هناك ما يسمى(المسلم العاصي) ولكن يوجد (المسلم المذنب)
هل يوجد خروج من النار بعد ورودها؟
1- قال تعالى" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" آل عمران185 ، من قال بالخلود في النار فسر هذه الآية على أن الذي زحزح عن النار لم يدخلها أصلا ولكنه كان قاب قوسين أو أدنى منها وزحزحه الله برحمته عنها ، ولكن نرى أن النص يحتمل المعنيين المعنى الأول أنه لم يدخلها بل زحزح عنها وليس منها ، كما يحتمل أيضا أنه زحزح عنها بعدما كان فيها ويعضد ذهابنا هذا قوله تعالى " ولتجدنهم احرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود احدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر والله بصير بما يعملون" البقرة 96 ، فجاء لفظ الزحزحة من العذاب للمشرك ، والزحزحة عن النار للفائز ، فقد يحمل على أنه لفوزه زحزح عنها بعدما كان فيها ، والله تعالى أعلم.
2- قال تعالى" فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) [مريم] ، وقد قالوا أن هذا النص لا يعني الدخول لأن الورود يأتي بمعنى الإشراف وقد قال سبحانه (حول جهنم) ولم يقل (في جهنم) والرد على أمرين أحدهما أن الورود يحمل على معنى الإشراف كما يحمل على معنى الانغماس في الشيء المورود عليه ، وثانيهما أن اللفظ القرآني جاء بنص (حول جهنم جثيا) ونص ( ونذر الظالمين فيها جثيا) و جثيا بما تحمله من إذلال نوع من العذاب ، فتكون النجاة بعد العذاب وإن تفاوتت درجته على كل نفس ، والله تعالى أعلم
وأخيرا لي كلمة ، أعلم أن أخي ومعلمي الدكتور أحمد له رأي آخر في هذا الموضوع وقبوله نسبة العصيان للمسلم ، على خلاف ذهابنا ، ونقدر له علمه الذي يمنحنا ، ومهما إختلفنا معه فلن يؤثر ذلك في مكانته العالية ، ولن يكون إفتأت منا – حاشا لله – على بحر علمه الزاخر الذي ما زلنا ننهل منه ، ولكنه هو التدبر والنظر وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا كتاب الله ، ندعوا الله أن يكون لنا نورا وهاديا حتى نلقى الله وهو لنا رحمة وآمنة من العذاب.
قال تعالى" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم" الزمر 53
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
شريف هادي