بين تجربة الحوار المتمدن وتجربة رواق ابن خلدون

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٢ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور


بين تجربة الحوار المتمدن وتجربة رواق ابن خلدون

أولا:-

أنا كاتب متخصص فى السيئات ، لأن الكتابة الإصلاحية تركز على الأمراض والمساوىء، ومن هنا فقلما أكتب فى المناقب والمديح ، ونادرا ما أشارك فى المناسبات والحملات والإحتفاليات ، ولكن لموقع الحوار المتمدن دينا فى عنقى يستوجب الوفاء، كما أن من حقه أن يحظى بما يستحق من تكريم .....
ولهذا ففى البداية أقدم خاص الشكر والتحية للقائمين على موقع الحوار المتمدن لإتاحتهم الفرصة لى وللآخرين بالمشاركة فى الكتابة فى الموقع والتعبير عن آرائهم بكل حرية ....
وأعتقد أن القائمين على موقع " الحوار المتمدن " قد عانوا مثلى من المصادرة والملاحقة فأرادوا أن يجعلوا من موقعهم واحة للحرية يكتب فيها الجميع بكل حرية ، وحتى لا يقع أحد فى الأسفاف فقد طلبوا بطريقة غير مباشرة من الكتاب الألتزام بأصول الحوار المتمدن فكان هذا عنوان الموقع ...
وهو الأن يؤدى دورا هاما فى تمدن الثقافة العربية والفكر العربى وهو دور رائد للحوار المتمدن يستحق الشكر والتنوية .

ثانيا :-

تجربة الحوار المتمدن فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين تذكرنى بتجربة رائدة أخرى فى العقد الأخير من القرن العشرين .
لقد تصدى مركز ابن خلدون منذ أنشائه عام 1988 للإستبداد والفساد والتعصب والتطرف داعيا إلى ثقافة حقوق الأنسان والمجتمع المدنى والمواطنة والتنوير والديمقراطية والشفافية وإنصاف الفقراء، وكالعادة قوبل نجاحه وريادته بحرب شعواء من النظام المصرى والمتطرفين ، ولاحقته الإتهامات وتعرض صاحب المركز د. سعد الدين إبراهيم – ولا يزال مع الأسف الشديد- لحملات تشهير وكراهية منقطعة النظير ، وقوطع مركز ابن خلدون مقاطعة تامة بحيث أنه كان لا يأتيه إلا العاملون فيه والمتعاملون معه وبعض الزائرين ومعظمهم من الأجانب .
زاد فى عزلته إنه يقع فى منطقة جبلية منعزلة فى القاهرة ،هى هضبة المقطم ...
كان المركز يجرى بعض الندوات حين يزوره بعض المفكريين الغربيين ، ويحضر الندوة العاملون فى المركز ، ويكون الحضور القليل دليلا على عزلة المركز والغبن الذى يتعرض له صاحبه ، وهو أعظم عقلية عربية فى علم الاجتماع السياسى فى القرن العشرين .
كنت فى هذا الوقت أدير مع بعض الاصدقاء الجمعية المصرية للتنوير، وقد أنشأناها فى مكتب المفكر الراحل د. فرج فودة تحديا لأولئك الذين إغتالوه ، وكنت أدير فى الجمعية ـ فى مصر الجديدة ـ ندوة شهرية ، وأستضيف فيها بعض الرموز للتكلم ، وأحيانا كنت أتحدث بنفسى. وقد تكلمت فى ندوة عن (الأزهروالتنوير) منتقدا مناهج الأزهر مؤكدا على الفجوة الهائلة بين التنوير فى القرآن والظلامية الأزهرية ، وجهود الاصلاحيين فى الأزهر وحتمية وكيفية الاصلاح فى الأزهر. حضر د. سعد الندوة ، واتفق معى على العمل معه فى مركز ابن خلدون .

اقترحت على سعد الدين إبراهيم ان أقوم بعقد ندوة أسبوعية مستمرة كل ثلاثاء لا تتوقف، أندهش وقال : هل تضمن أن يأتى لك حضور . قلت نعم ... قال هى فكرة جيدة ، ولكن نستأجر لك مقرا فى وسط القاهرة لأنه حتى لو وجدت من يحضر الندوة سيكون من الصعب عليه أن يأتى لهضبة المقطم . قلت أن الهدف الأول من الندوة أن يأتى الناس إلى المركز فى هذه المنطقة النائية وأن يتعرفوا عليه ويتآلفوا معه بحيث تتبدد كل الأشاعات والأكاذيب التى أحاطت به .
وهكذا بدأ رواق ابن خلدون أول جلسه له فى الثانى من يناير 1996 وبدأ يناقش لعدة اشهر التزويرفى انتخابات مجلس الشعب لعام 1995،وبعده التفت الى اصلاح الدستور المصرى.استمرالرواق فى انعقاده الأسبوعى مساء كل ثلاثاء إلى أن أغلقوا المركز وقبضوا على سعد الدين إبراهيم فى يونية 2000 ، وانتهت علاقتى به بالهجرة إلى أمريكا ثم أعيدت للمركز وللرواق الحياة ولا يزال قائما ...

تتشابه تجربة رواق ابن خلدون مع تجربة الحوار المتمدن فى ريادتها بالدعوة والممارسة العملية لفكرة للتنوع الفكرى والحرية المطلقة فى الفكر والإعتقاد ، وكنت قد وضعت شروطا ثلاثة للحوار فى الرواق وهى عدم التكفير وعدم التخوين وعدم التحقير للأشخاص .
أستثمرت فى الدعوة للحضورلروق ابن خلدون سمعتى وعلاقاتى بالمثقفين و النشطاء من كافة الاتجاهات ، فحضر إلى الرواق كل التيارات من علمانيين وأخوان مسلمين وأزهريين وحكوميين ووفديين ويساريين وقوميين وأقباط وبهائيين وأكراد وسائر القوميات والأقليات . وكانت جلسات الرواق يتردد صداها فى الصحف ويحضرها أحيانا العاملون بالسفارات . وتمخض عن الرواق الأسبوعى رواق شهرى متخصص أحدهما للأقتصاد والأخر للعلاقات الخارجية.

كانت ثقافة "التخندق" هى السائدة فى النخبة المصرية ، بمعنى أن يتحدث الوفديون مع بعضهم البعض والأقباط مع بعضهم وكذلك أهل اليسار والأخوان ، وبدلا من هذا التخندق أمكن للجميع ـ فى رواق ابن خلدون ـ لأول مرة أن يسمع بعضهم بعضا وأمكن لبعضهم أحيانا أن يصادق بعضهم بعضا مع اختلاف المنهج السياسى أو الفكرى ... وبسبب نجاح تجربة رواق ابن خلدون أقيمت على منواله رواقات وندوات اخرى فى منظمات حقوقية وأحزاب وسياسية ومراكز تنويرية .
ومن خلال سقف عال من الحرية – والحوار المتمدن – ناقش رواق ابن خلدون كل الموضوعات الفكرية والسياسية والدينية والإجتماعية ، تحت محاور مختلفة من إصلاح التعليم والأصلاح السياسى والأقتصادى إلى الصراع العربى الأسرائيلى إلى التطرف الدينى ومستقبل الحركة الأسلامية فى مصر إلى التنوير الدينى والقضايا الفكرية التراثية والفنية والعالمية ...
وفى إدارتى للندوة ـ التى تستمررسميا ساعتين ـ كان للمتحدث نصف الوقت لإلقاء موضوعه ثم عشرة دقائق ليعقب على الحوار الذى دار حول ورقته ، ثم يأتى تلخيص الندوة والمناقشات بشأنها فى النشرة الشهرية لمركز ابن خلدون وهى "المجتمع المدنى " . وكانت العادة أنه بعد انتهاء الندوة وإغلاق أبواب المركز أن يستمر النقاش خارجه مدة تطول وتقصر حسب أهمية الموضوع.
وحاضر فى الندوة مشاهير المفكرين والسياسيين والمثقفين العرب والمصريين ، كما اتسعت ندواته للشباب الواعدين ، وتكونت من الحاضرين مجموعة ملتزمة بالحضور أسبوعيا أطلقوا على أنفسهم " أعمدة الرواق"، كان معظمهم من القرآنيين ، واشتهر الرواق بحضور مستمر من كبار المفكرين العرب وعلى رأسهم الاستاذ الصادق المهدى. وساعد الرواق على التعريف بالاستاذ جمال البنا فأصبح أحد أعضاء مجلس مركز ابن خلدون.
كان الأتهام الوحيد الذى يطارد الرواق هو أنكم تعملون وتتكلمون فى الغرف المغلقة ، صحيح أن كلامكم يتردد فى الصحف ، ولكن متى يصل إلى رجل الشارع وإلى الفلاح المصرى ؟
المتسائلون كانوا لا يعرفون حجم المعاناة التى كنت أعانيها من أمن الدولة بسبب الصراحة المطلقة فى الغرف المغلقة ..... فكيف إذا خرجنا للشارع ..!!
وخاطرنا ونزلنا للشارع لنحقق أهم هدفين للرواق والمركز وكانا " إصلاح التعليم المصرى " ، و" تعليم المصريين حقوقهم السياسية " .
انطلق المركز وأعمدة الرواق بهذين المشروعين إلى قرى مصر وأحيائها الشعبية وكانت النتيجة إغلاق المركز والموجة الثانية من القبض على القرآنيين والقبض على د.سعد الدين إبراهيم ومجموعة من العاملين فى مركز ابن خلدون ...

وتركت مركز ابن خلدون وبعد أن استقرت أحوالى نسبيا فى أمريكا وجدت طريقى لفضاء الأنترنت فعثرت على موقع الحوار المتمدن ، فوجدت فيه صورة أبهى لرواق ابن خلدون .

ثالثا

(ومثل رواق ابن خلدون) تميز موقع الحوار المتمدن بمحافظته على مزيتين قلما أن تجتمعا فى مكان واحد وهما سقف الحرية العالى ولغة الحوار الراقية التى تعلو عن كثير من المتداول فى المواقع العربية .
سقف الحرية لا يظهر فقط فى حرية الكاتب على التعبير ، وإنما أيضا فى تنوع الكتاب فى الموقع من أقصى اليمين لأقصى اليسار ؛من الملحدين إلى المؤمنين؛ من السلفيين إلى التقدميين ، وتنوع الموضوعات المطروحة. ونجح موقع الحوار المتمدن فى تقديم كتاب جدد على الساحة منهم القرآنيون والأكراد والأقباط وغيرهم .
هذه المزية فى التنوع تفتقدها بعض المواقع الأخرى ..
ومنها موقعنا " أهل القرآن " الذى لا يقتصر فقط على القرآنيين ولكنه يضع شروطا للنشر يضيق بها هامش الحرية فلا يسمح فيه بأى تطاول على القرآن الكريم أو الأستشهاد بما يسمى بالأحاديث النبوية . والسبب أن موقع"أهل القرآن " لا يعبر عن كل المثقفين العرب مثل الحوار المتمدن أو إيلاف أو عرب تايمز أو شفاف الشرق الأوسط .. وإنما يعبر عن شريحة ضئيلة من المسلمين الذين أتيحت لهم اخيرا فرصة التعبير عن إتجاهاتهم الأصلاحية فى فضاء الأنترنت .

بعض المواقع العامة المفتوحة لكل الآراء تضيق فيها حرية التعبير ، وقد كنت أنشر فى موقع علمانى مهتم بالشرق الأوسط وينادى بالشفافية ولكن طائفية القائمين عليه منعتهم من الأستمرار فى النشر لى مع أننا نقف سويا ضد ثقافة التطرف والأرهاب وهذا يدخل بنا إلى أحدى نوادر العرب فى النفاق والتسميات ....

فالحوار المتمدن جعل هدفه فى الرقى بالحوار العربى وتمدنه عنوانا له ، وبكل ذكاء أوكل للكتاب فيه مهمة أن يكونوا متمدنين راقين فى حوارهم ، وترك لهم تنفيذ هذه المهمة.
هناك مواقع أخرى وصحف ومجلات وأحزاب تزكى نفسها بأسماء رنانة وتطلق على نفسها صفات سامية لا تتحقق فيما تنشره؛ هناك صحيفة مصرية تخصصت فى الكذب والإفتراء أسمها " الحقيقة " وهناك حزب مصرى يوالى النظام الحاكم المستبد أسمه " الأحرار " وجريدته أسمها " الأحرار" وهناك " الأخوان المسلمون " وكل عقائدهم وتشريعاتهم تخالف الأسلام .... وهناك موقع " الأقباط متحدون " ولم يكن الأقباط – للأسف- متحدين فى يوم من الأيام ، وربما يتمنى أصحابه أن يتحد الأقباط يوما ونحن نشاركهم هذه الأمنية .
نجا الحوار المتمدن من هذه المحنة فأطلق على نفسه عنوانا براقا كـ "الحوار المتمدن " ولكن أوكل التنفيذ للكتاب ..... وحسنا فعل .
يذكرنا هذا بموقع "عرب تايمز" وكأن القائمين على الموقع لم يشأوا أن يقعوا فى مأزق تمجيد الذات فأطلقوا على موقعهم عنوانا محايدا هو "عرب تايمز" ليعبر العنوان عن العرب فى هذا الزمن الردىء ، ثم ترك للكتاب والمعلقين أن يكتبوا ما شاءوا بنفس سقف الحرية الأعلى فتوافد إليه العرب من كل حدب وصوب ، وكل منهم يعبر عن ثقافته وعن مستوى أخلاقه ، وصار " عرب تايمز" هايد بارك للعرب يحوى كل ما يقوله العرب من علم وجهل ومن إرتفاع وهبوط ، وهو صورة صادقة للعرب على أى حال ، تجعل عملنا الأصلاحى حتميا وضروريا ، إذ لولا وجود كل هذا المرض ما كان لنا عمل .

تحيتى لموقع الحوار المتمدن فى عامه السادس .
وأوجه نفس التحية لكل المواقع العربية العاملة فى التنوير والتثقيف.

اجمالي القراءات 20864