المرشد المؤسس يضع نفسه فى مصافّ الأنبياء مستشهـــــــــــدا بالآية «كذلك جعلنا لكى نبى عدوا... فذرهم وما يمترون»
حلمى النمنم يكتب: حقيقية تزوير البنا والإخوان لتاريخ تأسيس الجماعة
من بين رموز الحركة الإسلامية المعاصرة بقيت مشاعرى محايدة تجاه الشيخ حسن البنا مؤسِّس جماعة الإخوان المسلمين، فلا أنا تعاطفت معه وأحببته مثل الإمام محمد عبده وغيره، ولا أنا انتقدته أو هاجمته كما فعلت مع بعضهم، وفى نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، حين كنت فى مرحلة الطلب بالجامعة، كانت رسائل حسن البنا متوفرة، فقد كانت الجماعة الإسلامية منذ أن أُتيح لأعضائها السيطرة على الاتحادات الطلابية، تنشر بميزانية الاتحاد أعمال البنا وسيد قطب وغيرهما بدلا من أن توظِّف هذه الميزانية فى الأنشطة والخدمات الطلابية، وحاولتُ أن أقرأ رسائل البنا، لكنها لم تستهونى، فلم أجد فيها حرارة أسلوب سيد قطب وصوته، ولا لمحت فيها جهد الباحث والعالم كما هى الحال فى بعض أعمال الشيخ محمد الغزالى التى أُتيح لى قراءتها فى ذلك الوقت، كنت أشعر أنه متعجل فى الكتابة، وتفتقر كلماته إلى الضبط المنهجى والعلمى، واستشهاداته فى غير مواقعها؛ لذا تركته وتركت أعماله، ولم أنشغل به.. ثم فرضت علىَّ الظروف أن أقرأ أعماله كلها، منتصف التسعينيات، حين كنت أعد كتابى عن سيد قطب وثورة يوليو.. ولم يكن هو الهدف، كنت أحاول التعرف على العالم الذى ألقى سيد قطب نفسه فيه (نهاية الأربعينيات) خصوصا أن سيد قطب له مقال مطوَّل عن حسن البنا، حمل عنوان «حسن البنا وعبقرية البناء».
الواقعة التى وردت فى مذكرات الدعوة والداعية، والتى تفرض علينا -مجددا- التعامل مع المذكرات بحذر علمى، لأنها مكتوبة لجمهور التابعين والمبهورين ومقصود بها تضخيم الذات. فهى تتعلق بزيارة على بك الكيلانى -مراقب التعليم الابتدائى بالإسماعيلية- وتوجهه إلى المدرسة التى كان يعمل بها حسن البنا مدرسا للخط العربى، طبقا لما ورد فى المذكرات فإن شكوى وصلت إلى إسماعيل صدقى (باشا) رئيس الوزراء من الإسماعيلية ضد حسن أفندى البنا، تتهمه بالشيوعية، وكان صدقى باشا جادا فى محاربة الشيوعية، فأحال الشكوى إلى وزير المعارف العمومية، ومن مسؤول إلى آخر بالوزارة، حتى انتهت إلى مراقب التعليم الابتدائى الذى كان عليه أن يحقق فيها بنفسه، فذهب إلى المدرسة وقابل البنا وقال له بالحرف الواحد: «جئت لأزورك زيارة شخصية فلا تعتبرها زيارة تفتيشية أو رسميات، ولكن جئت لرؤيتك فقط، فشكرت له ذلك، وانتهزتها فرصة وقلت له: ذلك جميل يا سيدى ومن حقى عليك إتماما للزيارة وردا للجميل أن تزور بناء المسجد والمدرسة لترى بنفسك أثرا من آثار هذه الدعوة والجماعة، فوعد بذلك آخر النهار.. وتمت الزيارة فى الليلة نفسها واستمع إلى خطباء الإخوان، وقال كما يروى البنا فى المذكرات: «عجيب، هذه أعجب مدرسة رأيتها»، ولم يتمالك نفسه بعد نهاية الخطب أن قام فتناول وساما من أوسمة الإخوان، وكان شارة الإخوان إذ ذاك وساما من الجوخ الأخضر كتب عليه الإخوان المسلمون، فلبسه وأعلن انضمامه إلى الجماعة وحيا المجتمعين بكلمات طيبات».
ولدينا رواية أخرى لزيارة على بك الكيلانى، يرويها حسن البنا بنفسه، فى رسالة بعث بها إلى والده، وقد نشر هذه الرسالة جمال البنا فى كتابه «خطابات من البنا الشاب إلى أبيه»، والرسالة بتاريخ 22 شوال 1349هـ/مارس 1931م، تبدأ الرسالة هكذا:
«سيدى الوالد المحبوب...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فلعلكم جميعا بخير ما أحب لكم هناءة وغبطة.. عندى بشرتان أقولهما لكم مشفوعتين بحمد الله وشكره.. الأولى: إننا تسلمنا بقية المبلغ وهو 300 جنيه من الشركة»، والمقصود هنا مبلغ التبرع من شركة قناة السويس، ولا نعرف هل هو بقية مبلغ الخمسمئة جنيه التى كانت تبرعا لبناء المسجد، أم أنها تبرع آخر، خاصة أن مبلغ الخمسمئة جنيه كان المرشد اعتبره «دفعة أولى» أو بداية لتبرعات أخرى تمناها، ما يعنينا فى هذا السياق، البشرى الثانية، لأنها تتعلق بزيارة على بك الكيلانى، يقول لوالده فى الخطاب: «إن سعادة مراقب التعليم الابتدائى على بك الكيلانى زار الإسماعيلية، وزار المدرسة وكان له بها حفل تكريم حضره الأعيان والموظفون، وكنت خطيب القوم، فسر الرجل سرورًا جمًّا تضاعف بزيارته لى فى الفصل، بما رأى من نظام ونشاط»، ويقول أيضا: «ثم إنه زار فى الليلة التالية المسجد ومدرسة التهذيب ومعه المأمور والمعاون ووكيل النيابة والناظر والمدرسون، فدهش لما رآه من نظام الجمعية والمسجد والمدرسة، ووقع فى دفتر الزيارة ثم انتقل هو والمدعوون إلى بوفيه شاى وتناول الشاى فى حفل عظيم، وخطب الإخوان خطبا وقصائد فى الترحيب به، فزاده كل ذلك وقام محييًا الجمعية والإخوان».
نحن -هنا- بإزاء رواية مغايرة تماما، زيارة «البك» كما فى الخطاب، لم تكن للتحقيق ولا للمساءلة ولا لإبداء الإعجاب بالمدرس، الزيارة كانت للإسماعيلية وللمدرسة وكانت هناك حفلة لتكريمه معدة سلفا، وزيارته للفصل كانت بعد أن استمع إلى خطبة ألقاها المدرس، أى أنها لم تكن واردة من قبل، ولا أنها زيارة للتحقيق وللمساءلة، ولو كانت للتحقيق لم يكن ليصحبه فيها الأعيان وكبار الموظفين.. ولو كانت زيارة للمساءلة لوقع أوراقا أو كتبا نتيجة التحقيق أو اتخذ أى قرار أو ترك وصية للناظر، ولنقل تعليمات إليه، لكن كما هو واضح من الخطاب أنها زيارة تكريمية معدة سلفا، للمراقب العام، وأن البك خطط من قبل لزيارة المدينة والمدرسة ولم تكن «زيارة مفاجئة»، ولم يرد فى الخطاب أن البك بادر بالانضمام إلى الجماعة، ولا أنه تناول شارة الجماعة وارتداها تلقائيا.. كما ذكر البنا فى المذكرات.. ويعقب جمال البنا بعد نشر الخطاب بالقول: «وقد أصبح الأستاذ على الكيلانى بعد ذلك من الإخوان»، وبالتأكيد لو أن البك انضم إلى الجماعة وهو فى الإسماعيلية لأخبر حسن البنا والده فى خطاب، فلم يكن يخفى عنه شيئا.. وكان يتفاخر فى رسائله إليه بما يحققه وينجزه، والآن.. ونحن بإزاء روايتين لواقعة واحدة، بينهما تباين كبير واختلاف شديد، والراوى فى الحالتين هو حسن البنا.. فأى الروايتين نأخذ وأيهما نستبعد؟ المعنى المهم هو أننا فى تأريخنا ودراستنا لحياة ومسيرة حسن البنا، نقع أسرى أحادية المصدر -غالبا- وهذا المصدر هو حسن البنا نفسه.. ومن أسف أن بقية خطابات حسن البنا وأوراقه الخاصة فى حوزة نجله إلى الآن، ولم يتح لأحد الاطلاع عليها ولا هو نشرها، هكذا قال جمال البنا فى كتابه «خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه».
المذكرات تمتلئ إعجابا بالذت، بل امتنانا، والغريب أن الجميع أخذوا كل ما بها باعتباره حقيقة لا تقبل أى شك أو حتى مساءلة، مثلا يحكى البنا حين ذهب إلى الإسماعيلية وأخذ يلقى الدروس بالمقاهى فيقول عن نفسه: «كان المدرس دقيقا فى أسلوبه الفريد الجديد، فهو يتحرى الموضوع الذى سيتحدث فيه جيدا (...) وهو كذلك يتحرى الأسلوب فيجعله سهلا جذابا مشوقا».. ألم يكن الأجدى أن يترك للآخرين أو لجمهوره والمستمعين إليه أو من يتابعونه أن يطلقوا عليه هذه الصفات؟! وفى سياق آخر يتحدث عما قام به تجاه أهالى الإسماعيلية أو بعضهم، ولنتذكر أنهم مسلمون موحدون، يقول: «سلك بهم المدرس مسلكا عمليا بحتا، إنه لم يعمد إلى العبارات يلقيها أو إلى الأحكام المجردة يرددها، ولكن أخذهم إلى الحنفيات توا، وصفّهم صفا ووقف فيهم موقف المرشد إلى الأعمال عملا عملا، حتى أتموا وضوءهم ثم دعا غيرهم، ثم غيرهم، وهكذا أصبح الجميع يتقنون الوضوء عملا».
ترى هل مطلوب منا أن نصدق ونقتنع بأن مواطنين مسلمين يعيشون فى بلد مسلم بحاجة وهم فى سن متأخرة إلى من يعلمهم الوضوء أو إتقان الوضوء؟!
ويحاول أن يمنح نفسه صفات أخرى، مثلا حين كان يتهيأ لامتحان التقدم إلى دار العلوم، وكان قلقا بشدة من امتحان النحو والصرف فلم يكن درسه دراسة منتظمة، صحيح أنه حفظ ألفية ابن مالك، لكنه قلق، فهو لا يجيد قواعد النحو، ولنتأمل كيف تجاوز هذه العقبة. يقول فى مذكراته، إنه ليلة الامتحان نام، ورأى رؤية خاصة حلت له المشكلة: «رأيت فيما يرى النائم أننى أركب زورقا لطيفا مع بعض العلماء الفضلاء والأجلاء يسير بنا الهوينى فى نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان فى زى علماء الصعيد، وقال لى: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال لى: تعال نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات عينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحا مسرورا، وفى الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات»، ثم ظهرت النتيجة ونجح! ترى أى معنى يصل إلى القارئ هنا، خاصة إذا كان تلميذا أو دارسا؟! أليس فى ذلك دعوة إلى إهمال العمل، أى المذاكرة، وأن رؤيا فى المنام سوف تقوم عنه بكل شىء؟! ولن نذهب -هنا- إلى ما يقوله علماء التحليل النفسى عن مثل هذا النوع من الأحلام والرؤى.
فى المذكرات نجد ما يمكن أن يعد خفة أو استسهالا فى استعمال الآيات القرآنية الكريمة.. من ذلك ما يرد حول شراء الأرض لبناء مسجد للجماعة بالإسماعيلية، والذى حدث أنه وجد قطعة من الأرض وأعلنت الجماعة أنها سوف تشتريها أو تقبل التبرع، كانت القطعة ملك الحاج على عبد الكريم ويصفه بأنه «كان صالحا يحب الخير»؛ لذا تبرع بقطعة الأرض وكتبوا معه عقدا ابتدائيا بالتنازل عنها، ولكن «أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب فى نفوس ذوى الأغراض» وما أن علموا بأن الشيخ على عبد الكريم تنازل عن قطعة الأرض حتى ضيقوا عليه الخناق وملؤوا نفسه بالوشايات والدسائس.. (..) فكانت فتنة انتهت بأن سلمته ورقة التنازل عن طيب خاطر..»، ووجدوا قطعة أرض اشتروها ودفعوا ثمنها.. نحن إذن بإزاء رجل تبرع ثم قرر التراجع أو لعله طلب ثمنا لها، وهذا وارد وربما كان متوقعا ويستعرض البنا ما قيل عنهم إبان تلك الأزمة: «راحوا يصورون الدعوة والداعية للناس بصور شتى: فهم تارة يدعون إلى مذهب خامس وهم أحيانا شباب طائش لا يحسن عملا ولا يؤمن على مشروع، وهم أحيانا نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا..» ولو كان الأمر كذلك لما وجدوا من يبيعهم قطعة أرض أخرى ولو جدوا معارضة فى بناء المسجد، المسألة ببساطة -كما هو واضح- أن المتبرع لم يقتنع وسحب تبرعه، لكن المرشد العام لا يضعها فى هذا السياق، فحين راح يرويها فى مذكراته بدأ الحديث عنها هكذا «ولكن دعوة الحق فى كل زمان ومكان لا بد أن تجد لها من المعارضين والمناوئين من يقف فى طريقها، ويعمل على معاكستها وإحباطها، ولكن النصر لها فى النهاية، سنة الله «فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا» (فاطر: 43)، «وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا»، (الفرقان: 31»، «وكذلك جعلنا لكى نبى عدوا...... فذرهم وما يمترون» (الأنعام: 112) «وما أرسلنا من قبلك/........ والله عليم حكيم» (الحج: 52).
هذه الاستشهادات القرآنية استشهد بها المرشد المؤسس فى واقعة سحب المتبرع تبرعه.. ومعنى هذا الاستشهاد أنه يضع نفسه فى مصاف الأنبياء الذين نزل فيهم قول الله تعالى فى الآيات السابقة.. وأن الذين يعترضون على دعوته وجماعته هم من المجرمين ومن الشياطين.. والواقع أن هذا استسهال بالغ، فلا هو فى مكانة الأنبياء ولا خصومه من الشياطين وليسوا مجرمين، والاستشهاد والقياس خاطئ تماما، لكن خطورة هذا الخطاب أنه انزلق منه إلى أتباعه وإلى غيرهم، فصارت آيات القرآن الكريم تُستعمل فى غير سياقها، ويضفى البعض على نفسه هالة من القداسة ويتم شيطنة المخالفين لهم ومن ثم تكفيرهم، وما يحدث بعد ذلك، فى حق هؤلاء المخالفين، يكون مجرد نتيجة فقط.
هذه الصورة شبه المقدسة التى يرسمها المرشد لنفسه فى مذكراته، تفتقر إلى التضاريس الإنسانية البسيطة من غضب وفرح.. حب وكره.. انفعال وفتور وغير ذلك، مما يصاب به البشر أجمعون، كبيرهم وصغيرهم، وهى صورة ليست حقيقية، الصورة الحقيقية نجد شيئا منها فى بعض الرسائل التى بعث بها المرشد المؤسس إلى والده، فور وصوله الإسماعيلية، ونشرها جمال البنا، واحدة من هذه الرسائل كانت تتحدث فيها عن مصاريفه الخاصة لمدة ثلاثة أشهر، وضع مفردات الإنفاق، ويبدو أن والده كان غاضبا منه ووالدته كذلك؛ لأنه كان من المفترض أن يرسل إليهما مبلغا من راتبه الشهرى، ولم يتمكن من الوفاء بذلك، ويتوقع جمال البنا أن تكون الرسالة قد كُتبت فى أواخر سنة 1928م أو بداية سنة 1929م، يفيدنا هنا منها بعض الجمل مثل «وعلى كل حال الذى يهمنى راحتكم مهما كلفنى ذلك، وسأفصل لكم فى هذا الخطاب حساب ثلاثة أشهر مضت هى نوفمبر وسبتمبر وأكتوبر، أى منذ فارقتكم لتعلموا أنه ليس فى تصرفى شىء من الإسراف ولا الخفاء ولا الاستبداد برأيى، وإنما أنا مساق بقوة الظروف التى لا تُغلب، وإذا كانت ظروفى هكذا فما ذنبى أنا».
وكان بين مصاريفه مبلغ خمسين قرشا كتب أمامها عبارة «لمسجد الراشدين»، ويقول للوالد عنها: «وإن كان يؤلمكم الخمسون قرشا التى دفعت فى المسجد فقدروا الظروف التى تورطت فيها لدفعها وقدروا أجرها»، والواضح أنه كان قد تبرع بها، ويقول له كذلك: «ذلك يا سيدى حساب ثلاثة أشهر أتقدم إليكم أدق من الشعرة، فإن كان لا يروقكم فما ذنبى أنا فلتسألوا الله أن يحور هذه الظروف».
فى هذه الرسالة نحن أمام إنسان حى.. من دم ولحم، لديه أزمة اقتصادية خانقة حتى إنه يقول: «واقترضت من مال الجمعية جنيها آخر وهى تمام المنصرف»، وسبب هذه الأزمة يعلنه لوالده وهو يقدم له قائمة المصاريف: «لست أغشكم أو أكذب فى هذا» ويقول فى رسالة أخرى لوالده بتاريخ 26 نوفمبر 1928م: «أنا الآن لا أسهر فى الخارج قطعيا، وفقط سأجعل ليلتين فى الأسبوع أدرس فيهما بعد العشاء فى مسجدين»، والواضح أنه كان كثير السهر وأن والده لم يكن مستريحا لذلك، أو لعله أنبه على طول السهر خارج البيت، لكن هذه الصورة الإنسانية جرى طمسها، والمرشد نفسه هو من طمسها فى المذكرات، فقد قدم صورته الأسطورية أو الربانية التى يريدها فى مذكراته، وباتت هى الصورة الوحيدة والأحادية له.. لذا نعيد التساؤل من جديد: هل تصلح هذه المذكرات وحدها لتقديم صورة المرشد المؤسس حسن البنا؟ والإجابة القاطعة هى النفى.. لكن واقع الحال يقول إنه المصدر الوحيد المتاح والمعتمد والمسلَّمف به لذلك.
لا تقف الصعوبة المنهجية والعلمية عند تناول حياة حسن البنا وحده، خاصة فى مراحله الأولى لكنها تمتد إلى قيام جماعة الإخوان وتأسيسها هذه أيضا مصدرنا الأساسى فيها هو حسن البنا نفسه وما ذكره فى مذكراته، ولن أعيد هنا روايته فهى معروفة لكن تحوط هذه الروايات العديد من الإشكاليات.. هل تم الأمر بالسهولة والبساطة التى تحدث بها البنا، مجموعة من المسلمين ذهبوا إليه يطرقون بابه ويطلبون إليه أن يقودهم فيطلب منهم هو البيعة فيقدمونها؟! هل ذهب حسن البنا إلى الإسماعيلية وهو لم يختر المدينة ولا كان يعرفها وفى ذهنه مشروعه الخاص أم أنه كان متأثرا بتجربته أو عضويته فى جمعية الشبان المسلمين وأراد أن يؤسس شيئا على غرارها أم كان لديه متسع من الوقت فى تلك المدينة الجميلة وأراد أن يشغل فراغه فقرر أن يقوم بما حاول وتمنى القيام به فى القاهة أو ما قام به من قبل فى مدينته الأولى المحمودية وهو طفل وصبى؟!
واحدة من المصاعب تتعلق كذلك بتاريخ تأسيس الجماعة، نحن اليوم نعرف تاريخ تأسيس حزب الوفد خطوة خطوة يوما بيوم، وليس حزب الوفد فقط بل غيره من الأحزاب سواء منها فى التجربة الأولى زمن مصطفى كامل والشيخ على يوسف فى مطلع القرن العشرين.. أو فى التجربة الحزبية الثانية بعد ثورة 1919م ونعرف كذلك تواريخ تأسيس الأحزاب فى التجربة الثالثة التى بدأت فى عام 1976 وما زلنا نعايشها إلى اليوم.
نعرف كذلك تفاصيل تأسيس الجمعيات الأهلية الأخرى سواء منها ما يختص بالعمل الخيرى والإنسانى أو العمل العلمى والثقافى مثل الجمعية الجغرافية المصرية «سنة 1875» وجمعية الاقتصاد والتشريع «1910م» وهكذا فى بقية الجمعيات.. كما أننا نعرف بالتدقيق تاريخ وقصة تأسيس جمعية الشبان المسلمين ومن وقف خلفها، لكن فى حالة الإخوان المسلمين لا تتوافر لدينا مثل هذه التفصيلات والمعلومات الدقيقة ومصدرنا الأساسى عنها هو حسن البنا الذى باتت روايته المصدر الوحيد والمعتمد.
السائد بيننا أن حسن البنا أسس جماعته سنة 1928م، أى بعد شهور من تعيينه مدرسا للخط العربى بإحدى المدارس بمدينة الإسماعيلية لكن الوثائق التى نشرها شقيقه جمال البنا تجعلنا نتشكك فى ذلك التاريخ، فهناك دراسة أو مذكرة أعدها البنا وأحمد السكرى وحامد عسكرية سنة 1348 هجرية، بعنوان «مذكرة فى التعليم الدينى» وهذه السنة يقابلها عام 1929 ميلادية ونجد أن توقيعات البنا وزميليه ليس فيها أى شىء عن الجماعة بل جاءت التوقيعات هكذا «حسن أحمد البنا مدرس بمدرسة الإسماعيلية الأميرية الابتدائية، و«أحمد محمد السكرى سكرتير مدرسة الأمير عمر طوسون الابتدائية التابعة لمجلس مديرية البحيرة»، و«حامد عبده عسكرية واعظ منطقة القناة..». أما ديباجة المذكرة فهى غاية فى المسالمة والتوادد للجميع فى مصر، إذ تقول «لم نرَ بدا من تقديم هذه الكلمة المفصلة إلى جلالة مليكنا المفدى وإلى سمو أمرائنا المحبوبين وإلى معالى وزرائنا المصلحين وإلى مجلس نوابنا وشيوخنا الموقرين الغيورين على مصلحة أمة ترى فيهم معقد آمالها ورمز أمانيها.. وإلى رجال الأزهر الشريف ووزارة المعارف الذين بيدهم ثقافة الشعب وتربية الأمة». الخطاب هنا موجه إلى كل مستويات الدولة المصرية وخاطبوا كلا منهم بما يحبه ويتمناه، فالوزراء مصلحون، والأمراء محبوبون، ورجال البرلمان موقرون وغيورون على مصلحة الأمة، وفوق هؤلاء جميعا «مليكنا المفدى» صاحب الجلالة الملك فؤاد الذى كان يراه كثير من المصريين وقتها مستبدا وطاغية هو كان كذلك بالفعل.
ترى هل كانت هذه المذكرة والتفكير حولها تمهيدا لما انتهى إليه هؤلاء من تأسيس الجماعة، وأن تلك المذكرة وفترتها كانت بداية اللقاء والتدارس فى الأمر والشأن العام وهو ما انتهى بهم إلى تأسيس الجماعة؟ وبذلك لا يمكن أن نعتمد عام 1928 ميلادًا لها، فلو كانت الجماعة تأسست بالفعل لحرص مؤسسها وزميلاه على أن يرفعوا المذكرة مذيلة باسم الجماعة، ففى ذلك إعلان عنها ورفع لاسمها أو على الأقل لذكروها بأى طريقة فى المذكرة أمام من يمكن أن تقع فى يده هذه المذكرة من المسؤولين، فضلا عمن يمكنه أن يطالعها من الجمهور والمهتمين بهذه القضية. ولو كانت الجماعة أسست لحرص ثلاثتهم على أن يذكروا أن مذكرتهم تعبر عن الجماعة أى ليست تعبر عنهم وحدهم، بل معهم فئة وجمهور آخر، وهذا يدعم منها ويقوى صوتها وصوتهم.. أم أن الجماعة كانت أسست فعليا ولم تنل موافقة الجهات الرسمية عليها، ومن ثم فقد قدم البنا مذكرته أو أعلنها تطمينا للجهات الرسمية وإثباتا بأنه ليس من ورائهم أى هدف سياسى، فهم أناس مخلصون وغيورون على دينهم ومحبون للمماليك وللأمراء وللوزراء وربما للخفراء أيضا.. خصوصا أن مؤسسى الجماعة كانوا مواطنين عاديين لم يكن من بينهم «بك» ولا شخصيات عامة كما كان الحال بالنسبة إلى جمعية شبان المسلمين التى تأسست سنة 1927م، لكن يضعف من هذا الاستنتاج أن الجمعيات الدينية والخيرية وقتها كانت تجد الموافقة الفورية فى تلك الفترة كان هناك نحو 120 جمعية دينية.
أيا كان الأمر ففى زمن الملك فؤاد كان هناك ترحيب بهذا اللون من الجمعيات لأسباب عامة تتعلق بالرغبة فى مقاومة جمعيات التبشير الأجنبية التى انتشرت، وربما حرصا على نشر الفضائل، وكان هناك سبب يتعلق بالملك، فالملك فؤاد منذ إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924م كان يحلم بأن تنتقل إليه الخلافة، وكان يحاول أن يبدو مدافعا عن الإسلام وعاملا على إحياء تقاليده.
حسن البنا ظل يتحدث عن الجماعة باعتبار أنها تأسست سنة 1928، وتبعه فى ذلك كتاب الجماعة ومعظم المؤرخين لها، لكن هناك وجهة نظر أخرى تقوم على أن الجماعة تأسست فى العام التالى أى سنة 1929 عام الأزمة الاقتصادية العالمية، وأصحاب هذا الرأى يؤسسون موقفهم على أن البنا لم يكن ممكنا أن يؤسس «جمعيته» فور وصوله إلى الإسماعيلية طارئا عليها وغريبا، لكن إذا اتخذنا اللائحة الأولى وهى وثيقة رسمية معيارا للتأسيس فإن «جمعية الإخوان المسلمين» تأسست سنة 1930م، وليس قبل ذلك بعامين كما هو سائد ولا قبلها بعام كما يذهب بعض الدارسين الغربيين خاصة، ولأن الجمعية كانت مغمورة ومؤسسها كذلك فلن نجد أى خبر فى الصحف عنها لحظة التأسيس، ولو أن هناك خبرا بهذا المعنى لحسم لنا تاريخ التأسيس وهكذا طبقا للائحة المتاحة فإن الجماعة رأت النور فى عام 1930.
اللائحة الأولى تتحدث عن جمعية الإخوان وليس جماعة لا ترد فيها نهائيا كلمة جماعة، لذلك ليس هناك حديث عن مرشد عام ومكتب إرشاد، لكن رئيس مجلس إدارة ومجلس إدارة. وتنص اللائحة بوضوح على ابتعادها التام عن السياسة، إذ تنص المادة الثانية على أن هذه الجمعية لا تتعرض للشؤون السياسية أيا كانت ولا للخلافات الدينية ولا صلة لها بفريق معين للإسلام والمسلمين فى كل مكان وزمان.
هذه المادة من الناحية العملية تعد المادة الأولى، إذ إن الأولى فى اللائحة هى ديباجة الجماعة والمادة الثالثة تتحدث عن أغراض الجمعية، وهى إصلاح حال المسلمين فى فروع حياتهم الاجتماعية والخليقية.. «هذه كل الأغراض، ويتم تحديد وسائل تحقيق هذه الأغراض فى حدود القانون»، ومنها مقاومة الأمية وتعليم القرآن ثم الدفاع عن الإسلام فى حدود القانون، وهذا معناه الالتزام بالقوانين القائمة واحترامها. ويتأكد البعد عن السياسة فى المادة 15 وهى ضمن الباب الرابع المتعلق بالجمعية العمومية ويرد فيها «يفتتح الرئيس الجلسة»، لنلاحظ مرة ثانية أن الحديث ليس عن مرشد ولا عن إمام، بل عن رئيس، ثم تقول المادة «لا يجوز مقاطعة المتكلم ولا التعرض للسياسة أو الشخصيات»، أى أنه ليس واردا فى اجتماع الجمعية العمومية أن يتحدث أى عضو فى السياسة أو أن يتعرض لأى شخصية سياسية، لكن ماذا لو فعل ذلك أحد الأعضاء؟ الحل فى نفس المادة، إذ تنص على أن «للرئيس أن ينذر أى عضو يخرج عن آداب الجمعية وله أن يخرجه».
أما خاتمة هذه اللائحة وهى المادة 43، فتنص على أنه لا يجوز بحال من الأحوال تعديل شىء من هذا القانون إلا بموافقة ثلاثة أرباع مجلس الإدارة المنعقد لذلك، ولا يجوز بحال تغيير المواد الثانية والثالثة والسادسة، أى أن الجمعية العمومية نفسها لا تملك تغيير ما يتعلق بالابتعاد عن السياسة، وكأنها هوية الجمعية ولا وجود لها إلا بتجنب السياسة. ورغم هذا فقد أطيح بهذه المواد فى أول تعديل للائحة. ففى سنة 1354 هجرية أى بعد انقضاء نحو 5 سنوات، تم تعديل قانون الجمعية، ونجد أن المادة الثانية حذفت بالكامل، ونلاحظ كذلك اختفاء كلمة جمعية من النص ليحل محلها الجماعة. ويختفى بالتالى مسمى مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة لكن يظهر لقب «المرشد العام»، ثم يتم الحديث عن البيعة التى يقدمها العضو المنضم إلى الجماعة ويتلقاها المرشد العام أو من ينوب عنه. ويرد فى اللائحة مادة 8 بالنص «وليس فى نظام الإخوان الإقالة ولا استقالة، فإن عماد الفكرة الإيمان الروحى ويجوز أن يعتذر الأخ عن مزاولة بعض الأعمال الإدارية إذا طرأ عليه ما يحول دون قيامه بها من غير أن يؤثر فى منزلته وصلته بالجماعة بحال».
وبينما كان فى اللائحة الأولى ممنوعا على العضو أن يتحدث فى السياسة فى أثناء الاجتماع، وأنه يجوز للرئيس إخراج العضو، يختفى كل ذلك وتحل محله فى المادة 16 هذه العبارة «لا يعلو الصوت بالنقاش ولا يقاطع المتكلم ويتجنب الجدل والمراء وإطالة القول فى غير فائدة وتحترم رياسة الجلسة ويستمع لها ويستأذن منها».