من فيتنام.. للجزائر.. للعراق

سعد الدين ابراهيم في الإثنين ٠٥ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نعم، وأنا أتجول في فيتنام مع زوجتي وابني، ونتحدث مع الفيتناميين وبعض الزائرين الأجانب، كنت أسترجع حكايات من التاريخ، وأتذكر سيرة القيادات التاريخية العملاقة لهذا البلد الأسيوي الفقير، الذين قادوا مقاومته الشعبية ضد ثلاث قوى أجنبية محتلة في القرن العشرين ـ وهي اليابان، وفرنسا، والولايات المتحدة، وانتصر عليها جميعاً، رغم تضحيات جسيمة من دماء أبنائه.
كان أحد المشاهد التي طافت بخاطري، هو مشهد استسلام القوات الفرنسية في قلعة "ديان - بيان – فو" للمقاتلين الفيتناميين في ربيع 1954، وكان الزعيم الفيتنامي الأسطورة "هوتشيه منه" هو الذي بدأ حركة المقاومة الشعبية، ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده، منذ ثلاثينيات القرن العشرين أي أنه حينما سقطت آخر معاقل الفرنسيين في "ديان - بيان – فو" عام 1954 كان قد مضي على بداية حركة المقاومة الشعبية المسلحة حوالي عشرين عاماً، تخللتها الحرب العالمية الثانية واحتلال ياباني آخر لفيتنام، أي أنه في بعض مراحل المقاومة المبكرة هذه، واجه الفيتناميون فرنسا، ثم اليابان، ثم فرنسا مرة أخرى، وبعد ذلك الولايات المتحدة لعشرين سنة أخرى.
كنت مازلت في بداية مرحلة الدراسة الثانوية في مصر، حينما سمعنا وقرأنا عن هزيمة واستسلام الفرنسيين في ديان - بيان - فو، في أوائل 1954 واسترعى نظري في ذلك الوقت أن بعض الجنود الفرنسيين الذين استسلموا كانت سحناتهم سمراء، وملامحهم عربية وأفريقية.
وعرفت في ذلك الوقت المبكر أن فرنسا كانت تجند أبناء مستعمراتها في شمال أفريقيا ـ وخاصة الجزائر ـ ليحاربوا، نيابة عنها في مستعمراتها في "الهند الصينية"، وخاصة فيتنام، ولأن التاريخ حلقات متصلة ومتداخلة، فإن مشهد الاستسلام في ديان- بيان - فو أثبت للجنود المغاربة والجزائريين الذين كانوا ضمن قوات الاحتلال الفرنسية، أن الإنسان الأوروبي الأبيض، الذي كان يبدو لهم "سوبرمان"، يمكن أن ينهزم ويستسلم لإنسان آسيوي أصفر.
لذلك حينما عاد الجنود المغاربة والجزائريون إلى بلادهم بعد انسحابهم مع القوات الفرنسية من فيتنام، نقلوا تفاصيل المشهد لأقرانهم الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي لبلادهم بالطرق التقليدية المعتادة، وهي المظاهرات والهتافات والشعارات اللفظية، من قبيل "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"! بدأ "العائدون من فيتنام" يدعون لأسلوب جديد في الكفاح، وهو المقاومة الشعبية المسلحة. ولذلك لم تكن صدفة أن انفجرت الثورة الجزائرية المسلحة في نوفمبر 1954 أي بعد ديان - بيان - فو بستة أشهر.
وهكذا يتجلي ما يسميه البعض "مكر التاريخ"، ويسميه علماء الاجتماع "النتائج غير المقصودة للسلوك الإنساني". أو هي قبل ذلك وبعد ذلك مصداقاً لقوله عز وجل "ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين" فلم يعتقد الفرنسيون حينما استحدثوا سياسة تجنيد أبناء المستعمرات هنا، لإخضاع أبناء المستعمرات هناك، أن تلك السياسة ذاتها ستكون هي مسامير نعوشها، وهي تجلو عن تلك المستعمرات، فكما حدث لها بعد ديان - بيان - فو عام 1954 سيحدث لها بعد ثماني سنوات ومليون شهيد من الثورة الجزائرية المسلحة عام 1962.
فما هي الخطوط التي تجمع بين فيتنام والجزائر والعراق؟ ـ الخط الأول هو الاحتلال الأجنبي.
ـ الخط الثاني هو المقاومة.
ـ الخط الثالث هو الكفاح الشعبي المسلح.
وقد اتضح من تجارب عديدة أن "الاحتلال الأجنبي"، مهما كانت أسبابه ومبرراته، لا بد أن يفرز "مقاومة وطنية"، حتى لو كان المحتلون "ملائكة". ومهما كانت هناك أسباب موضوعية، مثل استيفاء ديون، ومهما كانت المبررات وجيهة، مثل تخليص شعب من حاكم ديكتاتوري، أو من نظام دموي مستبد، وحتى لو رحب به بعض الناس في البداية، فإن عاجلاً أو آجلاً، يستيقظ الضمير الوطني، وتبدأ الدعوة لإنهاء الاحتلال.. وتكون هذه الدعوة في البداية سلمية. ولكن عدم الاستجابة من قوى الاحتلال يدفع أبناء البلد المحتل لرفع السلاح، وهو ما حدث ويحدث في البلدان الثلاثة، التي وردت أسماؤها في عنوان المقال.
فحينما احتلت فرنسا فيتنام والجزائر، كانت مبرراتها هي أن لديها "رسالة حضارية"، وهي تمدين الشعبين. وحينما انسحبت فرنسا من فيتنام وحلت محلها أمريكا كقوة محتلة، ادعت أنها ذهبت إلى هناك لإنقاذ الشعب الفيتنامي من "الخطر الشيوعي" الذي يهدده من الشمال، أي الصين الشعبية، أو قوات هوتشيه منه، والذي كان بدوره شيوعياً، وحليفاً للصين وللاتحاد السوفييتي.
وفي حالة العراق، فإن أمريكا ادعت أنها ذهبت إلي هناك لتخليص الشعب العراقي من طغيان صدام حسين، ومن استبداد حزب البعث، وللبحث عن أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن تهدد المنطقة والعالم. وفي حالة أفغانستان، كان المبرر هو القضاء علي تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، وخاصة بعد تفجيرات مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاجون في واشنطن.
هوعادة ما يكون بعض هذه الأسباب والمبررات صحيحاً. ولكن الغالب الأعم هو أنها تخفي أجندة أخري غير معلنة ـ مثل استغلال الموارد الطبيعية أو احتكار الأسواق، أو الاستفادة من الموقع الجغرافي الاستراتيجي أو لنشر أفكار وقيم أيديولوجية معينة.
وسرعان ما تتضح الأجندة الحقيقية للمحتلين، فتتبلور المقاومة الوطنية تدريجياً، ثم تأخذ في بعض الأحيان صورة الكفاح المسلح. لقد حدث ذلك في فيتنام بعد حوالي مائة عام من الاحتلال، وفي الجزائر بعد مائة وثلاثين عاماً، وفي العراق في غضون عدة شهور.
ولأن المقاومة الوطنية عادة ما تواجه قوات احتلال أكثر تنظيماً وعتاداً وتسليحاً، فإن خسائر المقاومة الوطنية تكون عادة فادحة، إلي أن تتعلم هذه المقاومة استراتيجية "الحرب الشعبية الممتدة"، وتكتيكات العصابات، التي تعتمد علي "الضرب والهرب" Hit and Run وفي حالة فيتنام ارتبطت إجادة هذه الاستراتيجية باسم الجنرال "جياب"، الذي كان تلميذاً نابهاً لزعيمه هوتشيه منه.
وفي حالة الجزائر، ارتبطت نفس الاستراتيجية بأسماء عديدين منهم أحمد بن بيلا، وهواري بومدين، وفي حالة أفغانستان ارتبطت بأسماء غير أفغانية أهمها أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، واسم أفغاني واحد هو الملا عمر، ولا نعرف بعد أسماء قيادات المقاومة في العراق.
وهناك توصيف آخر للحروب الشعبية الممتدة، وهي "حروب الاستنزاف" wars of
Attrition وقد سُميت كذلك لأن نفقاتها المادية باهظة علي جيش الاحتلال. فاستخدام الطائرات والدبابات والآليات الأخري باهظ التكاليف. من ذلك علي سبيل المثال أن تكاليف قوات الاحتلال الأمريكي في العراق هي حوالي تسعة مليارات دولار شهرياً، أي أكثر من مائة مليار سنوياً. وربما هذا الاستنزاف المادي هو الذي يوقظ دافعي الضرائب عند قوي الاحتلال فيبدأ التبرم، ثم السخط علي القيادات التي روجت ونفذت الاحتلال في المقام الأول.
ثم حينما تبدأ أعداد القتلي تتزايد، فإن الشباب من أبناء البلد الذي أمرت حكومته بالاحتلال، تتظاهر ضد حكومتهم. وهذا ما حدث أثناء حرب فيتنام، على نحو ما ذكرت في مقالي السابق. وهو ما يحدث الآن في حالة العراق، فالشباب الأمريكي هو الذي يقتل يومياً بسبب احتلال قوات بلاده للعراق.
وهذا هو السبب الذي دفع الجنرال المتقاعد ريكاردو سانشيز، للتعليل قبل أسبوعين، بأنه لا يمكن لأمريكا أن تكسب الحرب في العراق. ولم تكسب أي قوة محتلة ـ أمريكية أو فرنسية أو بريطانية أو إسرائيلية ـ الحرب ضد مقاومة شعبية مسلحة مستخدمة استراتيجية حروب الاستنزاف الممتدة، لذلك فأنا علي يقين أن أمريكا ستخرج مهزومة من العراق، إن آجلاً أو عاجلاً، كما حدث لها ولفرنسا في فيتنام من قبل، وكما حدث لإسرائيل في جنوب لبنان وفي غزة من بعد. ولكن ماذا بعد هزيمة الاحتلال؟ هذا موضوع آخر لمقال آخر.

اجمالي القراءات 3694