سألت روماني، فقال...

آية محمد في الإثنين ٢٩ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


أسمه روماني, وهو مواطن مصري "قبطي" أرثوذكسي من صعيد مصر، وبالتحديد من محافظة سوهاج. يعمل في مجال التصوير، هو فنان موهوب لكن مسكين الحال مثله في ذلك مثل غالبية الشباب المصري الذي يتخبط من الفقر وضيق الرزق، يسعى في الأرض بحثا عن لقمة العيش، لا يعنيه ما يحدث حوله من خبث وخبائث، فرزقه يشغل باله، وسعيه يملأ وقته. أعرف روماني منذ فترة، وأحوال تشجيعه على الموهبة التي يمتلكها، أعطيه صور أولادي ليعيد تشكيلها وتركيبها بطريقته الخاصة. وعلى طريقة الكرم المصرية، يرفض أن ي&Atildlde;خذ مالا مقابل ما يقوم به من أجلي، ولكنني دائما ما أصر أن أعطيه المال بالطريقة المصرية "والله هزعل يا روماني". أبحث دائما عن أي صور قديمة عندي ليعيد تشكيلها، وهذا فقط لتشجيعه ومساعدته ماديا لأني أحب أن أساعد المجتهدين وأرفض أن أمد يدي لمساعدة الكسالى والمتقاعسين.

روماني شاب بسيط جدا، كلامه يدل على بساطة عقله وبراءة قلبه وحسن نيته، وهو شاب مهذب يعرف حدوده ولا يحاول أن يتعداها. جاء روماني إلي يوم انعقاد المؤتمرات الشيقة ما بين شيكاجو والسنبلاوين، وبدأ في الكلام عن عائلته ثم انتهي حديثه بتقديم أسماء أخواته الخمسة. ولفت نظري أسماء أخواته المتأصلة المسيحية التي لا تحتوي على أي أسماء عربية، فسألته عن أسمه بالكامل، فوجدت أن أسمه الرباعي مسيحي متأصل أيضا بلا أي أسماء عربية تتوسطه. أخذت أفكر في روماني المصري المسيحي وأتخيل المؤتمر الذي انعقد في شيكاجو من أجله ومن أجل عائلته، والمؤتمر الآخر الذي انعقد في السنبلاوين لمحاربة الذين "يتمحكون" في روماني وعائلته، فلم أدرك نفسي إلا وأنا أسأله: روماني، إنت عمرك حسيت باضطهاد؟
ابتسم روماني ابتسامة تدل على إنه لم يفهم ما أقول، ويبدو أن كلمة اضطهاد التي ظهرت بين المثقفين لم تصل إلى مسامع هذا الشاب الصعيدي البسيط، ولم يجيب السؤال.
أعدت عليه السؤال بطريقة مختلفة: أقصد يعني، حصل أي مشكلة ما بينك وما بين أي مسلم؟
فقال لي روماني بلهفة معتقدا أنه فهم سؤالي: طبعا يا مدام، أكيد مش في ما بينا أفكار مختلفة، لما بنتكلم في الدين بنختلف.
ابتسمت وقلت له: يا روماني أنا أقصدي يعني عمرك خسرت فرصة في حياتك بسبب إنك مسيحي؟ عمر حد رفض يديك وظيفة لأنك مسيحي؟ في حد رفض إنك تصور فرحه لأنك مسيحي؟ في حد ضايقك أو ضايق عيلتك لأنكم مسيحيين؟
وهنا رفع روماني رأسه بسرعة واعتلى وجه علامات الذهول، وقال: لا يا مدام أبدا، عمرها ما حصلت، وبعدين أنا متربي مع جيراني المسلمين وكانوا بيعزموني آكل في بيتهم وهما كانوا بيجوا يكلوا في بتنا، وعمري ما حسيت بفرق.
سألته: أنت عشت في سوهاج ولا في الإسكندرية؟
قال: أنا عشت طول عمري في سوهاج، وأشتغلت شوية في الإسكندرية، بس يا مدام والله لما كان واحد يموت في بلدنا كانت البلد كلها تمشي في جنازته بغض النظر عن كون اللي مات مسيحي ولا مسلم، أنا كمان كنت بمشي في جنازة المسلمين. إحنا أهل بلد واحدة يا مدام!

هكذا تكلم روماني وقال قول الحق. طلبت منه أسم قريته في سوهاج فأعطاها لي ودونتها، ومن الواضح أن قرية روماني لم تطولها الفتنة المقصودة والمدبرة بعد، ولهذا لا يعرف هذا الشاب المسكين عن الاضطهاد شيئا، كما إنه لم يسمع عن أقباط المهجر أو أحمد عبد الهادي وحزبه، وهذا لأنه ليس لديه الوقت لتصفح الإنترنت حيث تنتشر تلك الأخبار والمؤتمرات التي لا يعرف عنها شيئا العامة المشغولين بالرزق. بالنسبة لي، روماني هو غالبية المصريين، إنه يمثل السواد الأعظم من المصريين، هذا الشعب المتدين بمسلميه ومسيحيه، هذا الشعب المسالم والذي طالما عاش متعايشا ومتحابا إلى أن بدأت تتوغل فيه الأيادي الآثمة لتدمر ما بقى فيه من قيم. فبعد تدمير الوفاء والإخلاص والصدق والأمانة لم يبقي إلا التعايش والذي كان يربط المصريين بعضهم ببعض. تعبث تلك الأيادي الشيطانية بالقرى مصر تشعل الفتنة بين المسلم والمسيحي ثم تنطلق الأصوات وتقول "اضطهاد" لتعبث بالعقل المسيحي قبل العقل المسلم، فيصدق المسيحي إنه مضطهد ويصدق المسلم إنه يضطهد. ولكن قرية روماني لم تصلها الفتنة بعد وإن وصلتها سأجد روماني عندي يتكلم عن الكراهية والاضطهاد ووقتها لن يتذكر الطعام الذي شارك فيه أصدقاءه المسلمين وستمحى من ذاكرته جنازة المسلم التي مشى معها، وسينسى تماما أن مسلمين شاركوه جنازة قريبه.

إلى أصحاب المؤتمرات سواء كان مؤتمرا في شيكاجو أو مؤتمرا في السنبلاوين، سواء كان مؤتمرا يحضره مثقفين أو يحضره فلاحين سواء كان مؤتمرا يحضره أصحاب البدل أو يحضره أصحاب الجلابيب، رجاء أن لا تأججوا الكراهية بين أفراد الشعب الواحد فلازال بيننا الكثير من أمثال روماني الواثق من إنه يعيش حر نفسه لولا ضيق الرزق وفقر الحال. يا حبذا لو ناقشتم في مؤتمراتكم كيفية إتاحة فرص العمل لهؤلاء الشباب لإنقاذهم من يد من يستغلهم لإشعال الفتنة. يا ليت أقباط المهجر يعملون على توطيد الثقة في قلوب مسيحي مصر للخوض في الحياة الاجتماعية بدلا من خوفهم المعهود وعزلتهم والبقاء داخل جيتوهاتهم المغلقة، ويا ليت حزب شباب مصر بدلا من فاصل السب العلني الذي قاموا به، أن استغلوا جهودهم في الاستماع إلى شكاوي مسيحي مصر ووضع برنامج لردأ الصدع والتنافر الذي يتوغل إلى أرض مصر.

لا ننكر على بعضنا البعض الوطنية والعمل لصالح الوطن، فمؤكد أن أقباط المهجر لا يريدون تدمير وطنهم الأم ومؤكد أن حزب شباب مصر لا يسعون إلا للخير. ولا يصح أن نشكك في وطنية مصري لمجرد إنه يحمل جنسية أخرى وليس كل من خرج من مصر خرج وهو كارها، بل قد يكون حب مصر في قلوب المهاجرين أكبر بكثير من المواطنين الساكنين على أرضها، فليس كل من خرج من داره مشكوك في حبه لوطنه، ولنا أسوة في نبي الله الذي هاجر من أرضه إلى أرض أخرى حيث وجد الحب والترحاب ولكن ظل داره وأرضه في قلبه إلى أن عاد إليها منتصرا. فهل كان نبي الله خائن يحارب أرضه من أرض أخرى أم إنه كان يسعى للصلاح والفلاح؟ ولكن على مصريين الداخل ومصريين الخارج أن يوحدوا جهودهم للخروج من أزمة الفتنة الطائفية، فلن ننكر وجودها ولكن هناك من زرعها ويحاول أن يحصد ثمارها الآن، فإن أردنا خيرا بمصر وبمسيحيها قبل مسلميها فعلينا أن نحارب الجهل والظلم المستشري بيننا، وبالقضاء عليهم سيتم القضاء على الفتن الدينية التي تتفاعل مع تلك الأمراض الاجتماعية.

تذكرت الآن نشيد المدرسة الصباحي أيام المدرسة: يا أحلى أسم في الوجود، يا مصر، يا أسم مكتوب للخلود، يا مصر، نعيش لمصر، ونموت لمصر، مصر، مصر، تحيا مصر... لا يحتوي هذا الكلام الجميل أي عصبية للأديان بل عصبية فقط لمصر وأرض مصر، هذا ما يجب التركيز عليه وما يجب أن تقوم المؤتمرات من أجله.

اجمالي القراءات 17033