أبو الموسيقى المصرية ، فنان الشعب ، خـــالد الذكر ، الفنان الخالد ، الشيخ ســـيد ، مؤسس الموسيقى المصرية الحديثة ، الأســـتاذ الأكـبر ، الموسيقار الأول ، الموسيقار الخالد ، نابغة الموسيقى ، إمام الملحنيـــن ، عبقرى الموسيقى ......
فى أسرة بسيطة فى أحد أحياء الإسكندرية العريقة وهو كوم الدكة ولد الطفل سيد درويش فى عام 1892، وحى كوم الدكة هذا حى غريب فى كل شيء ، فهو على ربوة عالية فى وسط المدينة تطل على أحياء الوسط الراقى بينما تفصله عن ذلك الوسط حواجزز اجتماعية واضحة ، كوم الدكة ليس به مدرسة ، فقط كتاب صغير لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم بسيط ، بينما فى الخارج مدارس أجنبية ومسارح وشركات وجمعيات خيرية دولية نشطة ، والحى كما لو كان قرية فى وسط المدينة
انتمى سيد درويش مباشرة إلى الاثنين معا ، حيه الشعبى ومدينته التى جمعت ثقافة أوربا كلها ، وهكذا جاء فنه أيضا ، أصيلا شعبيا لكنه التف فى ثوب حضارى متقدم للغاية
لم ينشأ سيد درويش فى أسرة فنية ولم يجد أحدا يشجعه على السير فى اتجاه الفن ، بل على العكس لقى العنت والتعنيف والإكراه على عمل أشياء لم يجد فيها إحساسه بذاته ، وفى ظل ظروف معيشية غاية فى القسوة كان الفن بالنسبة لمثله ترفا لا يمكن لمسه
حمل الفتى الصغير مسئوليات أكثر من طاقته فقد توفى والده وهو فى السابعة، وحملته أسرته على الزواج المبكر فى السادسة عشرة من عمره ، واضطرته تلك المسئوليات إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة الجديدة وهو لم يكمل تعليمه بعد
فى هذه الظروف كان الفنى الصغير يبحث عن وسيلة للتعبير عما فى نفسه من ضغوط وعن أحلامه فى الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالى إلى ما سمعه من أساتذته فى المدرسة وبدأ يبحث بنفسه عن مصادر أخرى لهذا الفن فأخذ يتردد على ألأماكن التى تقدم الفنون فى مدينته الهادئة الإسكندرية ، المحلى منها والأجنبى ، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه
كان سيد درويش طالبا بالمعهد الدينى بمسجد أبى العباس المرسى الشهير ، لكن أصدقاءه وجدوا فى الشيخ الصغير موهبة تستحق الاستماع إليها فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية ، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل ذلك فقبل ، حاول الشيخ عندئذ العمل بالفن لكنه لم يفلح ، ومن أعاجيب القدر أنه عندما استسلم لضغوط الحياة وبدأ يعمل كبناء لحساب أحد المقاولين فإذا بهذا العمل نفسه يقوده إلى أبواب الفن ، فهاهو المقاول يكتشف فيه موهبة ذات فائدة عظيمة عندما سمعه يغنى وسط العمال وهم يرددون غناءه ، لم يكن المقاول فنانا لكنه ، تماما كشركات الإنتاج ، ومن زاوية مصلحية بحتة ، عرض على سيد درويش التفرغ للغناء للعمال بينما يحتفظ بنفس الأجر لما وجد أن غناءه أثناء العمل يزيد من حماس العمال ويجعلهم يعملون بلا كلل أو ملل ، فاستراح الشيخ الصغير من عناء العمل وتفرغ للغناء. فى عام 1909 يتدخل القدر مرة أخرى فيسمع غناءه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التى يعمل بها الشيخ سيد وهما أمين وسليم عطا الله صاحبا فرقة مسرحية تعمل بالشام ، عرض الرجلين عليه على الفور العمل بفرقتهما فقبل الشيخ سيد وسافر فى أول رحلة له خارج مصر وعمره حينئذ 17 عاما ، لكنه لم يمكث غير عشرة شهور لم يوفق فيها ماديا لكنه جمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلى
فى عام 1912 التقى سيد درويش بعثمان الموصلى مرة أخرى فى رحلة ثانية إلى الشام مع نفس الفرقة وأكمل خلال تلك الرحلة ما كان يتوق إلى جمعه من مواد التراث وعاد بعد عامين وقد أحضر معه العديد مما عثر عليه هناك من الكتب الموسيقية
فى عام 1914 عاد سيد درويش للعمل بمقاهى الإسكندرية لكنه لم يكتف بتقديم ما حفظه عن الأقدمين كالشيخ سلامة حجازى ، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادى كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو فى المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازى وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه ، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى أثنى عليه وعلى الفور ، ومثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كان الشيخ سلامة حجازى هو الفنان الأول فى مصر فى ذلك الوقت وقد جابت شهرته الآفاق لما تمتع به من حنجرة ذهبية وأداء عال إلى جانب رقى مادته ، وكان هو بطل عروض فرقته التى قدمت المسرح العالمى معربا وغنى فيها الشيخ سلامة القصائد القوية ، ولكن ما عرضه على الشيخ سيد لم يكن دورا فى إحدى رواياته بل غناء بين الفصول ، وهو تقليد معروف فى ذلك الوقت لطول الزمن بين الفقرات ، وقد استفاد منه محمد عبد الوهاب لاحقا
وبدأ الشيخ الصغير يغنى ، لكنه تلقى استقبالا فاترا من الجمهور الذى تعود صوت سلامة حجازى ، وأصيب الشيخ سلامة نفسه بصدمة جعلته يخرج إلى الجمهور ليقدم سيد درويش قائلا : ” هذا الفنان هو عبقرى المستقبل“ لكن الشيخ سيد أصيب بإحباط كبير جعله يقفل عائدا إلى مدينته فى اليوم التالى . فى عام 1917 عاد الشيخ سلامة ليكرر نصيحته للشيخ سيد بالذهاب إلى القاهرة ولكنه هذه المرة عرض عليه عرضا آخر أقوى ، فكان الشيخ سلامة مقتنعا تماما بموهبة الشيخ سيد ، ولذلك طلب منه التلحين ولفرقة جورج أبيض ولرواية كاملة هى فيــروز شاه
كانت فيروز شاه تجربة خاصة من جورج أبيض الذى اعتاد المسرح الجاد وقرر أن يخفف شيئا من مادته فى اهذا العرض كى يجتذب جمهورا أكبر مثل ذلك الذى يرتاد المسرح الكوميدى ، ولم تنجح تجربته لكن الجمهور جذبه شيء جديد هو ألحان سيد درويش ، لقد تركت انطباعا بأن تيارا فنيا جديدا أتى وأنه أقوى من أن يعرض مرة واحدة . لم يكن جمهور تلك الليلة فقط هو المتأثر ولكن تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى المنافسة التى عزمت على استثمار الحدث لصالحها فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه .
فى خلال شهور اصبح سيد درويش يلحن لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة وانضم لفرق : نجيب الريحانى ، على الكسار ، منيرة المهدية ، وكان عطاؤه غزيرا حتى قيل عنه أن باستطاعته تلحين خمس روايات في شهر واحد
فى عام 1919 اندلعت الثورة الشعبية بقيادة سعد زغلول وكان للشيخ سيد فضل تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغانى التى تعرضت لكل ما هو وطنى ، وفى طريق الثورة على القصر الفاسد والاحتلال الأجنبى قدمت روايات محلية احتوت على كثير من الرمز ضد الاستبداد وأعلت كثيرا من شأن القيم والرموز الوطنية والشعبية وحقيقة قام المسرح بدور كبير فى هذا الاتجاه وكانت ألحان سيد درويش هى السبب فى نجاح هذه المسارح والفرق بانتشارها العارم بين الناس وبسرعة فائقة . غير أن طموحات سيد درويش لم تكن مسرحية ولم تكن مادية بل كانت موسيقية بالدرجة الأولى ، هو يريد موسيقى أفضل ، وإن كان المسرح هو الوسط الملائم فليكن ، لكنه اصطدم بإدارات تلك الفرق التى تريد من الهزل كما لا بأس به إلى جانب الجد ، كما تريد تقليل النفقات ما أمكن ، فعمل على إنشاء فرقته الخاصة ليستقل بنفسه
فى عام 1920 أنشأ سيد درويش فرقته الخاصة وقدم بها روايات العشرة الطيبة لمحمد تيمور وشهرزاد لبيرم التونسى والباروكة الإيطالية
لم يكن سيد درويش وحده فى الساحة الفنية وقتها ، فقد كان هناك عملاقان عالمان هما داود حسنى وكامل الخلعى ، وهما مصريان أجادا التلحين خاصة للمسرح وقاما بتلحين أعقد النصوص حتى الأوبرا ، وكان على سيد درويش ، الذى لم يختلط بهما ، منافستهما وأن يخرج من تلك المنافسة متفوقا وبسلام ! وقد كان له ذلك
وربما كان سر ذلك فى أن سيد درويش لم يعتبر نفسه محترفا فى أية لحظ ، كان هاويا إلى درجة العشق ، عشق الفن والجمال والحرية والتعبير ، ولم يكن الفن عنده مهنة كغيرها لكسب القوت ، وإنما رسالة سامية وواجب وطنى ، ويذكر عنه رفيق دربه بديع خيرى أنه عندما عانت فرقته من مصاعب مادية كان ينزل إلى وسط البلد وهو مفلس فيسمع ألحانه تقدمها الفرق الأخرى فيعود إليه إحساسه بالسعادة وينسى ما كان فيه من هم
يتبع