مفهوم التواتر بين العلم والمعرفة
إن مفهوم التواتر ليس منتجاً إسلامياً أو عربياً ، حتى تحصر دراسته في الثقافة العربية الإسلامية ، وإنما هو مفهوم إنساني، واستخدامه في مصطلح الحديث من قبل المسلمين، لا يعني أنه من إنتاجهم ، كما إن مصطلح الحديث لا يشمله ، لأن مصطلح الحديث يتعلق بمعرفة الرواة (السند)عدالة وضبطاًً ، وأداء ولقاء ، وغير ذلك ، مما يتعلق بأحوال الرواة ، ويتناول بتواضع نص الحديث (المتن ) لمعرفة صحته من خلال مجموعة من القواعد ، وأشهرها أن لا يخالف نص الحديث ، نصّاً قرآنياً، وأن لا يخالف الواقع ، أو ما هو ثابت قطعاً .بينما الخبر المتواتر لا يوجد له سنداً ،أي لا يوجد له رواة محددين يخضعون للدراسة جرحاً وتعديلاً ، وبالتالي لا يتناوله مصطلح الحديث لانتفاء إمكانية دراسته من حيث السند ،فمفهوم التواتر للحدث، هو بمثابة الأمر البديهي، الذي لا يحتاج إلى برهان لإثباته ،ومن يطالب بالبرهان على ثبوته ،مثل من يطلب برهاناً على وجود الشمس !.
والتواتر ليس من أدوات العلم، أو مصادره ، لأن العلم هو دراسة كيف حصل الأمر ، والوصول إلى القوانين التي تحكمه ، وتسخيره للإنسان ، فهو متعلق بالتفكير، وله طرق متعددة، منها العقلية، ومنها التجريبية ،بخلاف المعرفة ،فهي تفاعل الإنسان تعقلاً، من خلال وقوع حواسه على ما يجري حوله من أحداث، فينتج عنه عملية الفهم ،أو الفقه للحدث بصورته الظاهرة لا يتجاوزها إلى الكيف، أو الإدراك للقوانين التي تحكم هذا الحدث ، مثل رؤية عملية نزول المطر من السماء إلى الأرض ، وتغلغلها في التربة ن وخروج النبات نتيجة ذلك، فهذه المشاهدة الواقعية ، لا تسمى علماً ، ولا تحتاج إلى تفكير ، وسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق ، وإنما هي تفاعل مباشر مع الحدث من خلال وقوع الحواس عليه ، والوصول إلى عملية الفهم ، أو الفقه ، نتيجة التعقل للحدث ، وهذه العملية هي المعرفة .
بينما دراسة كيف ينزل المطر ؟ وكيف بدأ ينبت الزرع ؟ والوصول إلى القوانين التي تحكم سير هذا الحدث ، يحتاج من الإنسان إلى عملية التفكير ، وهي أرقى من عملية التعقل ، فيصل إلى العلم وينتج عنه الفاعلية، والعلاقة بين العلم والمعرفة جدلية ، إذ يبدأ الإنسان بالتعامل مع الأشياء من خلال المعرفة ، ويرتقي إلى العلم ،وبعد وصوله إلى العلم يقوم بإنزال المعلومات إلى المعرفة، ليستخدمها مرة ثانية قاعدة ومنطلق للصعود إلى العلم ،وهكذا دواليك، معرفة، ثم علم، ثم معرفة، ثم علم، فالعلم دراسة للكيف، وإدراك للقوانين ،وتسخير لها بواسطة عملية التفكير( العقلية والتجربية )، التي ينتج عنها فاعلية ونهضة، وهذه الصفة ،هي خاصة في الناس. أما المعرفة ، فهي تفاعل الحواس ،أو أحدها ،مع الأحداث للوصول إلى الفهم ،أو الفقه، بواسطة عملية التعقل، وهذه الصفة ،عامة لكل الناس ،وهي الحد الأدنى للوجود الإنساني الواعي.
التواتر أداة علمية، أم أداة معرفية ؟
وهذا السؤال يفرض علينا الرجوع إلى تحديد مفهوم التواتر، فما هو التواتر؟
التواتر: هو رواية جماعة غير محددة ،حاضرة وشاهدة لحصول حدث بصورة واعية، إلى جماعة أخرى لاحقة، يستحيل عقلاً تواطؤهم على الكذب، مع إفادة الخبر الصدق عند السامع قطعاً من خلال مفاهيم كلية، ومعطيات واقعية .
من خلال التعريف؛ نلاحظ ؛أن التواتر يتعلق بمسألة حضور جماعة للحدث بصورة واعية ،ومن ثم القيام بروايته لأخرى ، أي يتعلق بفعل المشاهدة ،أو السماع، بمعنى آخر؛ يتعلق بتفاعل الجماعة الأولى مع حصول الحدث ؛من خلال وقوع حواسهم، أو أحدها عليه ؛بصورة مباشرة ،ينتج عن ذلك عملية الفهم ،أو الفقه للحدث؛ بواسطة عملية التعقل له ، مثل وقوع أحداث الكوارث الطبيعية، من بركان أو زلزال أو فيضان ..الخ ، أو أحداث متعلقة بالمجتمع الإنساني، مثل؛ الحروب أو بناء الدول أو عمرانها ،فرواية هذه الأمور إلى المجتمعات اللاحقة ، لا تحتاج إلى عملية تفكير، ودراسة، وإنما هي بمثابة جعل المجتمع اللاحق يتفاعل مع الأحداث من خلال حواس المجتمع الأول ،من باب أنه ليس من الضرورة أن أحرق يدي ، لأعرف أن النار تحرق، فقد حرقت يد غيري.
والتواتر يتعلق بإثبات حصول الحدث، الذي ينتج عنه المعرفة بحصوله يقيناً ،وهذه المعرفة المتواترة، لا علاقة لها بمسألة كيف حصل الحدث، وما هي أسبابه وقوانينه، فهذه مهمة الدراسة والتفكير بواسطة العلم، فحصول كسوف الشمس، حدث يتواتر بين الناس ،وينتج عن ذلك التواتر ،عملية التصديق لحصول الكسوف من قبل الناس الذين لم يشاهدوا الحدث، وإذا رافق تواتر حصول الحدث، رأي بكيف حصل الحدث ،أو لماذا، وما هي أسبابه ، يتم أخذ تواتر الحدث حصولاً ،و يُهمل الرأي المتعلق بالكيف ،لأن معرفة الكيف مسألة لا علاقة لها بالرواية والتواتر ، وإنما علاقتها بالدراسة والتفكير بواسطة العلم.
لذا ، من الخطأ أن يستخدم أحدهم مقولة :(إن مفهوم الأكثرية، مذموم في القرآن ،ولا يصلح برهاناً لمعرفة الحق من الباطل )، وذلك لينقض مفهوم التواتر، فهذا خلط بين مسألتين :
-أحدهما: تتعلق بالحكم على الشيء ،حقّاً هو؛ أم باطلاً ،وهذه المسألة محلها العلم، لا الأكثرية .
- الثانية : تتعلق بالإخبار عن حصول الحدث ، و بالتالي ، فتواتر هذا الحدث برهان على صدقه ،وليس على صوابه، أو أحقيته.
فالتواتر يرتبط بالصدق ، لا بالصواب ، أو بالحق .
وكذلك يظهر خطأ مقولة أحدهم : ( إن التواتر للحدث له بداية ، والبداية لاشك أنها من خبر آحاد الناس ).
وخطأ هذه المقولة ،ناتج عن قصور فهم لمفهوم التواتر ، لأن رواية حصول الحدث ابتداء، ينبغي أن تكون بصورة جماعية ، يُحيل العقل تواطؤهم على الكذب، مع إفادة الخبر الصدق عند السامع قطعاً، وهذا يعني في واقع الحال أن الجماعة الأولى الحاضرة للحدث ، مؤلفة من مختلف شرائح الناس ، مع كثرتهم ،وتفاوت ثقافاتهم ، واختلاف عقائدهم ، وانتفاء العلاقة بينهم ، و عدم وجود مصلحة تجمعهم ، وتكرار الرواية ، مع عدم ثبوت نفيها بصورة علمية من أحد ، لأن نفي الحدث ،غير مسألة إنكاره ، فالنفي مرتبط بالبرهان ،أما الإنكار ، فهو موقف شخصي. فالتواتر ،ليس من رواية الآحاد ابتداء، وإنما هو، رواية جماعة شاهدة حاضرة للحدث ، يُحيل العقل تواطؤهم على الكذب ،مع إفادة الخبر صدق حصول الحدث عند السامع من جراء معطيات واقعية ، ومفاهيم كلية .
وهذا الكلام يوصلنا إلى سؤال آخر ،وهو ،(ما ضابط التواتر، وما الحد الأدنى لحصوله؟) وهذا القول ، يرجع أيضاً إلى إغفال تعريف مفهوم التواتر ، وذلك لأن من مقومات العقل الإنساني، قَبول الخبر المتواتر، ويُحيل العقل كذبه،وذلك من خلال استحضار معطيات الواقع الذي حصل فيه الحدث ، من إمكانية حصوله في الواقع المعني ، وعدم تناقضه مع الثوابت الكونية ( آفاق وأنفس).
لذا ، لا يوجد عدداً معيناً من الناس يكونون حداً أدنى لصدق التواتر ، وإنما يوجد صفات له ، وهي:
1- وجود مجموعة كبيرة من الناس حاضرة للحدث بصورة واعية .
2- تنوع ثقافتهم ، وتفاوتهم بالعلم والمكانة الاجتماعية .
3- انتفاء وجود العلاقة الشخصية، أو المصلحية بينهم .
4- تكرار الرواية ، وتأكيدها من قبلهم .
5- إفادة الرواية في زمن حصولها؛ القطع والصدق بها من قبل المجتمع الذي تواتر فيه الحدث، وتواترذلك.
6- عدم تعلق الرواية بتفسير كيف حصل الحدث، وإنما بإثبات الحصول فقط.
7- وجود الإمكانية، والأدوات العلمية والمعرفية في المجتمع ، التي تسمح بحصول هذا الحدث .
8- عدم تناقض الحدث مع الثوابت الكونية ( آفاق وأنفس ).
9- عدم القيام بتقديم برهان على نفي حصول الحدث، من أحد الذين زامنوا بداية الرواية .
10-إفادة الخبر عند السامع الصدق حسب المعطيات ، واستحالة كذبه .
وهذا أيضاً، يوصلنا إلى نقاش مفهوم التواتر و نسبيته ، بمعنى ،أن ما تواتر عند فئة ،هو غير كذلك عند الأخرى ، أو لم يفيد القطع بصدقه .
ولمعرفة صواب هذه المسألة ، ينبغي دراسة مسألة مفهوم التواتر بين الناس ،كيف يحصل، وما هي صوره؟.
- الصورة الأولى :تواتر حدث على مستوى الأسرة ،من أخبار وأحداث متعلقة بها ،تفيد عند أفرادها الصدق والقطع بحصولها ، ولا يشترط صدقها عند الأسر الأخرى، ولا يهمها صدق هذه الأحداث من كذبها ، لأنها خاصة.
- الصورة الثانية : تواتر حدث على مستوى منطقة سكنية محدودة ، يفيد عند أهلها الصدق والقطع بحصول الحدث ، ولا يفيد ذلك، الصدق في منطقة أخرى، لانتفاء الحاجة أو الاهتمام بذلك .
- الصورة الثالثة : تواتر تاريخ أحداث مجتمع ، أو أمة ، يفيد عندهم الصدق والقطع به، مع عدم معرفة الأمم الأخرى به ، مع إمكانية معرفته ، والوصول إلى تصديقه ، والقطع به ، مثل دراسة تاريخ الأمم الأخرى .
- الصورة الرابعة : تواتر أحداث كونية ،وهي تفيد الصدق عند الناس جميعاً بحصولها .
إذاً ، مفهوم التواتر، له مفهوم خاص ، وآخر عام ،وشرط كليهما استحالة تواطؤ الجماعة الأولى على الكذب ، واستمرار تحقيق هذا الشرط في كل جماعة لاحقة ، بما يفيد عندهم القطع بصدق الخبر ، من خلال استحضار الصفات المذكورة .
وتحقيق هذا الشرط ليس له عدداً معيناً ، و لا حداً أدنى، فالأمر متعلق بأهمية الحدث ،وعظمته، فكلما كان الحدث عظيماً ،كلما طلب الإنسان توسع وكثرة انتشار رواية الخبر في الجماعة الأولى، مع وجود مفاهيم عقلية كلية تضبط هذا الشرط ، التي توصل الإنسان إلى الحكم على صدق الحدث بصورة قطعية .
وينبغي أن ننتبه إلى أن التواتر يتعلق بنقل الأحداث، وليس بنقل الأقوال ،لأن الأقوال لا يمكن أن يتم استمرار تواترها دون أن تتغير، أو تتبدل الألفاظ، مع تدخل الراوي في فهمه للرواية ، وهذا يدل على انتفاء وجود أحاديث متواترة قط .
وقد يقول قائل ( أليس النص القرآني أقوالاً وألفاظاً، وبالتالي ينطبق عليه استحالة تواتره؟) فنقول له : إن نزول النص القرآني في ذلك الزمن كان حدثاً عظيماً ارتبط بنهضة أمة، وهذه الأمة قامت بالاهتمام بحفظ لفظ النص حرفياً، ولم تتدخل بفهمها به، مع توثيقه كتابة، وتواتر في عهدها بصورة اجتماعية، وتعهدت ذلك التواتر ،ونقلته إلى الأجيال اللاحقة ،مما أدى إلى الحكم بصدق نسبته إلى محمد بن عبد الله، دون تحريف أو تغيير ،حتى أن الكفار لم يطعنوا بنسبته إليه، وإنما أنكروا مصدريته الربانية ، وهذه مسألة أخرى، لا علاقة لها بالتواتر ، وإنما تخضع للعلم والدراسة والتفكير .
فالتصديق بمسألة تواتر النص القرآني في المجتمعات الإسلامية ثابت، لا شك فيه، أما التصديق بمصدريته الربانية ، فتحتاج إلى تفكير ،ودراسة من كل إنسان ،ولا يلزم من حصول التصديق بتواتره ،والتصديق بمصدريته الربانية ،عملية الإيمان به، لأن الإيمان -إضافة للتصديق- انقياد وعمل ، إذ لا يوجد إيمان دون عمل ،كما أن الكفر، لا يعني عدم التصديق، لأن الكفر هو تغطية وإنكار للشيء قولاً، أو فعلاً، ومن الأمور التي تواترت في الأمة الإسلامية ، فعل الصلاة ،وهي حدث، وليست أقوالاًَ ، مما يدل على صدق نسبتها إلى النبي ،وصحابته قطعاً ،وإنكار فعل الصلاة ،هو في الحقيقة طعن في صدق النبي ، ونقض للعقل ، إذ أنكر ما هو من مسلمات العقل والمنطق، لأن العقل يقَبل صدق حصول الحدث المتواتر، فالنبي وصحابته ؛قطعاً؛ قد أقاموا الصلاة بصورتها المعروفة ، وتم تواتر ذلك الفعل في مجتمعهم،وانتقل إلى المجتمعات الأخرى بصورة أفعال متصلة ، لا تنقطع، وإنكارها مكابرة للعقل، وإغماض العين عن الواقع ،والجري خلف السراب .
الخلاصــة 1- التواتر أداة معرفية، وليس أداة علمية .
2- التواتر يفيد حصول الأمر، ولا يفيد في معرفة كيف حصل الحدث.
3- تصديق الخبر المتواتر ضرورة عقلية ومنطقية، وإنكاره اغتيال للعقل ،ونقض للمنطق .
4- التواتر يتعلق بنقل الأحداث، وليس بنقل الأقوال .
5- التواتر مفهوم عقلي إنساني .
6- التواتر خاص ،وعام ،وتصديقه ملزم لكل منهما .
7- التواتر يتعلق بصدق حصول الحدث، لا بصوابه أو بأحقيته .
8- لا علاقة للتواتر بمصطلح الحديث ،ولو تم وضعه في كتب الاصطلاح.
9- ليس للتواتر سنداً (رواة) حتى يخضع للجرح والتعديل .
10- ليس للتواتر حداً أدنى من الرواة ، وإنما له شروطاً، يترتب عليها استحالة تواطؤ الرواة على الكذب ،مع إفادة خبرهم عند السامع القطع به ضرورة .
11- وجود الإشكاليات والشبهات، لا ينقض صدق تواتر الحدث، لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله .
12- النص القرآني، حدث عظيم ، تواتر لفظاً، وتوثق كتابة، منذ بدء نزوله.
13- فعل إقامة الصلاة تواتر بصورة اجتماعية ابتداء ،واستمر ذلك التواتر الفعلي .
14- ارتبط فعل الصلاة بالأمر بها في النص القرآني، وتواترا مع بعضهما .