قضيت الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر في جولة بين المدن السويسرية الرئيسية كضيف لمنظمة العفو الدولية، للحديث عن حقوق الإنسان في مصر، بمناسبة صدور تقرير خاص للمنظمة العتيدة عن حالة حقوق الإنسان في مصرنا "المحروسة" بيد الله جل جلاله، و"المنكوبة" على يد حكامها، عليهم لعنته، في ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر. وطوال الأسبوع كنت أسأل السويسريين عن اسم رئيسهم ولا أتلقى إجابة!
صاحبتني في نفس الجولة صحفية شابة من جريدة "الدستور"، هي نهى عاطف، صاحبة أحد المواقع الشهيرة على الشبكة الدولية عن "التعذيب في مصر". وقد حملت معها أفلاماً توثيقية عن التعذيب في أقسام الشرطة، و "ثلاجات" و "مسالخ" جهاز امن الدولة. وكانت كل صورة، وكل استغاثة يراها مئات السويسريون، أوقع من ألف كلمة مقروءة. وبين تقرير منظمة العفو الدولية وأفلام نهى عاطف، وما تيسر لي من تحليل للمشهد المصري، ذهل الرأي العام السويسري بالحضيض الذي تردت له حقوق الإنسان، وقبح وبشاعة ممارسات أجهزة الأمن مع أبناء مصر ـ رجالاً ونساء ـ، وبلا رادع من قانون، أو وخز من ضمير، أو خوف من حساب في الدنيا أو الآخرة.
حتى منّا، الذين قرأوا عن التعذيب، أو عاشوا بعض ممارساته في الماضي البعيد أو القريب، كانت أبداننا تقشعر مجدداً مع مشاهد الضرب المبرح، والانتهاك الصارخ لأعرض النساء، بتمزيق ملابسهن، وكشف عوراتهن، والتهديد باغتصابهن أمام أزواجهن أو أخوتهن أو أبنائهن، بواسطة عملاء ملثمين، أغلب الظن أنهم من المخبرين، أو حتى البلطجية، الذين كثر استعانة الأجهزة الأمنية بهم في السنوات الثلاث الأخيرة (2004-2007)، للقيام بالأدوار القذرة، بأوامر من ضباط الأمن وتحت إشرافهم. أكثر من ذلك، رأينا مشاهد بالصوت والصورة لرجال أمن يصورون ويسجلون وقائع التعذيب وانتهاك أعراض النساء، والتهديد بتوزيع نسخ من تلك الصور على جيرانهم في الأحياء التي يسكنون فيها، إمعاناً في التعذيب النفسي، بعد التعذيب الجسدي. وسمعنا أحد الأمهات تستغيث، متوسلة أن يضربوها ما وسعهم ولكن دون أن يجردونها من ملابسها أو يكشفون عوراتها... ولكن توسلاتها ذهبت أدراج الرياح. فضابط أمن الدولة المسئول يريد استسلام ذويها الهاربين أو اعترافات أقاربها الرافضين.
كان الذين يحضرون ويستمعون من السويسريين، لا يكادون يصدقون. وكانت هناك قلة من العرب والمصريين الذين يدرسون أو يعملون في سويسرا، ويحمل بعضهم جنسيتها. وشارك بعضهم بتأكيد ما جاء في الأفلام التوثيقية، أو أضافوا لها من خبراتهم المباشرة. وكان ضمن تعليقات أو أسئلة المستمعين، أنهم كانوا يسمعون عن تلك الممارسات البشعة في بلدان إفريقية أو عربية أخرى، ولكنهم لم يتوقعونها أبداً من بلد ذو حضارة عريقة مثل مصر! فكنا نرد عليهم، "ولا نحن المصريون كنا نظن أن حكامنا يمكن أن يفعلوا بنا ما يفعلونه الآن. لقد مرت على مصر عصوراً من القهر والظلم والاستغلال، في تاريخها الطويل. ولكن لم يسبق أن خبرت مصر مثل ما تشهده في السنوات الأخيرة من أنواع المهانة والإذلال والتعذيب. والتي وصلت ذروتها بالاغتصاب العلني للرجال في أقسام الشرطة، بل وقيام الضباط بتسجيلها، في ظاهرة مرضية من المتعة في الإيذاء الجنسي والجسدي، أو ما يسميه علماء النفس "بالماسوسيكية" (Machoism)".
هذا حالنا، كما عرضناه، بالكلمة، والصورة والصوت، والوثائق الدولية. وتزامن ذلك كله مع الأنباء التي تناقلتها الفضائيات الدولية والعربية عن الملاحقات السياسية والقضائية لسبعة من رؤساء تحرير الصحف المستقلة والمعارضة، والتي صدر بشأنها أحكام بالسجن لمدة "سنة مع الشغل"، فضلاً عن محاكمة إضافية (خصوصي) لأكثر هؤلاء السبعة شراسة في نقد النظام المصري الحاكم، وهو إبراهيم عيسى، رئيس تحرير الدستور. وذلك عن تهمة رئيسية هي "إشاعة"، مرض رئيس الجمهورية، وهي سابقة لا تغتفر، حيث أنه لم يُعرف أن الرئيس حسني مبارك يمرض. ولم نسمع أبداً انه مرض طوال شغله لمنصبي نائب رئيس الجمهورية (1975-1981) ورئاسة الجمهورية (1981-2007). وطبيعي أن تثور شكوك جادة، حول نشر خبر هذه الإشاعة. فإذا كان الرجل لم يشاع أو يُعرف أنه مرض طيلة 32 سنة ـ أي منذ أصبح شخصية عامة، فلماذا تجرؤ صحيفة مثل الدستور على نشر خبر الإشاعة؟ ألا يعني نشر مثل هذا الخبر، أن الرئيس إنسان، يمكن أن توافيه المنيّة؟ وألا يعني ذلك إن حدث، لا قدر الله، أن تختل موازين الأرض والسماء، ويكون ذلك من "علامات الساعة" (أي اقتراب يوم القيامة)؟ وقد أوردت الفضائيات أثناء رحلتنا السويسرية، عن مصادر رسمية أن نشر صحيفة الدستور لهذه الإشاعة (عن مرض الرئيس) أدى إلى خسائر فادحة في سوق الأوراق المالية، وعزوف استثمارات أجنبية مباشرة، كانت في طريقها إلى مصر. كذلك تزامن كل ما سبق مع أخبار عن إضرابات عمالية، وخاصة في كبرى مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، وعن اعتصامات لبدو سيناء، لتراكم مظالم تاريخية، ظلت بلا حل رغم كثرة الشكوى. وباختصار تحول ملف حقوق الإنسان، الذي دعتنا منظمة العفو الدولية للحديث عنه، إلى ملف مركب عن أحوال مصر برمتها.
وظل أحد شواغلي الفرعية أو الترفية منذ اليوم الأول، أن أعرف اسم رئيس جمهورية سويسرا، أو أعثر على صورة له في أحد الصحف، التي كانت تواظب على نشر أحاديثنا، نحن الضيوف. وفقط في اليوم الأخير، أخبرتني أحد العاملات في الفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية، وهي السيدة ناني موراس، والمتزوجة من مصري ـ إيطالي (هو ياسر ياسين) أن رئيسهم ليس رئيساً للجمهورية، "ولكنه رئيس للاتحاد السويسري"، وهو يتغير سنوياً، وبالتداول بين مجلس فيدرالي من سبعة أعضاء، يمثلون أقاليم أو ولايات أو كانتونات سويسرا. ثم أضافت السيدة ناني موراس أن هذا معناه أن 26 رئيساً للاتحاد السويسري، قد تزامنوا مع رئيسكم الوحيد في مصر خلال الست وعشرين عاماً الماضية. لذلك لا بد أن تلتمس العذر لأبناء شعبنا (السويسريين) إن هم لم يحفظوا أسماء رؤساء الدولة.. وليس عند معظمنا وقت أو اهتمام بمن هو الرئيس، فسويسرا تعمل مثل "الساعة" التي يجيد السويسريون صُنعها، بصرف النظر عمن هو الرئيس. أما أنتم فلأن لديكم نفس الرئيس. لربع قرن أو يزيد، فقد حفظتهم اسمه، وأصبح مرضه أو حتى إشاعة عن مرضه تتسبّب عندكم في اللغط والفوضى والإثارة ... أليس كذلك؟"
شعرت بشيء من الخجل والحرج، وقلت لها، نعم، صدقت يا أختاه!" ثم حاولت التستر على خيبتنا، فقلت لها "وبمناسبة هذه الدقة والانتظام في إدارة الشأن العام السويسري، مثل "الساعة"، ألا يصيبكم ذلك بالملل؟" قالت ناني، نعم يُصاب بعضنا بالملل فيتحولون في بلدان أخرى فيها قدر من الفوضى أو الثقافة المختلفة، أو للسياحة أو التطوع لتأدية أعمال إنسانية تطوعية. وفي هذا الصدد قد يُقتل منهم من يُقتل، كما حدث في الأقصر لأربعين ضمن الستين سائحاً الذين قتلوا في عمل إرهابي بالأقصر في مصر، عام نوفمبر 1997... وربما أيضاً بسبب الملل كنت أتردد أنا شخصياً على سيناء سنوياً للسياحة والاستشفاء... وتزوجت مصرياً صعيدياً!"
وفي نهاية هذا الحديث، وفي الطريق إلى المطار، أخبرتني ناني موراس باسم رئيستها هذا العام، وهي السيدة "ميشلان كابمي- ري". فإذا لم يكن الرئيس مبارك أو قارئ هذا المقال قد سمع بهذا الاسم من قبل، فلا تثريب عليه، حيث أن معظم السويسريين لم يسمعوا بها، ولا يتعرفون على شكلها أو صورتها، فوسائل الإعلام السويسرية نادراً ما تذكر اسم الرئيسة أو تنشر صورتها! وليس كما هو الأمر عندنا، حيث أن صورة الرئيس وأفراد أسرته، وأفراد حاشيته تعتبر مقررات يومية في الصفحات الأولى من جرائدنا اليومية. فهل نحسدهم على ذلك أم نشعر نحوهم بالإشفاق؟