لهذا البحث أكثر من قصة..
أولها قصة هذا البحث مع المؤلف نفسه..
فى أبان صراعى مع الفكر السائد فى جامعة الأزهر أن البداية الحقيقية للإصلاح الدينى بل والسياسى تكمن فى تحديد المفاهيم وأن يكون ذلك التحديد بناء على مصطلحات القرآن ومعانيه، ولو حدث هذا لانتهت - جزئيا وثقافيا - مشكلة التطرف واستغلال اسم الإسلام العظيم فى دنيا التجارة والسياسة.وفى بداية الثمانينيات اعتمدت المنهج العلمى وحده والذى يبدأ بتعريف المفهوم من خلال القرآن ثم توضيح الفجوة بينه وبين التراث ثم نتتبع الظروف التاريخية والاجتماعية التى جعلت مفاهيم المسلمين تختلف عن مفاهيم القرآن، وكيف اتسعت تلك الفجوة بين المسلمين والقرآن وهو الوثيقة الالهية الوحيدة للاسلام ، وكيف عالج المسلمون هذه الفجوة باختراع أحاديث وتفسيرات تضفى المشروعية على المفاهيم والفتاوى والأحكام التى اخترعوها.
وعلى هذا الأساس صدر لى أثناء العمل بجامعة الأزهر أحد عشر مؤلفاً، وفى السنة الأخيرة من عملى بالجامعة أصدرت لى خمسة من الكتب كوفئت عليها بالوقف عن العمل والإحالة للتحقيق والمنع من الترقية لأستاذ مساعد والمنع من السفر، ثم إحالتى لمجلس تأديب لمدة عامين، وقدمت استقالتى فرفضوها، فرفعت ضدهم دعوة فى مجلس الدولة لإجبارهم على قبول الاستقالة، فأصدروا قرارهم بعزلى من الجامعة سنة 1987.
وواصلت دورى فأصدرت كتاب "المسلم العاصى: هل يخرج من النار ليدخل الجنة" وكان أول كتاب من سلسلة "دراسات قرآنية" وعزمت على أن تتخصص هذه السلسلة فى توضيح مفاهيم القرآن والفجوة بينها وبين المفاهيم التى اخترعها المسلمون فى العصر العباسى.وفى نهاية ذلك الكتاب "المسلم العاصى" نشرت إعلاناً يقول "الكتاب القادم من دراسات قرآنية: النسخ فى القرآن: معناه الإثبات وليس الحذف. وكان ذلك فى منتصف عام 1987. بعد تركى الجامعة بثلاثة أشهر.
واستعددت لإدخال الكتاب الصغير عن "النسخ فى القرآن" للمطبعة.. وفوجئت بالقبض على فى نوفمبر 1987 بتهمة إنكار السنة.. ودخلت فى نوعية أشد من الاضطهاد، قامت فيها الدولة - التى أدافع عن وجودها ضد دعاة الدولة الدينية - باضطهادى لترضى المتطرفين داخل مصر وخارجها.. واستمر هذا الاضطهاد متزايدا خلال التسعينيات بنفوذ التطرف داخل أجهزة الدولة.. وضاعت أحلامى فى نشر عشرات المؤلفات التى تبرئ الإسلام من التطرف والتى تعطى الناس الحق فى معرفة المسكوت عنه، وتوقظهم من غسيل المخ السفلى الوهابى الذى يتسلل إليهم عبر كل القنوات.
وأتيحت لى الفرصة فى نشر بحث النسخ فى نشرة "التنوير" التى تصدرها الجمعية المصرية للتنوير، وكان ذلك فى شهر يونيه 1994، وآثار البحث اهتماماً كبيراً لدى بعض المفكرين القانونيين، ووصلت أصداؤه إلى جهات كثيرة، وفوجئت بالأهرام يوم الجمعة 18/11/1994 يكتب فى صفحة الفكر الدينى قائلاً "الشيخ الغزالى فى ندوة دينية: لا يوجد نسخ فى القرآن الكريم.." وتحدث المقال عن ندوة تردد فيها بعض ما أنادى به فى هذا البحث وغيره، ثم كانت مفاجأة أخرى فى الأهرام المسائى يوم الجمعة 25/11/1994، تحت عنوان "رأى جديد فى ناسخ ومنسوخ القرآن" بقلم الكاتب الأستاذ حسين جبيل، ويعرض فيه لبحثى عن النسخ الذى نشرته نشرة التنوير وكيف أن بعض الشيوخ قد سطا على أفكاره وأذاعها.
ولا أوافق على هذا القول فيما يخص الشيخ الغزالى، الذى أرى فيه شخصية مجتهدة، ولولا انشغاله السياسى لجدد لنا مسيرة الإمام محمد عبده فى التنظير القرآنى. وهذا يدخل بنا على قصة أخرى لهذا البحث..فالانشغال السياسى- بمناصرة الدولة القائمة ونفاقها أو العمل ضدها لبلوغ هدف سياسى – أعاق القادرين على الاجتهاد برغم الحاجة الماسة والملحة لتجلية حقائق الإسلام فى عصر التدين السطحى والاحتراف الدينى.
ليس فى الاسلام احتراف دينى وليست فيه واسطة بين الناس ورب الناس جل وعلا ، وليس فيه كهنوت أوسلطة دينية أو دولة دينية يزعم صاحبها أنه يستمد سلطته من الله . وليس فى الاسلام تدين سطحى فهو دين التقوى والعمل الصالح الخالص لوجه الله تعالى وحسن الخلق ، وكل من يقرأ القرآن يعرف منزلة المنافقين وتدينهم السطحى .كل ذلك يناقض الاسلام ولكنهم استخداموا الاسلام نفسه فى تبرير الاحتراف الدينى والتدين السطحى المظهرى،كل ذلك فى سبيل حطام دنيوى زائل. أصبح الاسلام فى حاجة لمن ينهض لتبرئته من هذا الاستغلال الفاحش، وهنا دورعلماء الأزهر الذين يوجب عليهم القانون تجلية حقائق الإسلام وتبرئته من هذا الزيف . وحين نهضت بهذه المهمة الاسلامية والقانونية ثار على الشيوخ القاعدون عن الاجتهاد والعاجزون عنه ، وأيدهم قادة التيارالسلفى الطامح للحكم من محترفى التجارة بالإسلام واستغلال اسمه العظيم فى دنيا الطموح السياسى . وجميعهم ليس لديهم الوقت أو الأهلية للاجتهاد فى تجلية حقائق الإسلام، لذلك يكون من الأسهل عليهم ترديد ما قاله السابقون فى العصور الأخرى التى تختلف عن عصرنا، ويكون من الأسهل عليهم رفع شعارات مقدسة مثل: "الإسلام هو الحل"، و"تطبيق الشريعة" وهى شعارات عظيمة لا يختلف عليها أحد، ولكن عندما تسألهم كيف ؟؟ كيف يمكن تطبيق شريعة الله ورسوله ؟.. عند ذلك يسكتون عن الكلام وينطلقون فى السب والاتهام.
ولهذا فهم يكرهون المنهج العلمى الذى أسير عليه فى تحديد المفاهيم قرآنياً وتوضيح الفجوة بين الإسلام والمسلمين، حيث أن الانشغال بالسياسة هو الذى أوجد الفجوة مبكراً بين الإسلام والمسلمين .الخلاف السياسى هو الذى أوقع بالصحابة فى نار الفتنة الأهلية أو الفتنة الكبرى، وهو الذى أدى إلى قيام الحكم الوراثى العضوض فى الدولة الأموية، وفى هذه الفتنة الكبرى انتشرت الأحاديث الكاذبة فى الحرب الدعائية بين الأطراف المتصارعة، ثم كان تدوين تلك الأحاديث فى الدولة العباسية . وفى تلك الدولة العباسية برزت مفاهيم أخرى مخالفة لمفاهيم القرآن، كان من بينها مفهوم النسخ ومفاهيم الفقه والحدود والمكروه والتعزير والحسبة والتصوف والتشيع والسنة.. إلخ.. علاوة على تغيير المفاهيم القرآنية الأصلية مثل الإسلام والإيمان والكفر والشرك.. إلخ.
ومن هنا تبدو الأهمية القصوى لتحديد المفاهيم القرآنية والفجوة بينهما وبين السلف وظروفهم الاجتماعية والسياسية، حتى يتعرف المسلمون فى عصرنا أن ما يريده التيار المتطرف ليس "الإسلام هو الحل" أو "تطبيق الشريعة" وإنما مجرد الوصول للحكم ليستبدوا بالأمر مثلما كان يفعل الخلفاء فى العصور الوسطى الذين كانوا يحكمون بالحديد والنار تحت شعار الشريعة، معتقدين أن الخليفة يملك الأرض ومن عليها..
من أجل ذلك فلا زلت أحلم بأن تتاح للناس فرصة المعرفة الحقيقية بالإسلام ومفاهيمه، واختلافها عن مفاهيم السلف..ومن أجل ذلك أشكر (دار المثقفون العرب) وأخص بالذكر الأستاذ عبد الفتاح عساكر على اهتمامه بإعادة طبع هذا الكتاب الصغير عن النسخ..
والله تعالى المستعان..
د/ أحمد صبحى منصور ... القاهرة 1999