انتهى العصر الأموى سنة 132 هجرية.
وتوالت على مصر دولة الخلافة العباسية والدول المستقلة فى إطار الخلافة العباسية كالطولونية والأخشيدية، ثم الدولة الفاطمية وبعدها الدولة الأيوبية التى انتهت بسيطرة المماليك، وبعدهم سنة 921 كان الفتح العثمانى والخلافة العثمانية التى سيطرت على مصر فعليا أواسميا حتى سقوطها .أى هى فترة تمتد إلى اثنى عشر قرناً من الزمان، وقد كان اضطهاد الأقباط فيها سمة بارزة تحتاج إلى مجلدات فى رصدها ولكننا نوضح الملامح الأساسية فى الموضوع على النحو التالى:
أولاً: من بداية الخلافة العباسية إلى سنة 235 هجرية فى خلافة المتوكل على الله العباسى:
وفى هذه الفترة واصل الأقباط ثوراتهم على ظلم الولاة العباسيين، وكان الاضطهاد فى أغلبه رسمياً من السلطة الحاكمة التى تريد اعتصار الضرائب بالقسوة، والعنف فلا يجد الأقباط طريقة إلا الثورة التى تنتهى بالهزيمة والمذابح.. ونعطى أمثلة سريعة:
• فى سنة 150 هجرية ثار الأقباط فى سخا وطردوا ولاة الضرائب فأرسل لهم العباسيون جيشاً يقوده يزيد بن حاتم، وهاجم الأقباط الجيش ليلاً وقتلوا بعض أفراده وهزموا بعض فصائله، إلا أن الإمدادات العباسية تلاحقت وحاصرت الأقباط وهزمتهم، وامتد الانتقام إلى حرق الكنائس. واضطر الأقباط إلى دفع غرامة قدرها خمسون ألف دينار للوالى العباسى سليمان بن على كى يكف عن حرق الكنائس إلا أنه أبى..
وتولى بعده الوالى موسى بن عيسى العباسى فاستمع إلى نصيحة الأئمة المستنيرين من الفقهاء المشهورين بمصر مثل الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وقد أفتوا له بأن بناء الكنائس من عمارة البلد، فأذن الوالى بإعادة بناء الكنائس، ولكن ظلت المظالم على حالها..
• فى سنة 156 هجرية عاد الأقباط للثورة فى بلهيت، فأرسل لهم الوالى موسى بن عيسى جيشاً فهزمهم وحكم بقتل الرجال وسبى النساء والذرية . وجاء المأمون لزيارة مصر وأنب الولاة واعتبرهم سبب المظالم والثورات، وأمر ببعض الإصلاحات..
• وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية، وبعدها اتبعوا طريق المقاومة السرية، ونحن ننقل معاناة الأقباط عن المقريزى وهو الذى لا يخفى تعصبه ضد النصارى، يقول فى التعليق على ثورة 216 هجرية وآثارها "ومن حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكيدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين..
ثانياً: وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى انتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد استمال السلفيون من أصحاب ابن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى اضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوف وطورد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء، وصدرت قرارات لاضطهاد اليهود والنصارى، وانتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات، ومنها الحديث المشهور "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..." ذلك الحديث الزائف الذى أثبتنا كذبه فى مقالة بجريدة الأحرار والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن..
ويهنا أن هذه الفكرة كان لها ابلغ الأثر فى انتقال الاضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شخن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى.. وبالتالى تحول الاضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى اضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.. وبمرور الزمن تعاظم تأثير تلك الروايات والفتاوى وأصبحت ركائز دينية تفرق بين أبناء الشعب الواحد وتباعد بينهم وبين الدين الحق الذى نزل على خاتم الأنبياء عليهم السلام. والمؤسف أن المسلم اليوم - إذا أراد أن يتدين - يجد أمامه كتابات اولئك الأئمة فيما يعرف الآن بكتب الفقه والسنن وقد احتوت على تلك الروايات والفتاوى فيأخذها عنهم كأنها الدين الحق ويصدق نسبتها الكاذبة للنبى محمد ، مع انها – أى تلك الأحاديث – قد كتبوها ونسبوها للنبى بعد موته بأكثر من قرنين من الزمان عبر اسناد شفهى مضحك. الا أن المسلم اليوم يصدق هذه الأحاديث المفتراة ويعتقد أن النبى محمدا عليه السلام قد قالها فعلا ، وعلى أساسها يعتقد أن كراهية المخالفين فى المذهب والاعتقاد من معالم الدين حتى لو كانوا من المسالمين الصابرين. والدليل على ذلك ما نراه فى عصرنا الراهن من اضطهاد للأقباط مع علو لنفوذ التيار الحنبلى السلفى والذى استعادته الدولة السعودية عبر مذهبها الوهابى وأصبح من علاماته التطرف والتعصب والانغلاق واضطهاد المخالفين والحكم بتكفيرهم وما يترتب على التكفير من سفك للدماء واستحلال للأموال..
أعاد ذلك لعصرنا الراهن ما ساد فى عصر الخليفة المتوكل العباسى من سطوة الفقهاء المتزمتين الذين سموا أنفسهم بأهل السنة واستمرت سطوتهم فى عصر من جاء بعده من الخلفاء حتى أصبحت سياسة متبعة . ثم اعاد التطرف الوهابى والنفوذ السعودى هذا التراث حيا فى عصرنا.وليس غريباً بعدها أن نعرف أن أئمة الحديث المشهورين عاشوا تلك الفترة من ابن حنبل إلى البخارى ومسلم والحاكم وغيرهم ،وقد أصبحوا الآن فى عصرنا آلهة منزهة عن الخطأ ومن يناقشهم - معتبرا اياهم بشرا يخطئون ويصيبون – يكون مصيره الاتهام بالكفروإنكار السنة.!!
ونعود إلى التطور الجديد فى اضطهاد الأقباط فى هذه الفترة.
فى سنة 235 هجرية أصدر الخليفة المتوكل مرسوماً يهدف إلى تحقير (أهل الذمة)فى كل الامبراطورية العباسية، وذلك بإلزامهم بارتداء زى معين ومظهر معين، مع هدم الكنائس الجديدة وتحصيل الضرائب والعشور من منازلهم وأن يجعل على أبواب بيوتهم صوراً للشياطين، ونهى المرسوم عن توظيفهم وتعليمهم عند المسلمين، وتسوية قبورهم بالأرض وألا يحملوا الصليب فى أعيادهم وألا يشعلوا المصابيح فى احتفالاتهم وألا يركبوا الخيول.. وقد طبق الولاة ذلك على أقباط مصر وأصبحت سنة متبعة.
ومفهوم تلك القرارات أن يشارك الناس فى إلزام الأقباط بها، ومن هنا بدأ انغماس العوام فى اضطهاد الأقباط.. وتعلموا أن ذلك يعنى إظهار الإخلاص للإسلام، وانتقل ذلك الفهم الخاطىء لبعض الولاة المتدينين مثل أحمد بن طولون الذى استقل بمصر ذاتياً فى إطار الخلافة العباسية، وكان معروفاً بتدينه وجرأته على سفك الدماء لصالح سلطانه، ولم يكن الأقباط يشكلون خطراً على نفوذه، بل كان يستعين بهم فى دواوينه وأعماله ومع ذلك فقد قام بعمليات اضطهاد ضد الأقباط كأفراد ومنشآت دينية.. ولم تكن له فيها دوافع سياسية، مما يرجح أن دوافعه كانت دينية نتيجة تأثره بالفكر السلفى السنى السائد، وقد كان معروفاً بإخلاصه لذلك الفكر.
والمقريزى يذكر أن أحمد بن طولون ألزم البطرك ميخائيل بدفع غرامة قدرها عشرون ألف دينار واضطره لبيع أوقاف الكنيسة، وفرض ابن طولون ضرائب جديدة على الأقباط..
وحدث سنة 300 هجرية إحراق كنيسة القيامة فى الإسكندرية..
وبعد انتهاء الدولة الطولونية اشتد الوالى ابن الجراح على الأقباط وألزم الرهبان بدفع الجزية فاستغاثوا بالخليفة العباسى المقتدر فأمر برفع الجزية عنهم اكتفاء بما دفعه عامة الأقباط.
وأقام محمد بن طغج دولته الأخشيدية بمصر فأرسل فرقة من جيشه إلى مدينة تنيس على ساحل المتوسط فى سيناء فصادر ما فى الكنيسة الملكية بها.
وقامت الدولة الفاطمية بخلافة شيعية فى مصر تناوئ الخلافة السنية فى بغداد . وفى بداية الفاطميين فى مصر كانوا متسامحين مع الأقباط واليهود، خصوصاً الخليفة المعز لدين الله وابنه الخليفة العزيز بالله إلا أن الخليفة الحاكم ابن الخليفة العزيز بالله الفاطمى كان مشكلة مزمنة لكل المصريين وخصوصاً الأقباط بسبب قراراته الغريبة المتناقضة وجرأته على سفك الدماء..
ففى سنة 393 هجرية أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى باعتقال البطرك زخريس لمدة ثلاثة شهور. وكان التسامح مع الأقباط فى عهد المعز والعزيز قد مكن لكثير منهم العمل فى الدواوين والحصول على كثير من النفوذ والأموال، وبالتالى تعاظمت الشكاوى منهم من المنافسين والعوام بعد أن تم شحن القلوب بالتعصب الدينى . وأثمرت السعاية بهم فى إغضاب الحاكم بأمر الله - وكان لا يملك نفسه إذا غضب - لذلك أمر بقتل عيسى بن نسطورس وفهد بن إبراهيم وهما من كبار النصارى فى الدواوين . ثم أعاد الخليفة الحاكم العمل بمرسوم الخليفة المتوكل العباسى فيما يخص ارتداء النصارى أزياء معينة للتحقير والتشهير ومنعهم من الاحتفال بأعيادهم، وصادر أوقاف الكنائس وأحرق الصلبان ومنع الأقباط من شراء العبيد والجوارى، وهدم الكنائس فى المقس وخارج القاهرة وأباح للعوام نهبها فساهم فى زيادة التعصب بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد.
وتطرف الحاكم بأمر الله الفاطمى فى تحقير الأقباط فألزمهم بتعليق صلبان خشبية ثقيلة (5 أرطال) فى أعناقهم ومنعهم ركوب الخيل، ومنع المسلمين من السماح لهم بالركوب على الحمير بالأجرة أو الركوب فى المراكب بأجرة..
ثم تطورت الحالة الجنونية بالخليفة الحاكم الفاطمى فأخذ فى هدم الكنائس كلها وأباح للناس ما فيها نهباً وإقطاعاً، فنهب العوام كل ما فى الكنائس واقتطعوا أرضها واقتسموها وبنوا مساجد مكانها وأقيمت الصلاة الإسلامية فى الكنائس المشهورة التى بقيت على حالها مثل كنيسة شنودة والكنيسة المعلقة.
وانتقلت الحمى للعوام فتكاثروا بالشكاوى على ديوان الخليفة يطالبون بمستحقات وهمية لهم على الكنائس وأمتعتها، وكانت السلطات الفاطمية توافقهم، فامتلأت الأسواق بالمنهوبات من أمتعة الكنائس والنصارى مثل أوانى الذهب والفضة والأيقونات والثياب الفاخرة وغير ذلك.
وانتقل الاضطهاد من القاهرة إلى الأقاليم فكتب الخليفة الحاكم إلى ولاته بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والأديرة فعم الهدم فيها منذ سنة 403 هجرية واستمر الهدم حتى وصل طبقاً لإحصاء المقريزى سنة 405 هجرية إلى أكثر من ثلاثين ألف منشأة دينية بين بيعة لليهود ودير وكنيسة للنصارى فى مصر والشام وتم نهب كل مقتنياتها وأوقافها.
ثم اشتدت الحالة العصبية بالخليفة فأصدر قراراً بنفى الأقباط وإخراجهم من مصر إلى بلاد الروم ومعهم اليهود، فاجتمع أعيانهم تحت قصر الخليفة يبكون ويصرخون حتى رحمهم الخليفة ورجع عن قرار النفى .!! واضطر كثيرون للدخول فى الإسلام.. وكان ذلك أفظع تجربة للاضطهاد الطائفى فى تاريخ مصر الوسيط..
وبعدها برزت بعض حركات الاضطهاد فى الدولة الأيوبية وفى بداية الدولة المملوكية.. إلا أن العصر المملوكى (الذى امتدت ملامحه الاجتماعية بعد سقوط الدولة المملوكية لتشكل ملامح العصر العثمانى) شهد ملامح خاصة فى التعامل مع الأقباط..
ثالثاً: فالدولة المملوكية
لم تر بأساً فى الاستعانة بالأقباط فى أعمالها الإدارية والمالية ، وفى نفس الوقت أوسعت للشيوخ نفوذاً فى إدارتها المدنية سواء ما كان خاصاً بالوظائف الديوانية كالوزارة أو كان خاصاً بالوظائف الدينية كالقضاء والحسبة ومشيخة الخوانق والمدارس والجوامع..
وفى هذا العصر- المملوكى- تسيد التصوف الحياة الدينية والعقلية ومن شأن التصوف السكون والتسامح والصبر على المكاره، أى كان منتظراً أن يعيش الأقباط أزهى عصور الوحدة الوطنية والتسامح فى العصر المملوكى .
إلا أن العكس هو الذى حدث.
ويرجع السبب إلى عامل أساسى نتجت عنه آثار جانبية زادت فى تأكيده وسيطرته . وقد أشرنا من قبل إلى خطورة ذلك العامل الأساسى وهو إدخال كراهية "أهل الذمة" فى الروايات والفتاوى الدينية التى أصبحت بالدراسة والتلقين والممارسة من أبرز طقوس التدين فى القرون الوسطى وهى عصر التعصب الدينى والحروب الصليبية والتطرف الشكلى فى التمسك بمظاهر التدين دون فهم حقيقى للدين.. وذلك ما ساد العالم وقتها، حيث تم تقسيم العالم إلى قسمين: موطن الكفار وموطن المؤمنين، وكل معسكر يتهم الآخر بالكفر وينعت نفسه بصحيح الإيمان. ثم لا ننسى الحروب الصليبية وأثرها فى تأزيم العلاقة بين المسلمين والنصارى على مستوى العوام والفقهاء .
جاء العصر المملوكى وقد تشبع المسلمون- من علماء وعوام- بأفكار التعصب التى نشرها الحنابلة والسلفيون منذ خلافة المتوكل وأصبحت كما يقال "من المعلوم من الدين بالضرورة". صحيح أن الحنابلة اضطهدوا الصوفية فى عصر المتوكل ومنذ القرن الثالث الهجرى حيث كان التصوف فى بدايته، وصحيح أن الصوفية منذ القرن السابع الهجرى ردوا التحية بأحسن منها فبدءوا فى اضطهاد ابن تيمية وفقهاء الحنابلة فى القرن الثامن الهجرى.. ولكن الصراع السياسى بين الحنابلة والصوفية فى العصر المملوكى وانتصار الصوفية - المشهورين بتسامحهم- على الفقهاء المتزمتين من تيار ابن تيمية لم ينعكس تسامحا سائدا على صعيد العلاقة بالأقباط ، بل ظل اضطهاد الفقهاء والصوفية للأقباط موجودا فى فترات مختلفةً لأن بعض الصوفية اتفق مع الفقهاء الحنابلة فى اعتبارالسنن المكتوبة فى العصر العباسى الثانى تراثاً دينياً يجب التمسك به . أى يتصارعون فيما بينهم ولكن يجتمعون على كراهية الأقباط.
وهذا التشبع بأفكار التعصب وممارسته ساعد على تسيده عوامل أخرى منها أن التصوف نفسه فى العصر المملوكى تحول من الفكر النظرى الملىء بالتسامح الذى كان يردده الحلاج وابن عربى وابن الفارض- وأحياناً أبو حامد الغزالى- إلى طرق صوفية عملية تسعى للسيطرة على الشارع المصرى وتجتذب لها الأعوان والمريدين وتسترزق بالتجارة بالدين فى الموالد الصوفية وحول الأضرحة.. ومن هنا لم يعد لأولئك الشيوخ الجدد متسع للتنظير أو مناقشة الأفكار السلفية التعصبية لخصومهم الحنابلة، بل أن التصوف فى تأثيره الشديد على الحياة العقلية لغير الصوفية قد هبط بها إلى حضيض الجمود وإغلاق باب الاجتهاد وتعقيم الحياة العقلية النقدية، مما أدى إلى ترسيخ المتوارث من الفكر السلفى وتحصينه ضد النقد والنقاش بل وتقديس أئمة الحديث والفقه وأسفارهم ومؤلفاتهم..
ومن ناحية أخرى فإن أشياخ التصوف فى سعيهم نحو السيطرة على المريدين وقعوا فى التنافس، وامتدت ساحات التنافس لتشمل صراعاً داخلياً بين أشياخ الطريق الصوفى الواحد، وبين أشياخ الطرق الصوفية ذات الأصل الواحد، والطرق الصوفية المختلفة، ثم بين الصوفية ومشاهير الفقهاء أصحاب الصيت والأتباع، ثم امتدت المنافسة لتشمل صراعاً بين الصوفية والرهبان وأصحاب النفوذ الدينى بين الأقباط مع غيرة أصحاب الموالد الصوفية من احتفال أو مولد دينى للأقباط.. وذلك التنافس أدى إلى تعصب فاضطهاد فحوادث مؤسفة.
وقريب من ذلك ما كان يجرى من تنافس سياسى على النفوذ إذ كان الحسد يلاحق بعض كبار الموظفين الأقباط فيلجأ بعض الشيوخ إلى إثارة الجماهير والفقهاء ضدهم وتثور حركات التعصب وتلجأ الدولة لترضية الشيوخ بالسماح باضطهاد الأقباط..
وبعض الأقباط كان يعلن إسلامه لينجو من دائرة الاضطهاد ويدعم مركزه الوظيفى فى الدولة المملوكية التى تقوم إدارتها على الظلم والعسف.. ويستخدم ذلك الذى أسلم نفوذه الجديد فى الانتقام ممن ساموه الذل والهوان وهو قبطى.. وهكذا كانت تدور طاحونة التعصب والاضطهاد فى العصر المملوكى فوق رؤوس الجميع.. وكم أحوجنا لدراسة التاريخ والاستفادة به..
ونعطى أمثلة تاريخية للتحليل السابق نراعى ترتيبها حسب السنين..
1- مأساة الراهب بولس الحبيس سنة 666 هجرية:
وقصته مع الظاهر بيبرس تشبه قصة عمرو بن العاص مع القبطى بطرس صاحب الكنز الذى قتله عمرو بعد أن استولى على كنزه بالحيلة..
كان الراهب بولس كاتباً نصرانياً ثم ترهب، وقد عثر على كنز فرعونى فأخفاه وأخذ يتصدق منه على فقراء المسلمين والأقباط وانتشر خبره فاعتقله السلطان الظاهر بيبرس وطلب منه ذلك الكنز فرفض وقال للسلطان أنه يساعد بذلك الكنز الفقراء والمحتاجين ومعظمهم ممن يصادر السلطان أموالهم أى أن الأموال تصل للسلطان فى نهاية الأمر، وكأن الراهب قد أعطى ضوءاً أخضر للسلطان الظاهر بيبرس فى مصادرة الأقباط بالذات، إذ تكاثر ضحايا السلطان من الذين أوقع بهم المصادرات وفرض عليهم الغرامات وقام ذلك الراهب بدفع الغرامات عنهم وإعانتهم، وانطلق الراهب بولس يسير فى المدن والقرى يعين المحتاجين ويطلق بأمواله سراح المعتقلين والمحبوسين بسبب عجزهم عن دفع الغرامات والإتاوات ويتصدق على المحرومين من النصارى والمسلمين وغيرهم من النصابين محترفى الفقر، ومن النوادر التى تحكى أن بعضهم كان يقوم أمامه بتمثيلية، يقوم اثنان بجر رجل وهو يستغيث وهما يضربانه يمثلان دور رجال الشرطة فيستغيث المضروب بالراهب يقول له "يا أبونا أقضى ما علىّ من الديون، فيسأله الراهب عما عليه من الديون، ويكتب له ورقة بالمبلغ الذى يدعيه، فيأخذونه ويصرفونه من الصيرفى كما هو..
ووصلت للسلطان ستمائة ألف دينار عن طريق ذلك الراهب فيما دفعه عن المحبوسين والمصادرين، ولم يكن ذلك الراهب يأكل من ذلك المال، بل كان طعامه ونفقاته من صدقات النصارى، ثم حدث حريق غامض فى حى الباطنية فى سنة 663 وانتشر فى أحياء أخرى بالقاهرة واتخذها السلطان بيبرس فرصة ليصادر كل أموال الراهب فاتهم اليهود والنصارى بإشعال ذلك الحريق، وأصدر أمراً بإحراق كل اليهود والأقباط، ولكى يتقن هذه التمثيلية فقد جمع كبار اليهود والنصارى تحت القلعة وأحضر الحطب والوقود، وكان عددهم ألوفاً وارتفعت استغاثاتهم بالسلطان، فعفا عنهم السلطان نظير غرامة قدرها خمسمائة ألف دينار.. وكما توقع السلطان بادر الراهب بولس بدفعها على أخرها. فاكتسب شهرة فى كل أنحاء مصر، وصارت تتبعه مظاهرات أينما سار تتبرك به وتطلب منه المساعدات والأموال..
وتكاثرت تلك المظاهرات فى مدينة الإسكندرية وأثارت غيظ العلماء والشيوخ فأرسلوا فتاويهم للسلطان تحتم قتل ذلك الراهب حتى لا يفتن المسلمين فى دينهم، ورآها السلطان فرصة شرعية ليتخلص من الراهب ويستولى على كنزه الخبيئ فاعتقله واستجوبه للمرة الثانية عن الكنز فرفض الراهب الاعتراف، فأمر السلطان بتعذيبه حتى يعترف.. واستمر الراهب تحت التعذيب إلى أن لفظ أنفساه الأخيرة ومات سنة 666 هجرية ومات معه سر الكنز .
2- الشيخ الصوفى خضر العدوى سنة 672 هجرية:
كان هذا الشيخ يتمتع باعتقاد السلطان الظاهر بيبرس.. ومشهوراً بانحلاله الخلقى وشذ1وذه الجنسى وتعصبه ضد النصارى فى الشام ومصر، وأفسح الظاهر بيبرس له المجال فهدم كثيراً من الكنائس فى الشام ومصر، ومن الكنائس التى هدمها بمصر كنيسة الروم بالإسكندرية التى يشاع أن فيها رأس النبى يحيى عليه السلام (يوحنا)، وقد تحولت على يد الشيخ خضر العدوى إلى مسجد وسماه (المدرسة الخضراء) وأنفق فى تعمير هذه المدرسة الأموال الكثيرة من بيت المال.
3- واقعة النصارى سنة 682 هجرية:
بسبب الحروب الصليبية كان النصارى مقهورين فى سلطنة الظاهر بيبرس والسلطان المنصور قلاوون وانتهى ذلك بتولى السلطان الأشرف خليل بن قلاوون الذى أنهى الوجود الصليبى فى الشام. الأشرف خليل بن قلاوون أتاح للأقباط النفوذ وعين منهم كبار الموظفين الأقباط الذين تولوا الكتابة فى الدواوين، فأتيح لهم التنفيس عما فى صدروهم من مشاعر الانتقام، فتسلطوا على أرباب الحوائج من المسلمين يذلونهم.. وأدى ذلك فى النهاية إلى ما يعرف بواقعة النصارى سنة 682 هجرية.
وبدأت الواقعة بالكاتب القبطى المعروف باسم "عين الغزال" وقد اتهم سمساراً مسلماً بتأخير ما عليه من أموال للأمير المملوكى الذى يعمل عنده الكاتب القبطى عين الغزال.
ورأى الناس فى الشارع السمسار المسلم يعتذر للكاتب القبطى ويقبل قدمه وهو راكب حصانه والكاتب لا يزداد إلا تجبراً وهو يصمم على اعتقال السمسار وأخذه إلى بيت الأمير المملوكى، وتدخل الناس فى الشوارع وتجمهروا يحاولون تخليص السمسار من الكاتب وهو يرفض، فما كان من الناس إلا أن تكاثروا على الكتاب وألقوه من على دابته وخلصوا السمسار من يده. فذهب الكاتب إلى الأمير وأحضر عدة من الجنود وشرعوا فى القبض على الناس.. وثارت العوام وصاروا فى مظاهرة غاضبة إلى القلعة يهتفون "الله أكبر" فخاف السلطان من ثورة العوام حين عرف بما حدث ، فأمر باعتقال الكاتب القبطى عين الغزال وأصدر مرسوماً بعزل الكتبة الأقباط إن لم يدخلوا فى الإسلام ومن رفض منهم الدخول فى الإسلام ضربت عنقه. فاختفى الأقباط من الشوارع.. ووقع النهب فى بيوتهم.. والسبى فى بعض نسائهم، وأصبح الشارع مشحوناً بالمزيد من التعطش للعنف وأصبح المماليك أسرى للشعور الشعبى المتعصب ، فأمر السلطان بحفر حفرة كبيرة فى سوق الخيل لإحراق الكتبة النصارى، وحضر السلطان والأمراء، وتشفع الأمير بيدرا فى الأقباط.. وفى النهاية ارتضى الكتبة الدخول فى الإسلام، وكتبوا إقراراً بذلك.
ويقول المقريزى يعلق على تلك الحادثة "فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزاً، يبدى من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان تمنعه نصرانيته من إظهاره .
أى بمجرد النطق بالشهادة- أو الشهادتين- أنقذ كل منهم حياته وأصبح من حقه الانتقام من خصومه بسيف السلطة المملوكية وفى حمايتها.. وتلك ضريبة التعصب الدينى حين يسود مجتمعاً وينشر الفرقة والكراهية بين أبنائه.
4- واقعة الوزير المغربى سنة 700 هجرية:
قدم ذلك الوزير المغربى للقاهرة فى طريقه للحج واحتفت به السلطات المملوكية، ونزل ذلك الوزير المغربى يتجول فى القاهرة فى سوق الخيل فرأى رجلاً راكباً فرسه فى ثياب فاخرة وجماعة يمشون فى ركابه وحوله أصحاب الحاجات يتضرعون إليه ويقبلون قدميه وركابه وهو يصيح بغلمانه أن يطردوهم وهم يزدادون له خضوعاً، فسأل الوزير المغربى عن ذلك الراكب صاحب السلطان فعرف أنه كاتب نصرانى، فغضب وصعد للسلطان فلم يجده ووجد كبار الأمراء فأخذ يعظهم ويبكى ويحذرهم من نقمة الله إذ تركوا أعوانهم من الكتبة الأقباط يذلون المسلمين، ونجح الوزير المغربى فى إثارة الأمراء وانتهى الأمر باستصدار قرارات استرجعت مراسيم الخليفة المتوكل العباسى فى إلزام الأقباط بزى معين ومنعهم من ركوب الخيل، وكالعادة تطور الأمر بالوزير المغربى فقام يدعو لهدم الكنائس فوقف ضده قاضى القضاة المصرى ابن دقيق العيد وأفتى بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلا ما استجد بناؤه، ولكن اضطر الأقباط إلى غلق بعض كنائسهم خوفاً عليها من الهدم..
وانتقلت عدوى التخريب من الوزير المغربى إلى العوام فكثرت شكاويهم فى النصارى، وكالعادة استرضتهم السلطات المملوكية بالتضييق على الأقباط واليهود، ومنعهم من التوظف فى الدواوين.. ورآها العوام فرصة لفرض سيطرتهم على أغنياء الأقباط، فتتبعوهم بالضرب حتى اختفوا من الشوارع ولجأ بعضهم إلى إظهار الإسلام تكبراً من ارتداء الزى المفروض عليهم..
وأدى ذلك الاضطهاد إلى تدخل ملك برشلونة إذ أرسل هدية للسلطان المملوكى سنة 703 هجرية ويرجوه إرجاع الأقباط إلى وظائفهم وفتح كنائسهم.. فاستجاب له السلطان وفتح كنيسة فى حارة زويلة وأخرى بالبندقانيين..
5- حركة الشيخ البكرى سنة 714 هجرية:
والشيخ البكرى أحد الصوفية البارزين فى سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، وأحد خصوم الشيخ ابن تيمية. وحدث أن عرف الشيخ البكرى أن النصارى استعاروا من قناديل جامع عمرو شيئاً فهجم الشيخ البكرى على الكنيسة ونكل بالنصارى فيها، ثم عاد إلى جامع عمرو وأهان الموظفين فيه، ووصل أمره للسلطان فعقد له مجلساً للتحقيق، فأخذت العزة الشيخ البكرى وأغلظ القول للسلطان وهو يتصور أن السلطان يخضع له ويتعظ، ولكن فوجئ بالسلطان يأمر بقطع لسانه عقاباً له على جرأته.. فانقلب الشيخ البكرى إلى حالة أخرى، وأخذ يستغيث بالأمراء يرجوهم التشفع له عند السلطان حتى لا يقطع لسانه، ورق له الأمراء فتشفعوا فيه عند السلطان.. فأمر السلطان بنفيه..
6- واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية فى وقت واحد سنة 721 هجرية:
فى كتابنا "السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" المأخوذ عن رسالة الدكتوراة حققنا هذه الحادثة المجهولة والغريبة فى التاريخ المصرى وأثبتنا أن المسئول عنه هى حركة "أحمد البدوى" السرية الشيعية المستترة بالتصوف، إذ أنه بعد فشل تلك الحركة السرية فى قلب نظام الحكم المملوكى - لاقامة دولة شيعية تعيد الحكم الفاطمى لمصر والمنطقة - قامت بتفجير عملية ارهابية سرية لإحراج الدولة المملوكية: وهى التدمير العام للكنائس المصرية من الإسكندرية لأسوان فى وقت واحد وبطريقة واحدة..
إذ أنه بعد صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر ربيع الأول سنة 721 هجرية فوجئ المصلون فى كل المدن المصرية التى بها كنائس بمجذوب مجهول الشخصية يقف صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس، وحين يخرج المسلمون من المسجد يفاجأون بتدمير الكنائس فى المدينة وحرقها وقد سويت بالأرض . وفى ضوء الاعتقاد فى بركات المجاذيب الذى تسيد العصر المملوكى يؤمن الناس بأنها إرادة إلهية وانكشفت أمام بصيرة ذلك المجذوب "المكشوف عنه الحجاب". وسرعان ما يدب الحماس إلى العوام ويشاركون فى الإجهاز على ما تبقى من بنيان للكنيسة..
ووصل إلى علم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما حدث ، جاءته الأنباء من ضواحى القاهرة بأن الكنائس فيها قد دمرت فى نفس الوقت وبنفس الكيفية.. وأن المجذوب المجهول قد صاح فى نفس الوقت وفى كل المساجد.. وفى اليوم التالى جاءت الأنباء من الإسكندرية والوجه البحرى والصعيد أن كل الكنائس- عدا الكنيسة المعلقة- قد أصابها الهدم والحريق فى نفس الوقت، أى فى ساعة الصفر. وبلغ عدد الكنائس ستين كنيسة.. وتعجب السلطان ووافق مقالة العلماء والقضاء على أنها إرادة الله، لأنه لا يستطيع بشر أن يفعل ذلك فى كل أنحاء مصر فى نفس الوقت، واقتنع السلطان برأى العلماء بألا يفعل شيئاً لأنها إرادة الله التى لا يقف فى وجهها إنسان.
إلا أن الأقباط لم يقتنعوا.. وصمموا على الانتقام..
فى الأيام التالية فوجئ سكان القاهرة باشتعال الحرائق فى المساجد فى نواح مختلفة، ولا يكادون يفرغون من إطفاء حريق حتى يفاجئهم حريق آخر، واستراح المسلمون إلى التفسير الغيبى القائل بأنها إرادة الله، لولا أنهم اكتشفوا فتيلة كبيرة ملوثة بالنفط قد ألقيت على بعض المساجد مع توالى الحرائق فى الجوامع والخوانق والمدارس.. فأشارت أصابع الاتهام للأقباط، وسرعان ما ضبطوا بعض الرهبان متلبسين واعترفوا فأحرقت السلطات أربعة منهم.. وانطلق العوام فى إيذاء الأقباط، واندلعت المظاهرات وكادت أن تتحول إلى مذابح، وأسرعت السلطات المملوكية بالسيطرة على الأمور وقبضت على بعض العوام ومثيرى الشغب وكان منهم بعض المتعممين والتجار، وأمرت السلطات بقطع بعضهم نصفين، أو ما يعرف بالتوسيط، وتدخل الكبار وتشفعوا فى كبار المتهمين وأفرج عنهم . إلا أن الحريق لم ينقطع، وضبط بعض النصارى متلبسين واعترفوا تحت التعذيب، وعندما علم العوام بما حدث حاصروا القلعة وواجهوا السلطان بصيحة رجل واحد تدعو لنصرة الدين فخشع لهم السلطان وسمح لهم بقتل كل من وجدوه من النصارى، ثم تعدل الأمر بقتل من يلبس العمامة البيضاء من النصارى ومن يركب دابة، وفرض عليهم ركوب الحمير بهيئة مقلوبة ولا يدخلون الحمامات إلا وفى رقابهم جرس ولا يرتدى أحدهم زى المسلمين، وألا يعملوا فى الوظائف، وعزل جميع الأقباط من الوظائف..
وكان ذلك أفظع اضطهاد واجهه الأقباط فى العصر المملوكى..
وكانت له آثاره الداخلية والخارجية..
فعلى الصعيد الداخلى احتدم العداء والحقد الطائفى بين المسلمين والأقباط فى السنوات التالية كما سنرى..
وعلى الصعيد الخارجى اشتد غضب ملك الحبشة الذى كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين فبعث باحتجاج شديد اللهجة إلى السلطان الناصر محمد ويهدد فيه باتخاذ إجراءات مماثلة ضد المسلمين عنده ويهدد بتحويل مجرى النيل، غير أن الناصر محمد لم يعبأ بهذا التهديد ولذلك بدأ سلطان الحبشة واسمه "عمد صيهون" الحرب ضد الإمارات الإسلامية المجاورة له، وتابع ابنه "سيف أرعد" أعماله ضد التجارة المصرية وممتلكات المسلمين المجاورة له..
وتمكن أحد ضحايا الاضطهاد لسنة 721 هجرية من الانتقام لقومه الأقباط من المسلمين.. وهو النشو الذى أظهر الإسلام لدى السلطان الناصر محمد وسماه السلطان عبد الوهاب شرف الدين، وأظهر للسلطان الورع والفقر والزهد فحاز على ثقته وتعاظم نفوذه حتى أصبح المسيطر على الدولة المملوكية كلها لمدة سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتله السلطان بعد تعذيب شديد فى يوم الأربعاء ثانى ربيع الآخر سنة 740 هجرية.
وما فعله النشو بالمسلمين فى إطار السلطة المملوكية وتحت شعارها كان لا يمكن تفسيره إلا فى ضوء الانتقام لقومه بعد أن ضمن رضا السلطان الناصر محمد عنه.. وقد تنوعت مظالمه للمسلمين ما بين قتل ومصادرة ونفى وتقطيع أطراف وخصاء، وكانت مصادرته لوجوه الناس وأرباب المناصب والتجار والعوام لا تنقطع.. وكان يجتمع كل ليلة مع خواصه والمقربين منه يفكر فى طريقة جديدة للانتقام من المسلمين وفرض ضرائب جديدة عليهم أو الإيقاع بأصحاب المناصب أو سلب الأوقاف على المساجد وبيوت العبادة..
وبرغم تنوع أعدائه واختلافاتهم وتفرقهم وصراعاتهم إلا أنهم اتحدوا ضد النشو، وحاولوا الكيد له مراراً إلا أن ثقة السلطان فيه وقفت حائلاً يحميه . وفى عهده ضاع صوت الاضطهاد ضد الأقباط.. بل أن اضطهاده للمسلمين جعلهم جميعاً يجتمعون فى المساجد للدعاء عليه.. وعندما علم النشو بذلك ما زال بالسلطان حتى منع الوعاظ من الوعظ. وتحدى النشو كبار الصوفية- وهم أصحاب النفوذ الدينى والشعبى- فطرد من مصر أشهر صوفى فى عصره وهو الشيخ الكردى الذى نفاه للشام، كما اعتقل شيخ خانقاه بهاء الدين أرسلان بالإسكندرية واتهمه بتهم باطلة . وفى النهاية ظهر للسلطان خيانته وسرقاته فاعتقله واعتقل أخاه وصهره وأعوانه، واكتشف السلطان حجم ما سرقه من أموال ونفائس.. فعذبه وقتله.. وكان التخلص منه يوم عيد، ذاعت فيه أساطير الكرامات وشتى الادعاءات ومنها أن النيل زاد ورؤيت المنامات الصالحة على حد قولهم، وسارت المظاهرات تحمل المصاحف والأعلام..
وبعد النشو عادت حركات متفرقة ضد الأقباط..
منها سنة 838 هجرية : هدم الشيخ سليم لكنيسة جددها النصارى فى الجيزة.
وسنة 841 هجرية : هدم الشيخ ناصر الدين الطنطاوى لدير العطش الذى يقام عنده مولد سنوى يضاهى مولد السيد البدوى، فأحس الشيخ ناصر الدين الطنطاوى بالغيرة فما زال يسعى حتى هدم الدير..
وكان مثله الشيخ النعمانى سنة 852 هجرية الذى تخصص فى هدم الكنائس التى يجددها أصحابها..
وكانت عادة سيئة فى تلك العصور أنه إذا حدث أوبئة أو مجاعات ونقصان للنيل فمن السهل أن يعتبر ذلك غضباً من الله تعالى بسبب التهاون مع "أهل الذمة" والسماح لهم بممارسة شعائرهم، لذلك كانت ترتبط المجاعات والأوبئة أحياناً بحركات اضطهاد طائفية تستجلب رضى الله تعالى بظلم الأبرياء !!
وفى النهاية..
فمع وجود كل تلك الاضطهادات فإن النظرة المنهجية تحتم الاعتراف بأنها كانت جملاً اعتراضية فى التاريخ المصرى الطويل بعد الفتح الإسلامى. لم تكن ظاهرة عامة فى تاريخ مصر فى العصور الوسطى. بل أن الظاهرة العامة هى سيادة التسامح بين أفراد الشعب. إلا أن الاستثناء كان يأتى من الحكام أساسا وهم غير مصريين أو من العلماء الوافدين. وجاءت حركات متفرقة قليلة من العوام حين تأثروا بالظروف التى خلقها الآخرون وهذا ما ينطبق حاليا على تلك الحركة السلفية الوهابية السعودية الأصل والمنهج والمخالفة لطبيعة التدين المصرى المتسامح.
وعدا تلك الحالات التى رصدناها كانت هناك ملامح إيجابية كثيرة للتسامح من بعض الحكام ومن العلماء الا انها كانت أساسية فى التعامل الشعبى. وهى تعبر عن حقيقة التدين المصرى الذى اشتهر فى العصور الوسطى بالاعتدال وإيثار السلام وكان ذلك التدين المصرى يثير إعجاب الرحالة والمؤرخين القادمين لمصر. كما حدث مع ابن خلدون وابن ظهيرة وغيرهما, وذلك موضوع آخر شرحه يطول..