الغزالى حُجّة الشيطان : ف 2 : الغزالى فى الإحياء يرفع التصوف فوق الاسلام ( 1 )
الفصل الثانى : الغزالى فى الإحياء يرفع التصوف فوق الاسلام ( 1 )
الحلقة الأولى :
مقدمة للفصل الثانى
1- دخل الغزالي بالتصوف عصراً جديداً ، بتقرير التصوف السُنّى ، وقرّب بينه وبين دين السنة لصالح التصوف ، وجعل هذا التصوف فوق الاسلام .
2- وقد بدأ الغزالي فقيهاً تتلمذ على يد الجوينى إمام الحرمين ، وبعد موته قصد الغزالي نظام الملك وناظر العلماء بحضرته وتفوق عليهم ، فولاه نظام الملك تدريس المدرسة النظامية ببغداد فازدادت شهرته ، فاعتكف بالجامع الأموي بدمشق ، وصنف كتابه ( الإحياء ) وقضى آخر عمره في موطنه بطوس يوزع أوقاته بين مدرسة الفقهاء وخانقاة الصوفية .
3- وكتم الغزالي تصوفه وقت تلمذته للجوينى ( إمام الحرمين )،لأن إمام الحرمين كان يحتقر الصوفية ، وقد قال فيهم ( ما شغل هؤلاء إلا الأكل والشرب والرقص ) [1]. وبعد موت الجويني وخلو الجو للغزالي واشتهاره في حاضرة العالم الإسلامي – بغداد – وتصدره للعلماء فيها – أعلن الغزالي تصوفه وألف كتابه " الإحياء" .
4- بيد أن ذلك كله لم يكن عاصماً له من ثورة الفقهاء عليه ، ومع أنهم كانوا دونه علماً وشهرةً ونفوذاً إلا أنهم أفتوا بتكفيره وأحرقوا كتابه " الإحياء" في مواضع شتى في البلاد الإسلامية [2] ، حتى اضطر الغزالي إلى تصنيف مؤلفات يرد بها على منكري كتابه " الإحياء" ومنها " إشكالات الإحياء " ، وفيه يقول مستهينا بخصومه ( أدلة الطريق هم العلماء ورثة الأنبياء وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون ، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان )[3] .
5- وواجه الصوفية الإنكار على الغزالي وكتابه بأسلوبهم التقليدي وهو المنامات التي يدعون بها أن الرسول عليه السلام يؤيدهم ويهاجم خصومهم ، وحرصت المنامات الصوفية على أن تجعل النبي صلي الله عليه وسلم يبارك الغزالي و(الإحياء) ويهين المعترضين [4] ، وقالوا في أحد المنامات أن الإمام " ابن حرزهم " الفقيه المغربي كان قد بالغ في الإنكار على كتاب الإحياء وهمٌ بإحراقه فرأى الغزالي عند الرسول عليه السلام يقول له عن ابن حرزهم : يا رسول الله هذا خصمي فخذ لي حقي منه ، وأن النبي عليه السلام تصفح كتاب الإحياء وأثنى عليه ، وأمر بجلد " ابن حرزهم " ، واستيقظ الفقيه وأثر الجلد على جسده ، وانتهت الأسطورة بتصوفه [5] .
وابن حرزهم هذا لم يكن رأس المنكرين على الإحياء كما تصوره تلك الأسطورة فقد كان ابن رشد [6] خصم الغزالي وزعيم المنكرين عليه في المغرب ، أما ابن حرزهم هذا فمجهول جعله الصوفية بطلاً في منام يحقق غرضهم .. ويقول " العيدروس" معلقاً على إحراق كتب الإحياء في المغرب ( روى السمعاني أن بعضهم رأى فيما يرى النائم كأن الشمس طلعت من مغربها ، مع تعبير ثقات المعبرين ببدعة تحدث ، فحدثت في جميع المغرب بدعة الأمر بإحراق كتبه ) [7].
وبعض الصوفية عوضٌ الغزالي عن العنت الذي لاقاه من المنكرين فجعله مجدد الإسلام على رأس المائة الخامسة [8].
6 – ووصف الغزالي ما فعله خصومه بكتابه ( الإحياء ) فقال ( طعنوا عليه ونهوا عن قراءته ومطالعته ، وأفتوا بإطراجه ومنابذته ، ونسبوا مُمليه إلى ضلال وإضلال ، ورموا منتحليه وقراءه بزيغ عن الشريعة ) [9] .
وفي المقابل بالغ الصوفية في تقديس الإحياء ، إلى درجة المقارنة بالقرآن الكريم ، فاهتموا بحفظه بلفظه وتوارثوا التوصية به عند الموت ، وقيل فيه ( لو قلب أوراق الإحياء كافر لأسلم ، ففيه سر خفي يجذب القلوب شبه المغناطيس ) .. وقال الإمام النووي ( كاد الإحياء أن يكون قرآنا ) [10].
7- ويظل ( إحياء علوم الدين ) أخطر كتب الصوفية على الإطلاق . وتكمن خطورته في أنه لم يكن كتاباً مقتصراً على التصوف وحده كما فعل الطوسي في اللمع والقشيري في الرسالة قبل الغزالي ، وكما فعل ابن عربي في الفتوحات المكية والفصوص فيما بعد . ولكن الغزالي عرض لشتى الموضوعات وأوردها في خدمة هدفه الأصلي وهو التصوف والعلم اللدني الذي يتمتع به الصوفية دون العالمين ، ثم يعرض لعقائد التصوف في نواح متفرقة في ثنايا بحثه لموضوعات شتى قد تبدو بعيدة الصلة بالتصوف . وأدرك الغزالي مطاعن الفقهاء في عصره [11]، وتفوق عليهم بالمنطق والفلسفة فعرض في كتابه للموضوعات الفقهية بطريقة جديدة مخالفة للفقهاء السنيين ، أعلى فيها من شأن العوامل الباطنية في أداء العبادات كالنية والرياء والإخلاص ، وفي عرضه للفقه بهذا المنهج الجديد لم ينس التعريض بخصومه الفقهاء الذين غالوا في استقراء الحركات الظاهرية ، يقول الغزالي ( يتكلم الفقيه في الإسلام فيما يصح وما يفسد وشروطه ، ولا يلتفت إلا إلى اللسان ، أما القلب فخارج عن ولاية الفقيه .. وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها )[12].
وأتخذ الغزالي من هذا المطعن سبيلاً إلى أن العقيدة وبحوثها تخرج عن إمكانات الفقيه وليس من رجالها ، وبالتالي فليس في وسعه أن يفهم علوم المكاشفة – أو عقائد التصوف – التي انفرد بها الصوفية ( .. وإذا تكلم الفقيه في غير الدنيا – أي تكلم في صفات القلب وأحكام الآخرة – فقد تطفل )[13]. ثم ارتدى الغزالي ثوب الفقه فهاجم المتكلمين وأعتبر هذا العلم من البدع [14] ، وعلم الكلام ألصق بالفلسفة ، ومعلوم أنه ألف في الفلسفة ( تهافت الفلاسفة ) ينقم فيه على " ابن رشد " اتجاهه العقلي الأرسطي مع أن العقيدة الصوفية عند الغزالي مستقاة من الفلسفات الغنوصية اليونانية التي سبقت في شرح مقالة الاتحاد بالله .. ثم أن الغزالي كان يستعير أسلوب الفلاسفة في شرحه لعقائد الصوفية ..
فى تأسيس ( التصوف السنى ) احتاج الغزالي إلى إفتراء الأحاديث والتلاعب بالآيات القرآنية . وقد قام الحافظ العراقي بتخريج الأحاديث الواردة في الإحياء . طبقا لطريقة المحدثين فى ( الجرح والتعديل ) ووفضح الغزالى ، هذا مع تعاطف العراقي مع الغزالي واستدلال الصوفية بأقواله في هذا الشأن . والواقع أن كثرة الأحاديث الباطلة في الإحياء كانت أهم المطاعن التي ووجه بها الغزالي ولم يجده نفعاً ما دافع عنه أتباعه [15].
ونعرض لبعض مقالات الغزالى فى الإحياء ، ونعلق عليها :
يقول :
( التوحيد : القول فيه يطول وهو من علوم المكاشفة ) أي أن الغزالي يسد الطريق مقدماً على الفقهاء وهم محرومون من العلم الذي يكاشف الله به أولياءه ، ثم يقول ( للتوحيد أربع مراتب وهو ينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر :
فالمرتبة الأولى من التوحيد : هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين ، والثانية : أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه ، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام ، والثالثة : أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق ، وهو نظام المقربين ، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار . والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحداً ، وهي مشاهدة الصديقين ، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد ، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً ، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياُ عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق ..).
2- ثم يشرح الغزالي في ضوء ما سبق أنواع الموحدين ، يقول ( فالأول : موحد بمجرد اللسان ، و يعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف .. والثاني : موحَّد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه ، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفى عليه ، ولم تضعف بالمعاصي عقدته ... والثالث : موحَّد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً ، إذا انكشف له الحق كما هو عليه ، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً ، وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه ، لا إنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين .. والرابع : موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد ، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد ) [16].
ب) ولنا على الغزالي ملاحظات :
1- أنه جعل للنفاق درجة في التوحيد ، ثم جعل الإسلام توحيد العوام ، ويلمح إلى نوع من المقارنة بين الفريقين ، فالأول يعصمه الإقرار بالتوحيد من الموت بالسيف أما الثاني فيعصمه اعتقاده القلبي من العذاب في الآخرة . أما الصوفية فلا يأبهون بالجنة أو بالنار ( ولذلك قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين ، وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا الحجاب فقط ، وقالوا ومن يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط ) [17].
ولسنا في مجال التعليق على ذلك النص الذي يجعل الصوفية أنداداً لله ويفضلهم على الرسل الذين كانوا يعبدون الله رغبة ورهبة ، ويكفى أن نقرر أن ترفع الصوفية عن الجنة وسخريتهم بالنار تردد في مواضع شتى في الإحياء [18] كإحدى مظاهر عقيدة الاتحاد التي تسبغ الألوهية على الصوفية ..
ارتقى الغزالي بعقيدته الصوفية إلى المرتبتين الثالثة والرابعة .. بينما جعل المنافقين والعصاة في المرتبة السفلى ثم جعل صالحي المسلمين وهم (العوام ) في المرتبة التالية، وحرم عليهم الصعود لمرتبة العقيدة الصوفية لأن أساس العقيدة الصوفية في المرتبة الثالثة قائم على الكشف أي علم الغيب ، وهو للصوفية خاصة من دون الناس : يقول الغزالي عن المرتبة الثالثة ( أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين ) وشرح ذلك الكشف بقوله ( وقد انكشفت له الحقيقة كما هي ، لا أنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة ، فإن تلك رتبة العوام المتكلمين )..
لم يجد الغزالي سنداً للعقيدة الصوفية إلا الكشف أو الوحي الذي يتلقاه الصوفي من لدن ربه ، ومعنى ذلك أن هناك عقيدة جديدة نزلت من السماء تعلو فوق دين الله (الإسلام) .. ومعنى ذلك أن القرآن لم يشتمل على أسرار تلك العقيدة التي اختص بها الصوفية من دون الناس،ذلك أن القرآن والإسلام هما للعامة وزعمائهم من الفقهاء والمتكلمين ، وهما في الدرجة الدنيا في تقسيم الصوفية ..
قرر الغزالي في المرتبة الثالثة – أو المرتبة الأولى في عقيدة الصوفية – وحدة الفاعل ، ومعنى ذلك أن كل فعل يصدر عن البشر إنما يصدر في الحقيقة عن الله تعالى ، أي يسند أفعال البشر السيئة أو الدنيئة لله( تعالى عن ذلك علواً كبيراً ) مع أن الله تعالى يقول ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ .. النساء 79 ) والقول بالجبرية من أسس العقيدة الصوفية التي تجعل الله الروح المسيطر والكامن في المظاهر الحسية، وذلك يتناقض مع الإسلام والثواب العقاب والجنة والنار، وكلها في نهاية الأمر لا تهم الصوفية الذين يهتمون أساسا بالاتحاد أو التأليه.
ثم قرر الغزالي في المرتبة الأسمى وحدة الوجود ، أي الذوات على كثرتها ليست إلا وجوداً واحداً و ذاتاً واحدة حتى أن الصوفي يفنى فلا يرى نفسه ، وبالطبع لن يرى غيره ،لأنه يرى الله في كل شيء .
رغم ما واجهه الغزالي من إنكار فإنه لم يتخل عن عقيدته بل جعلها من مقامات التصوف عنده في كتابه ( إشكالات الأحياء ) الذي رد به على المنكرين ، يقول في مقام المشاهدة : إنها ( ثلاثة : مشاهدة بالحق ، وهى رؤية الأشياء بدلائل التوحيد ، ومشاهدة للحق ، وهى رؤية الحق في الأشياء ، ومشاهدة الحق ، وهى حقيقة اليقين بلا ارتياب)[19] . فالمشاهدة الأولى : إسلامية ، والثانية : تعبر عن الاتحاد ، والأخيرة : عن وحدة الوجود المطلقة .
[1] اليافعي روض الرياحين 14 .
[2] الشعراني : الطبقات الكبرى جـ 1 / 10 .
[3] إشكالات الإحياء 68 على هامش الإحياء.
[4] العيدروس : التعريف بالإحياء 12 ، 13 على هامش الإحياء .
[5] العيدروس نفس المرجع 9 : 12 .
[6] الشعراني: المرجع السابق جـ 1/ 10.
[7] التعريف بالإحياء 29 .
[8] نفس المرجع 34 .
[9] نفس المرجع 49 ، 15 إلى 22 .
[10] نفس المرجع 49 ، 15 إلى 22.
[11] قال ابن الجوزي ( كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث .. ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا ًوصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا ، وربما أعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم .. تلبيس إبليس 115 ) .
[12] الإحياء جـ 1/ 19 .
[13] الإحياء جـ 1 / 19 .
[14] الإحياء جـ 1/ 20 .
[15] التعريف بالإحياء 27 : 29 .
[16] الإحياء ، جـ 1/ 211: 212 .
[17] إحياء جـ4/ 22.
[18] إحياء جـ 4/ 227 : 228 ، 254، 266، 299، 305 ، 308 ، 309 ، 326 مجرد أمثلة .
[19] إشكالات الأحياء64