في مؤتمر الاستثمار في الصعيد الذي اقيم الاسبوع الماضي بالاقصر كان غياب جمال مبارك وعدد من كبار رجال الاعمال هو المادة الرئيسية للنميمة وجري نفي رسمي لحكاية حضور جمال. ولكن الحقيقة الوحيدة في هذا المؤتمر ان الصعيد يملك فرصاً هائلة للاستثمار بعائد مجزٍ للمواطن والمستثمر معا ولكن الامر يتطلب من الحكومة تدخلاً يلائم حالة الصعيد وبدون رعاية رجال اعمال جمال مبارك. وعلي العكس فليس هناك اخطر علي الصعيد من تكرار تجربة افراح ومؤتمرات توشكي واخواتها كشرق التفريعة وجنوب غرب السويس والاعلانات المضروبة من جانب عدد من رجال الاعمال عن اقامة مشروعات بكام مليار جنيه ثم ينتهي الفرح وقد حصل هؤلاء الكبار علي كام مليون فدان من الاراضي بغرض التسقيع او اقامة مشروعات عقارية ومنتجعات سياحية عندما يرتفع سعر الاراضي بالمنطقة.
ربما تكون الميزة الوحيدة لتأخر التنمية في الصعيد هي ألا يكرر الصعايدة اخطاء الاستثمار في العاصمة المركزية واول واخطر هذه العيوب هي اللعبة الشهيرة والشريرة معا التي تلعبها الحكومة ورجال اعمالها. لعبة تكررت كثيرا. تعلن الحكومة عن برنامج للتنمية في منطقة ما وتعتبر الحكومة تنفيذ البرنامج قضية شرف. ويتقدم كبار اهل البيزنس الفرح.. رحلات طيران خاصة وعامة واقامة خمس نجوم علي حسابهم واعلان عن استثمارات بكام مليار جنيه واعلانات مدفوعة عن الرحلات والمشروعات وتتحول المشروعات الي انجازات علي لسان الوزراء حتي قبل البدء في اعداد دراسات الجدوي. لم ينج الصعيد من الفقر بهذه الصيغة. ولايجب التعامل مع الصعيد واهله باعتباره مشروعاً خيرياً يجب وضعه تحت رعاية جمال مبارك ليسارع اهل الخير والمال بالتبرع له.
حضر المؤتمركل محافظي الصعيد والبحر الاحمر واقيم تحت رعاية وزير الاستثمار وحضره محمود محيي الدين وعدد من المسئولين الحكوميين وبمشاركة من مدينة الاقصر وكانت المفاجأة بالنسبة لي ولعدد من الحضور ان الصعيد ليس فقيرا علي الاطلاق في فرص الاستثمار. و ان اكثر من ثلاث محافظات في الصعيد تملك اكثر من مليون فدان لزراعة القمح مع توفر المياه اللازمة لزراعته. وهو رقم يقترب من المساحة التي تسعي الحكومة المصرية لزراعتها في السودان. تستطيع محافظة الوادي الجديد الخالية من انفلونزا الطيور ان تمد مصر بمعظم ما نحتاجه من دواجن ولحوم بيضاء عبر اكبر مزرعة في مصر ولو تدخلت الحكومة بشكل جاد ومباشر في مجال التصنيع الغذائي فقط لوفرت 40%من ثروات الصعيد الزراعية. ويمتلك الصعيد ثروة هائلة بمليارات الجنيهات من المعادن والحجر الجيري والرخام. باختصار فإن مستقبل الاستثمار في مصر وامنها الغذائي يمر عبر الصعيد. وحاجة المصراوية للصعايدة لا تقل عن حاجتهم لنا.
المشكلة في الصعيد ان الاهتمام به جاء في عصر تغير فيه دور الدولة ولم تعد تدخل مباشرة في عملية الاستثمار. حتي الكلمات تغيرت واصبحت كلمة الدعم عار يجب الابتعاد عنه. الموضة الحالية هي التحفيز والمساهمة في الترويج والدعم الفني.
ولكن الدراسة المتعمقة للصعيد التي بدأها د زياد بهاء الدين اثناء رئاسته لهيئة الاستثمار كشفت ان الصعيد ومستثمريه في حاجة الي وجود من نوع خاص. علاقة اكثر حميمية بين الدولة والقطاع الخاص ومن هنا ظهرت فكرة الشركة القابضة للصعيد. شركة قطاع خاص بمال عام بمساهمة كل من بنكي الاهلي ومصر وشركة مصر للتأمين والشركة القابضة للسياحة والفنادق. وتبحث الشركة عن فرص الاستثمار بالصعيد وتسهم بالدعم الفني مثل تحديد الفرص الاستثمارية ودراسات الجدوي والحصول علي التراخيص. ويجوز لها ان تشارك بنسبة لاتزي د علي 20% من رأسمال المشروع علي الا تزيد مدة المشاركة علي سبع سنوات وبدأت الشركة برأسمال 10 ملايين جنيه ثم 60 مليوناً واخيرا وصل الي 100 مليون جنيه. وبعد الاعلان عن الشركة بوقت قليل أعلن عن شركة خاصة لتنمية الصعيد برأسمال قدره 500 مليون جنيه ولم تظهر اية آثار للشركة بما في ذلك اجراءات تسجيلها. ولكن الشركة الحكومية بدأت بالفعل اول مشروعاتها وهو 2 من الفنادق العائمة بمحافظتي سوهاج واسيوط. وهناك محافظات في الصعيد تحتاج فورا لفنادق تصوروا ان احد المحافظين قال في المؤتمر ان محافظ ته لا توجد بها فنادق. ولايمكن بالطبع انتظار الترويج الحكومي للمشروعات السياحية بالصعيد حتي نبني الفندق لان عدم وجود فندق في حد ذاته معوق مهم لذهاب المستثمر هناك. وقد عبر وزير الاستثمار محمود محيي الدين عن هذه الإشكالية عندما قال ان وجود اماكن للترفيه ومدارس جيدة يعد من عناصر الجذب للصعيد. ولكن يجب ألا ننتظر من محيي الدين أكثر من التفهم. والزيارات والمساهمة في الترويج. رغم ان محيي الدين هو أكثر الوزراء إيمانا بتنمية الصعيد فإن هذا الإيمان لم يصل الي درجة الاستثمار المباشر للمال العام في الصعيد. محمود محيي الدين يسير في اتجاه عكسي وفي المؤتمر لم يقلل من الدعم المركزي من خلال شبكة الطرق وتوصيل الغاز الطبيعي للصعيد ولكنه تحدث عن ضرورة المنافسة بين محافظات الصعيد علي جذب المستثمر بدعوي اللامركزية.
ولكن الاستعراض الذي قدمه محافظو الصعيد للفرص الاستثمارية يكشف عن الاهمية القصوي للتدخل المركزي لبناء خريطة للتنمية في الصعيد بدلا من ترك الامر للتخبط والعشوائية التي يمكن أن تؤدي للتشتت في تنفيذ المشروعات فمعظم المحافظين قدموا مشروعات متشابهة ولم يقدم معظم المحافظين صورة مميزة للاستثمار في محافظاتهم لم يجيبوا علي السؤال المهم في جذب الاستثمار ماذا يميز مشروعات محافظتي عن غيرها من المحافظات ؟ولماذاسيذهب المستثمر لسوهاج ولايذهب للمنيا. الاكثر خطورة ان بعض المشروعات تهدد مستقبل مشروعات أخري في نفس المحافظة لانها تؤدي الي رفع نسبة التلوث. ربما يكون من الافضل ان تبتعد بعض المحافظات عن المشروعات الملوثة للبيئة. لكن اخطر ما تكشفه المشروعات التي استعرضها المحافظون هو الاتجاه للمشروعات الكبيرة ذات الاستثمارات الضخمة. وهذا النوع من الاستثمارات قد يحقق معدلاً عالياً من النمو ولكن نتائجة لإحداث تنمية يستفيد منها الصغير قبل الكبير محدودة للغاية . ولذلك يجب ان نفكر في حلول وافكار مختلفة تضمن ان يشارك الصعايدة الاثرياء في هذه المشروعات. وربما يكون من ضمن هذه الحلول ان تتخلص الحكومة من خجلها من الدخول في الاستثمار المباشر وان تقود وبنفسها تنفيذ بعض المشروعات في الصعيد وبمشاركة ومساهمات صغيرة من اهل الصعيد، وقد يكون الطرح في البورصة احد الحلول لضخ استثمارات لهذه المشروعات. وحتي اذا لم تنجح الحكومة في التخلص من رعبها ان يتم ضبطها متلبسة بالاستثمار المباشر في الصعيد فان أضمن نتيجة لها ان نجاح التنمية في الصعيد سيمحي اثر عار دخول المال العام بمشروعات مباشرة في عالم الخصخصة والبيع وهيمنة اهل البيزنس خاصة ان الكبار منهم غير متحمسين لابتلاع الصعيد. الامر يحتاج لشجاعة والي تكرار تجربة شركة الصعيد في مشروعات اخري مثلما حدث في عودة المال العام في الاستثمار المباشر في الاسمنت في قنا بعد عشرين عاماً من الغياب والبيع لشركات الاسمنت العامة. وبدون ذلك ستتأخر التنمية في الصعيد وفي مصر ولذلك يجب ان تذهب الحكومة كمستثمرة للصعيد حتي لو ذهبت متنكرة في شكل شركة.