ليس من المألوف أن نتحدث عن اضطهاد معين دون إثباته أولاً ثم يأتى بعد ذلك توضيح موقف الإسلام منه.إلا أن انتماء المؤلف الإسلامى وحرصه على تبرئة دينه ومعايشته للتاريخ الإسلامى والتراث كل ذلك جعله يبدأ بتوضيح موقف الإسلام وتبرئته من أعمال بعض المسلمين، ثم يسير مع وقائع الاضطهاد والمسئولين عنها.
ويرى المؤلف أن السياق التاريخى يتفق مع وجهة نظره..
فقد ظهر الإسلام بدعوته الإصلاحية التحررية أولاً.. ثم ما لبس أن تحول على يد المسلمين إلى إمبراطورية فاتحة تراعى مقتضيات الحكم والسياسة والسيادة على حساب تعاليم الإسلام نفسه، بل إن أعوانها من علماء الدين كانوا يصوغون لها من الأحاديث المزورة والفتاوى ما يبرر لهم تصرفاتهم التى تخالف القرآن الكريم، ثم يزعمون أن تلك الأحاديث والفتاوى أبطلت أحكام القرآن الكريم تحت مصطلح النسخ.
ثم إننا نشهد الآن بعثاً للاضطهاد الذى كان سمة العصور الوسطى، وذلك الاضطهاد يقوم على رعايته والدعاية له تيار التطرف الذى يرفع لواء الإسلام.. لذا كان لابد من توضيح موقف الإسلام منذ البداية.
ولن نكرر الكلام المعتاد المعروف عن سماحة الإسلام الذى يكرره نجوم التيار المدنى للتطرف بعد حوادث العنف ضد الأقباط، إذ من المعتاد أن يشحنوا النفوس بالبغضاء والتعصب، فإذا وقعت حوادث العنف وسالت دماء أسرعوا يتوضأون بدماء القتلى ثم يتحدثون عن سماحة الإسلام ويستنكرون ويشجبون. ومع أن حديثهم عن سماحة الإسلام صحيح لأنه مستمد من نصوص قرآنية، ولكن كان يلزمهم لإبراء الذمة أن يوضحوا عبث وتزوير الأحاديث المنسوبة كذباً للنبى (عليه الصلاة والسلام) والتى يقوم عليها أسس التطرف والإرهاب ويعلنوا تبرئة الرسول والإسلام منها ومن إساءة الاستخدام للتفسير القرآنى الذى وضعه علماء الدين فى العصور الوسطى، عصور التعصب والظلام.
والمهم أننا وفى توضيحنا لموقف الإسلام سنعتمد منهجاً جديداً.. يجيب على أسئلة محددة وبحقائق قرآنية مؤكدة وحقائق تاريخية متواترة..
من الحقائق التاريخية المتواترة أن الشعب المصرى- والأقباط بالذات- شعب مسالم يكره العنف ويستريح للصبر على ظلم الحاكم وقلما يثور عليه وهذا الشعب المسالم المأمون الجانب ما هو التوصيف القرآنى له؟. والإجابة من نص القرآن الكريم تؤكد أنه شعب مسلم مؤمن، لأن الإسلام فى معناه الظاهرى فى التعامل مع البشر هو السلام والسلم، ولأن الإيمان فى معناه الظاهرى هو الأمن والأمان.
ونأتى إلى حقائق القرآن الكريم:
إن كلمة الإيمان فى معناها اللغوى والقرآن لها استعمالان: (آمن ب..)، (آمن ل..)
1- "آمن ب" أى اعتقد، مثل قوله تعالى ﴿آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ﴾ (البقرة 285).
و"آمن ب" بمعنى اعتقد تعنى الإيمان القلبى الباطنى، أو التعامل مع الله تعالى. والبشر فى ذلك يختلفون حتى فى خلال الدين الواحد والمذهب الواحد. والقرآن الكريم يؤكد على تأجيل الحكم على الناس فى اختلافاتهم العقيدية إلى يوم القيامة. "البقرة 113، آل عمران 55، يونس 93، النحل 124، المائدة 48، الزمر 3، 46".
2- الاستعمال الآخر هو "آمن ل" أى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب مأموناً من الناس وتكرر هذا المعنى فى القرآن الكريم خصوصاً فى القصص القرآنى، ففى قصة نوح قال له المستكبرون ﴿قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ (الشعراء 111) أى كيف نثق فيك ونطمئن إليك وقد اتبعك الرعاع.. وتكرر ذلك المعنى عن "آمن ل" فى قصة إبراهيم (العنكبوت 26) وقصة يوسف (يوسف 17) وقصة موسى (الدخان 21، المؤمنون 47) وفى حديث القرآن عن أحوال النبى الخاتم فى المدينة (آل عمران 73، البقرة 75) ومواضع أخرى كثيرة.
والإيمان بمعنى الأمن والأمان هو بالطبع حسب التعامل الظاهرى، فكل من تأمنه ويكون مأمون الجانب هو إنسان مؤمن، أما عقيدته فهذا شأن خاص بعلاقته بالله، والله تعالى يحكم عليه وعليك يوم القيامة.
وقد جاء الاستعمالان معاً لكلمة الإيمان فى قوله تعالى عن النبى محمد "صلى الله عليه وسلم" ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة 61) أى أنه (يؤمن بالله) أى يعتقد فيه وحده إلهاً و(يؤمن للمؤمنين) أى يثق فيهم ويطمئن لهم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية على الشعب المصرى فهو شعب مؤمن لأنه شعب ينحاز دائماً للأمن والأمان، بل إنه قد يصبر على ظلم الحاكم إيثاراً منه للدعة والسكون. أما العقائد فمرجعها لله تعالى يوم القيامة وليس لنا، والتطبيق لنا حسب الظاهر فى التعامل، والظاهر هو إيثار الأمن والأمان، والله تعالى لم يعط أحداً الحق فى أن يتحدث بإسمه أو أن يقيم يوماً للحساب قبل يوم الحساب، ومن يفعل ذلك فقد تقمص دور الله وأصبح مدعياً للألوهية ومنبوذاً من الانتماء لتعاليم القرآن الكريم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية عن معنى الإيمان الظاهرى- على الأقباط بالذات- نراهم من خلال تاريخهم الطويل أكثر الناس تعرضاً للاضطهاد والصبر عليه، منذ اضطهاد الرومان فى حكم دقلديانوس وكراكلا، إلى الاضطهاد فى فترات مختلفة فى العصور الأموية والعباسية والمملوكية، ولا نقول العصور الإسلامية لأن الإسلام يرفض الظلم. كان الأقباط- ولا يزالون- يتحملون الاضطهاد ما استطاعوا، وورثوا حتى الآن صبراً على المكاره يدفعهم إلى المزيد من السلبية والسكون والمغالاة فى الحذر وتوقع الخطر وطلب الأمن والأمان بأى وسيلة. وذلك يجعلهم أكثر من غيرهم من المسلمين المصريين استحقاقاً لمعنى الإيمان الظاهرى، أى الأمن والأمان، وبالتالى فإن المعتدى عليهم يكون بنفس القدر أبعد الناس عن الإيمان بمعناه الظاهرى ومعناه الاعتقادى أيضاً حيث يخالف تعاليم القرآن الكريم التى سنتعرض لها فى حينها..
هذا فيما يخص معنى الإيمان..
فما هو نصيب الأقباط من معنى الإسلام؟
الإسلام كالإيمان له معنى ظاهرى، ومعنى باطنى قلبى اعتقادى، معناه الباطنى الاعتقادى الخاص بعلاقة الإنسان بربه هو الانقياد لله وحده. أى أن يسلم الإنسان نفسه طاعة لله وحده، والإسلام بهذا المعنى نزل فى جميع رسالات السماء على جميع الأنبياء وبكل اللغات، إلى أن نزل باللغة العربية وصار ينطق بكلام "الإسلام" التى تعنى فى الاعتقاد إسلام الوجه والقلب والجوارح لله تعالى، أو كقوله تعالى لخاتم الأنبياء ﴿قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام 161: 163) أى أن الله تعالى يأمر النبى بأن يقول أن الله هداه إلى دين إبراهيم الصراط المستقيم وهو أن تكون لله وحده صلاته ونسكه وحياته ومماته، وبذلك يكون أول المسلمين عند الله..
وهذا هو معنى الإسلام الاعتقادى القلبى الذى سيحكم الله تعالى عليه يوم القيامة، والله تعالى لن يقبل يوم القيامة ديناً آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وطاعته وحده، وذلك معنى قوله تعالى ﴿إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران 19،85)، فالإسلام هو الخضوع لله تعالى بكل اللغات وفى كل زمان ومكان وفى كل الرسالات، إلا أنه عندنا مع الأسف قد تحول إلى مجرد وصف وإسم فى خانة البطاقة والهوية مهما كان صاحبه ظالماً أو فاسقاً.
والله تعالى لا يأبه لما يطلقه البشر على أنفسهم من ألقاب وتقسيمات مثل الذين آمنوا والذين هادوا- اليهود- والنصارى والصابئين (أى الخارجين على دين أقوامهم) والقرآن الكريم يؤكد فى آيتين أن الذين يؤمنون إيماناً باطنياً وظاهرياً- (بالأمن والأمان مع البشر والاعتقاد فى الله وحده) ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون له، فهم من أولياء الله تعالى سواء كانوا من المؤمنين (أتباع القرآن الكريم) أو من اليهود أو من النصارى أو من الصابئين، يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62). ويقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة 69). أى أن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً فهو عند الله تعالى قد ارتضى الإسلام ديناً، أى استسلم لله طاعة وخضع له تعالى انقياداً. سواء كان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابئين، وذلك بغض النظر عن الطوائف والمسميات. وذلك ما سنعرفه يوم الفصل أو يوم القيامة أو يوم الدين، وليس لأحد من البشر أن يحكم على إنسان بشأنه وإلا كان مدعياً للألوهية.
وهذا هو معنى الإسلام الباطنى القلبى الاعتقادى عند الله تعالى. استسلام لله تعالى وحده بلغة القلوب، وهى لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعاً مهما اختلف الزمان والمكان واللسان..
أما الإسلام فى التعامل الظاهرى فهو السلام والسلم فى التعامل بين البشر.
يقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً﴾ (البقرة 208) أى أمر لهم بإيثار السلم. وتحية الإسلام هى السلام.. واسم الله تعالى هو السلام.. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمى. ويؤكد المعنى السابق للإيمان بمعنى الإيمان والأمان..
والإنسان الذى يحقق الإيمان فى تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدى على أحد.. ويحقق الإيمان الباطنى فى قلبه فلا يؤمن إلا بالله تعالى إلهاً يكون عند الله مستحقاً للأمن فى الآخرة.
والإنسان الذى يحقق الإسلام فى تعامله مع الناس فيكون مسالماً لا يعتدى على أحد، ويحقق الإسلام القلبى فلا يسلم قلبه وجوارحه إلا لله تعالى يكون عند الله تعالى مستحقاً للسلام فى الآخرة.
يقول تعالى ﴿الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام 82). أى أن الذين آمنوا بالله فى عقيدتهم وأمنهم الناس فلم يظلموا أحداً لهم الأمن فى الآخرة، لأن الجزاء من نفس العمل.
ويقول الله تعالى عنهم وهم آمنون فى الجنة ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ (سبأ 37).
ويقول تعالى عن الذين سلم الناس من أذاهم لأنهم كانوا مسالمين، وكانوا فى عقيدتهم مسلمين لله تعالى وحده: ﴿لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ﴾ (الأنعام 127). أى لهم السلام فى الآخرة.. لأنهم أعطوا السلام للبشر.. لذا تقول لهم الملائكة وهم على أبواب الجنة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ (الحجر 46) أى سلام وأمن. أى إسلام وإيمان فى الدنيا كان جزاؤه السلام والأمن فى الآخرة، فأصحاب الجنة هم الذين كانوا مسلمين مسالمين مؤمنين آمنين مأمونين.
ولكن ما هى صلة ذلك بوطننا مصر؟
إن مصر هى البلد الوحيد- بعد البيت الحرام- الذى ذكره القرآن مقروناً بالأمن، فالنبى يوسف عليه السلام حين استقبل أباه يعقوب عليه السلام وأخوته قال لهم ﴿ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ﴾ (يوسف 99) ومصر ليست مجرد أرض وجغرافيا طبيعية.إنها قبل ذلك وبعد ذلك بشر يعيشون عليها فى أمن وأمان، أو هكذا تلون تاريخنا المصرى طيلة سبعين قرناً من الزمان استضاف فيها الغرباء والوافدين فتمتعوا بكرم الضيافة والأمن، وكان منهم يوسف الذى مكن الله له فى الأرض بمجرد دخوله مصر (يوسف 21) والمصريون أحق شعب فى شعوب العالم بأن يوصف بأنه شعب مسلم مؤمن حسب طبيعته التى تؤثر السلام.
والأقباط المصريون بالذات أكثر المصريين إيثاراً للسلام والمسالمة والأمن والأمان وهم بذلك أحق البشر جميعاً بوصف الإسلام بمعنى السلام والمسالمة وبوصف الإيمان بمعنى الأمن والأمان. أما عقائدنا- جميعاً- فى الله تعالى فالله تعالى هو وحده صاحب الحكم فيها ولم يعط ذلك الحق لأحد.. وقد جعل للفصل فى ذلك يوماً هو يوم الدين، وبذلك لم يعد لأحدنا الحق فى أن يتصدى بالتسفيه لعقائد الآخرين، بل أنه من أدب الحوار فى الإسلام أن نرتضى تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة، أما آيات القرآن الكريم التى تتحدث عن عقائد الآخرين فهى الحق الذى يقوله رب العزة فى شأن يخص ذاته ويرد به على ما يقوله البشر عنه، ومع تكرار تلك الآيات القرآنية فإن القرآن الكريم يؤكد للنبى نفسه- بعد توضيح الحق القرآنى فى حقيقة المسيح عليه السلام- أنه إذا جاءه أحد بعد ذلك التوضيح يجادله فى الموضوع فما عليه الا أن يبتهل بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين، أى لم يأمره باتهامهم بالكفر أو المروق عن الحق، وإنما مجرد المباهلة لأن تكون لعنة الله على الكاذبين من الفريقين المتخاصمين.. (آل عمران 33: 57، 58: 61) .
وإذا لم يكن من حق النبى محمد (عليه السلام) نفسه أن يتهم من يجادله فى ذلك الموضوع بالكفر فليس من حق أحد بعده أن يتهم غيره من البشر والطوائف بالكفر بل عليه أن يحاور بالحكمة والموعظة الحسنة، فبذلك أمر القرآن الكريم (النحل 125، الإسراء 53، فصلت 34، سبأ 24) بل عليه أن يصفح عن المختلفين معه ويصبر وينتظر الحكم عليه وعليهم يوم القيامة، فذلك ما أمر به الله تعالى فى القرآن الكريم (الحجر 85، الزخرف 88، الجاثية 14).
وإذا كان هذا عاماً فى التعامل مع المشركين الكافرين الذين يمدون أيديهم بالأذى للمؤمنين فإن لأهل الكتاب من النصارى واليهود تعاملاً خاصاً فى الجدال والحوار، وقد أوضح الله تعالى ذلك بالنهى عن الجدال معهم إلا بالتى هى أحسن، لأن أغلبهم يميل إلى السلم والسلام، أما الظالمون منهم فلا جدال معهم بل يكتفى المسلم بأن يقول لهم بأنه يؤمن بما أنزل إليه فى القرآن ما أنزل إليهم فى التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى، وأنه يؤمن بالإله الواحد الذى هو إله الجميع من المسلمين وأهل الكتاب، وهو يسلم وجهه لذلك الإله جل وعلا.. وذلك معنى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46). أى يقول ذلك ولا يتعداه اذا جاءه ظالمون من اليهود والنصارى ليجادلوه ويخاصموه.
ولكن نجوم التطرف فى عصرنا يحلو لهم تكفير النصارى ويفتحون الطريق لتكفير المجتمع كله وتكفير بعضهم البعض، ويترتب على التفكير استحلال الدماء والأموال.
وعلى سبيل المثال فإن آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، ويصرخ خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط مستشهدين بقوله تعالى ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة 51). وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ ويتناسون تشريعات الموالاة ومعناها، كما يتناسون تشريعات القتال وأنه للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الأبرياء. ان هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالأقباط مطلقا وليست لها علاقة بأى يهود ونصارى مسالمين أو بيننا وبينهم عهد وميثاق. تنطبق الآية فقط حين يقع اعتداء اجنبى حينئذ تحرم موالاة ذلك العدو الغازى ضد ابناء الوطن والأهل والعشيرة.
وحتى نفهم الخلفية التاريخية فى تشريعات الموالاة والقتال علينا أن نسترجع تاريخ المسلمين فى مكة وتعرضهم للاضطهاد والأذى فيها لمجرد أنهم اتبعوا ديناً جديداً مخالفاً لدين الأغلبية. ثم وصل بهم الاضطهاد إلى إرغامهم على ترك الوطن والأهل، وكان من أولئك الأهل من تطرف فى إيذائهم ومنهم من اعتدل، ومنهم من سكت عن الظلم. ولكنهم جميعاً لم يتركوا المسلمين فى حالهم بعد أن استولوا على ديارهم وأموالهم فى الإيلاف أو رحلة قريش التجارية فى الشتاء والصيف. فواصل المشركون اعتداءاتهم وقتالهم للمسلمين وتحمل المسلمون ذلك حيث لم ينزل لهم الإذن بالقتال. فنزل الإذن بالقتال للرد على قتال قائم يعتدى به المشركون على المسلمين فعلاً. وهذا معنى قوله تعالى ﴿أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أى أن المؤمنين كانوا يواجهون قتالاً واعتداءاً ظالماً فجاءهم الإذن برد ذلك الاعتداء الظالم بمثله، ثم تقول الآية التالية توضح خلفية أخرى لذلك الاضطهاد الذى واجهه المؤمنون فى مكة قبل أن يقاتلهم المشركون فى المدينة ﴿الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ﴾ (الحج 39،40) ثم توالت بعدها تشريعات القتال تربط الأوامر بالقواعد بالمقاصد، ونزلت تشريعات الموالاة فى إطار ذلك الصراح الحربى، ومنها نفهم أن الموالاة أن تكون (مع) فريق (ضد) فريق آخر فى إطار الحرب مع/ضد، أى تعنى التحالف مع طرف ضد آخر. وبالتالى فإنه من المحرم والممنوع أن يتحالف بعض المؤمنين أى أن يوالوا المشركين المعتدين على قومهم المسلمين، وبهذا نزلت تفصيلات سورة الممتحنة.
وفيها الآية الثامنة- وهى آية محكمة فى تشريع الموالاة- تؤكد أن الله تعالى لا ينهى عن البر والقسط مع المخالفين فى الدين – ولم يصفهم الله تعالى بالمشركين لأنهم حسب التعامل الظاهرى مسلمون مسالمون لم يقاتلوا المسلمين بسبب دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم- فقال تعالى عنهم ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والآية التاسعة تحصر النهى عن الموالاة فى أولئك الذين قاتلوا المسلمين بسبب دينهم وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا على إخراجهم من ديارهم، والنهى هنا عن موالاتهم والتحالف معهم ضد المؤمنين طبعاً ﴿إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾.
أولئك المتاجرون بالإسلام هم أحوج الناس لفهم تشريعات القرآن وحرصها على حقن الدماء، خصوصاً دماء المؤمنين الآمنين المسلمين المسالمين – ومنهم الأقباط المصريون حسب التوصيف القرآنى - وهم الذين لا يعتدون على أحد ولا يمكن أن يكون أحدهم قاتلاً إلا فى حالة واحدة هى القتل الخطأ.. وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً﴾ (النساء 92)، أى ما كان يصح ولا يمكن أن يتصور أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا على سبيل الخطأ وعدم التعمد.
المؤمن الآمن المسلم المسالم قد يقتل مجرماً إذا حاول الاعتداء عليه لأن له حق الدفاع عن نفسه، وإذا قتل المعتدى فهو لم يرتكب جريمة قتل مؤمن مسالم وإنما قتل مجرماً معتدياً، فالمجرم المعتدى على الأبرياء المسالمين لا يمكن أن يكون مسلما مهما زعم.
ولكن المؤمن المسالم قد يقع فى الخطأ فيقتل إنساناً بريئاً مسلماً مأمون الجانب مؤمناً دون قصد، وحينئذ فعليه أن يدفع الدية كما فصلته الآية (92) من سورة النساء.
ولكن ذلك المؤمن الآمن المأمون الجانب المسلم المسالم إذا قتله مجرمً عمداً فما جزاء ذلك القاتل عند الله تعالى؟
تقول الآية التالية ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء 93) وهى الآية الوحيدة فى القرآن التى حلفت بكل أنواع العذاب والغضب واللعنات.. وذلك يدلنا على فداحة قتل الإنسان المسالم البرىء..
وتقول الآية التالية تحدد لنا معنى المؤمن الذى يحرص القرآن الكريم على سلامته وحقن دمه ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ (النساء 94) فالآية تتحدث عن الاشتباك الحربى بين المسلمين وأعدائهم المعتدين، اذ لا يجوز للمسلمين أن يحاربوا الا فى حالة واحدة هى الفاع عن النفس ضد المعتدين فقط. لذا تحذرهم الآية من قتل المسالمين حتى اثناء تلك الحرب الدفاعية، وتؤكد على ضرورة أن يتبينوا عدوهم عند الاشتباك، فكل من ألقى إليهم السلام أو ألقى عليهم تحية الإسلام فهو مؤمن.. أى أن تحديد الإيمان أو المؤمن ليس بما فى القلب ولكن فيما يخص تعاملنا الظاهرى، فالإيمان هو مجرد إلقاء تحية الإسلام وعدم الاعتداء، ومن ألقى السلام فقد أصبح مؤمناً مسلماً بغض النظر عن دينه وملته وعقيدته ، وحتى لو كان موجودا فى صف الأعداء عند الاشتباك الحربى ولكن رفع صوته بالسلام يكون بذلك مؤمنا لا بد من حمايته، ومن يقع فى جريمة قتله يكون مستحقاً للعذاب الخالد واللعنة والغضب ونار جهنم.
لقد نزلت الآيات الكريمة- أول ما نزلت- على مجتمع عربى وبدوى أسرع ما يكونون إلى الحرب، وقد وصف القرآن البدو الأعراب الذين كانوا يحاصرون دولة النبى محمد عليه السلام بأنهم أشد الناس كفراً ونفاقاً، ومع ذلك فإن الله تعالى أوصى بحقن دمائهم بمجرد أن يلقى أحدهم السلام أو يبدى رغبة فى السلام واعتبره مؤمناً حسب الظاهر أو بمعنى الأمن والأمان. بل أنه فى حالة الاشتباك الحربى فإن العدو المقاتل إذا كف يده وأعلن رغبته فى السلم من الواجب حقن دمه وتوصيله إلى بيته آمناً سالماً بعد أن يسمع القرآن الكريم حتى يعلم الحق ويكون ذلك حجة عليه يوم القيامة ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة 6).
هذه تشريعات فى حقن دماء المحاربين ساعة الاشتباك.. وصيانة حياة المدنيين فى الحرب حتى لو كانوا مشتبهاً فى اشتراكهم فى الاعتداء كالأعراب الذين هم أشد الناس كفراً ونفاقاً والذين كانوا يتربصون بالمسلمين وينافقونهم ويكيدون لهم .
فما هو حكم الأقباط المسلمين الذين لم يعرفوا منذ عشرين قرناً إلا الصبر على الأذى والاضطهاد؟ ثم هل يجوز أن يتعرضوا لاضطهاد أولئك الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن ويتمسكون بالإسلام؟ ثم ما هو حكم الإسلام فى أولئك الذين يتمسحون باسمه ويرتكبون تحت شعاره أفظع الجرائم؟! نرجو من كل من يهمه الأمر بأن يقرأ بقلب مفتوح وبتمعن الآيات الثلاث (92، 93، 94) من سورة النساء، ويتدبر حرص القرآن الكريم على حرمة النفس المسالمة حتى لو كانت من الأعراب المشهور عنهم السلب والنهب والكفر والنفاق والغدر والاعتداء على المسافرين والمسالمين.. ولكن القرآن يعطى الواحد منهم حصانة ضد القتل أثناء الاشتباك الحربى بمجرد أن يلقى بلسانه كلمة السلام. فما بالنا بالذين عاشوا فى أرضهم عشرات القرون فى سلم وسلام وإكرام للضيف ورعاية للغريب؟ الذين عاشوا مؤمنين آمنين مسلمين مسالمين يجد الغريب عندهم الأمن والسلام. أليس من يعتدى عليهم يكون مستحقاً لما جاء فى قوله تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾.
ونخلص مما سبق إلى أن أقباط مصر بالمفهوم القرآنى للإسلام والإيمان (الظاهرى) مؤمنون مسلمون، أى مأمونون مسالمون، والذى يقتل واحداً منهم يستحق اللعنة والغضب الإلهى والخلود فى جهنم مع عذاب عظيم، وتزداد جريمته حين يعتقد أنه بذلك يقوم بجهاد فى سبيل الله.. ويشاركه فى جريمته أولئك الذين يغررون به أو يتقاعسون عن تطهير الدعوة الإسلامية من الأحاديث المفتراه والفتاوى السامة التى تجعل دين الإسلام والسلام متهماً بالإرهاب والتطرف..