( العظم والعظام ) بين القرآن وبؤس الانسان فى هذا الزمان .!
هذا السؤال من مثقف خفيف الظّل ، كتب لى يقول :
( بسبب الغلاء الفاحش أصبحت أنا وأولادى محرومين من تذوق اللحم ، بل من المرور أمام محل الجزار ، مع أن كنا من الزبائن . لفت نظرى حين مريت بالصدفة بصديق لى مثقف أيضا يخرج من عند الجزار يحمل لفافة ضخمة . بينى وبينك شككت فى ذمته المالية ، تقابلنا وتصافحنا ، ولمح التساؤل فى عينى ونظرات الشّك ، فضحك وقال انه عرف طريقة لتذوق اللحم إنه يشترى كيسة عظم من الجزار . قبل أن أبتلع دهشتى أخبرنى إن الإقبال شديد على شراء العظام ، وارتفعت أسعارها وقلّ ما بها من عضلات وفضلات لأن الجزار اللئيم أصبح ( يحلق ) للعظمة حتى تصير عظمة ملساء تشبه صلعة الممثل الأمريكى يول براينر أو الممثل تيلى سالافاس . الجزار يبيع ما يحلقه من العظام بسعر مميّز . قلت له وماذا تفعل بالعظام الملساء ؟ قال : للشُربة ، وعلى رأى المثل : من ريحة الحبايب بعد طول الفراق . نهايته .. ذهبت للجزار بعد سنوات من الفراق وسألته إن كان يتعطف ويبيع لى كيلو ( عضم )، إبتسم ، وقال عندنا عضم صافى متشفية بسبعة جنيه ، أما العضم أبو تقاطيع شغت ودهون وخلافه فبأضعاف هذا حسب التساهيل . وإشتريت منه ( تقاطيع ) وهو ما يكشطه من فوق العظام ، أو ما يحلقه من العظام ، وكانت وليمة حافلة ، ختمناها بلعن السيسى وعصابته . وبعد ما مخمخت ومليت راسى فكرت فى موضوع العظم ، وقلت لنفسى هل العظم والعظام من ألفاظ القرآن ؟ وتذكرت بعض الآيات . وقلت أسأل حضرتك يا دكتور . فإجابتك ستكون من الفوائد التى جنيناها من أكل العظام . أقصد ما كان حول العظام . وشكرا لكم مقدما .
أقول :
أولا :
1 ـ إسمح لى أن أعبّر لك عن إعجابة باسلوبك المميز الساخر ، ونحن نشترك فى هذا ، وسأجاريك فيه ، ونشترك أيضا فى موضوع ( العظم ) ، وإن كنت أنا قد وصلت الى المرحلة ( العظمية ) أو ( العظامية ) قبلك بثلاثين عاما . وأُعطى لك أولا تقريرا سريعا عن علاقتى باللحم .
2 ـ فى أوائل الستينيات كنت أتمتع بوجود أبى رحمه الله جل وعلا ، وكنت مغتربا فى مدينة أتعلم فى معهدها الأزهرى ، وكان سعر كيلو اللحم 28 قرشا . وحيث إننى مغرم باللحم كنت وأنا أقل من 14 عاما إشترى ربع كيلو وأقيم عليه إحتفالا . مات أبى بعد أن بلغت 14 عاما ، وعرفت اليُتم والبؤس ، وكنت آكل ما أشتهى من اللحوم كل يوم فى أحلام اليقظة فقط .! عام 1971 كنت فى السنة الثانية فى جامعة الأزهر طالبا متفوقا أقبض مكافأة سخية وقتها وكنت أعمل مدرسا فى مدرسة خاصة أيضا ، وأتمتع بأكل اللحم أسبوعيا ، وحين وصل وقتها سعر الكيلو 70 قرشا أقمنا مناحة بسبب الغلاء ( كان مرتبى من العمل 12 جنيها شهريا ). تخرجت فى كلية اللغة العربية قسم التاريخ والحضارة الاسلامية وتم تعيينى معيدا ، وبعد عدة سنوات تزوجت وأنجبت ، وأصبح سعر كيلو اللحم ثلاثة جنيهات ، وهناك لحم مستورد فى الجمعية ثمن الكيلو 68 قرشا . وكنا نتنقل برشاقة ولياقة بين هذا وذاك . فى أوائل التسعينيات كنت قد تركت الجامعة وأتعرض للإضطهاد والمحاربة فى الرزق ، وتقريبا على حافة الجوع ، ومعاشى لا يكفى إفطارا لمدة شهر . إنقطعت علاقتى تماما بالجزار الذى كان صديقا نوعا ما ، فهو قريب من سكنى . وكان الشوق الى اللحم يلازمنى ، ولم تعد أحلام اليقظة تغنى ، وكنت أتذكر أبيات الشعر ــ التى سبق أن قالها شيخ أزهرى محروم مثلى ــ قال :
إنى ليقتلنى الحنين الى المرق
وأكاد من حُبّ الكوارع أحترق
والفجل والكُرّات سدّا شهيتى
والبامية القرديحى تسبّب لى الأرق .
كان العلاج المؤقت بشراء أرجل الفراخ وهياكلها لعمل شُربة . أجهدنى الشوق فذهبت أخيرا لجارنا الجزار ، والخجل تصل نسبته الى 80 % من وزنى وقتها ، وكنت فى ( غاية الاستحياء ) أو قل ( فى غابة من الاستحياء ) وبعد تحيات ثم مباحثات ومداولات عقدت معه إتفاقا أن يبيع لى العظام ببعض التقاطيع بثلاثة جنيهات للكيلو . وهنا دخلت فى المرحلة العظمية أو العظامية قبلك أيها المثقف الصامد البطل .
3 ـ إنتهت فترة الفقر المُدقع ولكن لم تنته علاقتى بالعظم والعظام . أدمنتها ـ ولا زلت . لا أحب اللحم الأحمر الغليظ ، وأُفضّل عليه اللحم المخلوط بعظم ودهون ، فهو مختلف الألوان ومختلف الطعم . فى شيخوختى أعانى من طائفة من الأمراض منها النقرس ، واللحم الغليظ الأحمر يهيّج علىّ ذلك النقرس ، وأعانى من هشاشة العظام ، وقد ( وهن العظم ) منى ، وقد توثقت الصداقة المتينة بينى وبين آلام المفاصل. وبذلك فالعظام وشُربتها خير علاج ، وخصوصا ( الكوارع ) .بورك فيها !.
4 ـ بسّ خلاص .. فاصل ..ونواصل :
ثانيا :
عظم وعظام فى القرآن الكريم :
فى التشريعات الاسلامية
منشور لنا بحث هنا عن الحلال والحرام فى تشريع الطعام . ننصح بالرجوع اليه . وعلى سبيل الاختصار نتدبر قوله جل وعلا : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) الانعام ). نلاحظ :
1 ـ الآية 145 تتحدث باسلوب القصر وبالتفصيل وبتحديد صارم عن المحرمات فى اللحوم ، وهى الميتة والدم المسفوح من حيوان حىّ ، و (لحم ) الخنزير ، وما يتم تقديمه للقبور المقدسة كما يفعل المحمديون فى الموالد . ليس الكلام هنا عن تحريم كل شىء فى الخنزير . بل عن اللحم فقط . اى ليس عظم الخنزير أو دهن الخنزير محرما فى الأكل . والفارق أن اللحم لا يذوب بالطهى ، أما الدهون فتذوب .
2 ، الآية التالية 146 : تؤكد موضوع التفصيلات . فالذين هادوا إعتدوا تشريعيا فعوقبوا بتحريم ما كان حلالا من قبل . وجاءت المحرمات بالتفصيل بما يؤكّد أنه لو كان الخنزير كله حراما لاتسعت له التفصيلات المحدّدة كما فى الآية 146 السابقة .
عظم وعظام فى خلق الانسان :
1 ـ قال جل وعلا عن مراحل خلق الجنين : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون ). تتحول المُضغة الى عظام ، ثم يكسوها اللحم . فالعظام هى الهيكل والأساس للجسد البشرى .
2 ـ قال جل وعلا عن مراحل حياة الانسان : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54 )الروم ). فى ضعف الطفولة تكون العظام ليّنة . فى ضعف الشيخوخة تتيبّس العظام وتفقد مرونتها ، ويلحقها الوهن أو ما يُسمّى بهشاشة العظام . ويخشى المُسنُّون من أمثالنا من كسر العظام فى أى وقوع أو تعثُّر على الأرض . نتدبر دعاء زكريا عليه السلام وما قاله عن ( عظامه ) : ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4 ) مريم ).
3 ـ فى الموت والبعث :
قال جل وعلا :
3 / 1 ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) البقرة ). هنا رجل أماته الله جل وعلا مائة عام ثم بعثه وأيقظه ، وأراه الله جل وعلا قدرته على البعث ، فالحمار الذى تحوّل الى هيكل عظمى ( أنشزه ) الخالق جل وعلا ، أى رفع عظامه وأقامها ثم كساها لحما ، وأعاده حيا ( ناهقا ينهق )!.
3 / 2 : بالموت يبدأ تحول الجسد الميّت الى عظام و( رُفات ) لا تلبث أن يأكلها الدود فيصبح الرفات ترابا ، ويبقى الهيكل العظمى نخرة ورميما .
نفهم هذا من الآيات الكريمة التالية :
3 / 2 / 1 : ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) الاسراء )
3 / 2 / 2 : ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) الاسراء )
3 / 2 / 3 : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) المؤمنون )
3 / 2 / 4 : ( بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) المؤمنون )
3 / 2 / 5 : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) يس )
3 / 2 / 6 : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (17) الصافات )
3 / 2 / 7 : ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) الصافات )
3 / 2 / 8 :( يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) النازعات )
3 / 2 / 9 : ( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) الواقعة )
3 / 2 / 10 : ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) القيامة ).
4 ـ فى كل الآيات الكريمة أقوال لمنكرى البعث والرّدُّ عليهم .
5 ـ وليس المحمديون بعيدين عن إنكار البعث ، فالايمان باليوم الآخر ليس بالقول ، ولكن بالتقوى والعمل الصالح . ولو أنهم آمنوا وإتُقوا لكانوا خير أُمّة أُخرجت للناس . ولكنهم الآن شرّ أُمّة يشهدها الناس . وبرغم ثرواتهم البترولية وغير البترولية فهم فى بؤس وضنك ، يستوى فى ذلك المترفون بموائدهم الضخمة الفخمة وما يتبقى منها ممّا يرمونه فى الزبالة ، ومن يأتى ليأكل من هذه الزبالة . أليس كذلك ؟ هو كذلك .!
أخيرا
تمتع أيها المثقف الساحر الساخر برحيق العظم والعظام ، ولا تنس أن تدعو الله جل وعلا أن ينتقم من السيسى وقومه وأن يجعل نهايتهم عبرة لمن يخشى .!