سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٧ - أكتوبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم

كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )

الفصل الثالث : عن علم النحو

سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم

مقدمة :

1 ـ قلنا آنفا : إن عبقرية الخليل هى السبب فى هجر القرآن الكريم مرجعية فى علم النحو . اللاحقون إنبهروا به فساروا على نهجه . هذا هو الخطأ الأكبر الذى وقع فيه الخليل .

2 ـ ونضيف أن سيبويه تلميذ الخليل هو الذى أكّد على منهج أُستاذه الخليل ، فترسّخت القطيعة بين علم النحو والقرآن الكريم .

3 ـ الدليل على ذلك :

3 / 1 : إنه مع إنقسام علماء النحو الى مدرستى البصرة والكوفة وإختلافهما فى موضوع الشّاذ فى النحو إلا إن مدرسة الكوفة إتبعت منهج الخليل ( البصرى ) وتلميذه سيبويه .

3 / 2 : كتاب سيبويه فى علم النحو هو ( الكتاب ) . وإذا قيل عندهم ( الكتاب ) فالمعنى كتاب سيبويه ، لا يختلف فى ذلك نُحاة البصرة أو نُحاة الكوفة . بمعنى آخر غاية فى الخطورة أن كتاب سيبويه أصبح مقدسا أو قريبا من أن يكون مقدسا ، وفى كل الأحوال فقد تناسوا القرآن الكريم ذلك الكتاب الذى لا ريب فيه ، وإنشغلوا ب ( كتاب ) سيبويه .

3 / 3 : ظل الخليل بن أحمد مسيطرا على أجيال من النُحاة من مدرستى الكوفة والبصرة . وبلغ إنبهارهم به الى درجة الطعن بطريق غير مباشر فى القرآن الكريم ؛ إذ نسبوا له كتابا زعموا فيه إنه الذى إخترع تنقيط المصحف . وهذه كوميديا مؤلمة ، كيف مع إهمال الخليل للقرآن الكريم فى منهجه النحوى أن يقوم بتنقيط المصحف ؟ وهل يمكن فى أواخر العصر الأموى وبداية العصر العباسى أن يكون المصحف بلا تنقيط ؟ وكيف يمكن للناس وقتها قراءة القرآن الكريم أو أى كتابة عربية ؟ إن الحروف العربية منها ما لايحتوى على نقطة ومنها ما يحتوى نقطتين أو ثلاث . بدون نقط كيف تعرف الصاد من الضاد ؟ والفاء من القاف ؟ والطاء من الظاء ؟ والسين من الشين ؟ والباء والتاء والثاء ؟ لا بد ان تكون الكتابة القرآنية الأولى بالتنقيط . ثم وهذا هو الأهم : أين نسخة المصحف التى جمع عليها الخليفة عثمان الناس وأحرق ما عداها ، والتى لا تزال بيننا باسم ( الرسم العثمانى ) نسبة لعثمان ؟ وهى مكتوبة بطريقة فريدة تخالف الكتابة العربية حتى الآن ؟ وبها يتم إكتشاف الاعجاز العددى الرقمى للقرآن الكريم ؟

لقد كتبنا من قبل أن النبى محمدا عليه السلام هو الذى كتب القرآن بيده ، وساعده بعض أصحابه فى كتابة نسخ من القرآن الكريم ، وأن هذا العمل إسترعى إهتمام كفار قريش: ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)  الفرقان ) ، وجاء الردُّ عليهم بأن فى الكتابة القرآنية سرّا إلاهيا : ( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) الفرقان ) . وقد تجلّى هذا السّر فى عصرنا بالأرقام ، وهى وسيلة الاتصالات التى تتعدى الألسنة . والتفاصيل فى مقال : ( النبى محمد عليه السلام كان يقرأ ويكتب ، وهو الذى كتب القرآن بنفسه.  ) وهو منشور هنا .

النحويون فى العصر العباسى فى تقديسهم للخليل بن أحمد وإتّباعهم منهجه كانوا روّادا فى إتخاذ القرآن الكريم مهجورا .

نتوقف فى لمحة تاريخية مع ( سيبويه )

النشأة والأصل واللقب :

1 ـ كما يدل عليه إسمه فهو فارسى الأصل ، لا يتكلم العربية بطلاقة. قيل عنه ( كان فى لسانه  حبسه وقلمه أبلغ من لسانه )!!. وإسمه ( أبو بشر عمرو بن عثمان  بن قنبر ) .

2 ـ إكتسب لقب ( سيبويه )، من معناه الفارسي وهو رائحة التفاح ، فيقال إن الصبي عمرو بن عثمان اكتسب هذا اللقب "سيبويه" لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحة ، ويقال إن أم سيبويه كانت تلاعبه وهو طفل بذلك  اللقب فارتبط به ، وقالوا إنهم أطلقوا عليه هذا اللقب لأن كل من يلقاه كان يشم منه رائحة الطيب ، وقيل لأنه كان يعتاد شم التفاح ، وقيل لأنه كان لطيفا فأطلقوا عليه سيبويه لأن التفاح ألطف الفواكه ..وهذا الاختلاف فى مدلول اللقب يعكس إهتماما زائدا ، إشتدّ بعد موته ، فقد مات شابا في بداية الثلاثينات من عمره. ومع عمره القصير فلا يزال إماما لشيوخ كبار نهلوا من علمه ومن كتابه المشهور.

كتاب سيبويه

    كتابه الفريد في النحو هو الذي صير ذلك الشاب الفارسي إماما لكل النحويين بعده .. ولأهمية كتاب سيبويه في تاريخ علم النحو فإنهم يطلقون عليه اسم الكتاب فإذا قيل " الكتاب " فإن النحويين يفهمون أن المراد هو كتاب سيبويه ، يقول المؤرخ النحوي أبو سعيد السيرافي عنه : ( وعمل كتابه الذي لم يسبقه أحد إلي مثله ولا لحق به من بعده ، وكان كتابه أشهر عند النحويين علما، فكان يقال بالبصرة قرأ فلان الكتاب فيعلمون أنه كتاب سيبويه ، وكان المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له : هل ركبت البحر ؟ تعظيما له واستصحابا لما فيه".  وقد وضع المبرد عدة كتب في شرح كتاب سيبويه وفي التعليق عليه.)

    وروي الجاحظ أنه أراد الخروج للقاء الوزير محمد بن عبد الملك الزيات ففكر في شيء يهديه له فلم يجد كتابا أنسب من كتاب سيبويه ، فأهداه له وقال : أردت أن أهدي لك شيئا ففكرت فإذا كل شيء عندك فلم أر أهم من هذا الكتاب ، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء " عالم النحو" فقال له الوزير : والله ما اهديت إلي شيء أحب إلي منه.

  المناظرة بينه وبين الكسائي

  1 ـ كان الكسائي ــ زعيم مدرسة الكوفة النحوية ـ صاحب نفوذ في بغداد وكان تلميذه علي بن المبارك الأحمر مؤدبا ومعلما للأمين ابن هارون الرشيد .

2 ـ يروي أبو العباس ثعلب رواية نقلها عن شيخه الفراء ـ وهما من أعمدة المدرسة الكوفية فى النحو ـ أن سيبويه جاء بغداد وقابل يحيي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وقال له : ( إجمع بيني وبين الكسائي لأناظره وأنت تسمع )، فقال : ( الكسائي عندنا رجل عالم لا يمتنع عن مناظرة أحد ). وتحدد وقت المناظرة في الغد ، وجاء مشجعو سيبويه وأنصار الكسائي ، ومنهم الفراء وابن المبارك الأحمر ، وقد سبقا إلي دار يحيي البرمكي . وبدأ ابن المبارك الأحمر فسأل سيبويه مسألة فأجاب عليها ، فقال له : ( أخطأت  )، ثم سأله أخري فأجابه ، فقال له : ( أخطأت ) فغضب سيبويه، فتدخل الفراء وقال لسيبويه عن زميله ابن المبارك : ( إن فيه عجلة )، وسأله عن جمع كلمة "أب" جمع مذكر سالم كأن يقال " هؤلاء أبويه ، ورأيت أبين ومررت بأبين، وتمثل بقول الشاعر:

وكانوا بنو فزارة شر عم

                          وكنت لهم كشر بني الأخينا.

   أي يقاس أب علي أخ . وسأل الفراء سيبويه في جواز أن يقال ذلك في تصغير أب أي أويب فأجابه سيبويه بجواب ، فعارضه الفراء ، فانتقل سيبويه إلي جواب آخر ، فعارضه الفراء بحجة أخري فغضب سيبويه وقال  : ( لا أكلمكما حتي يجيء صاحبكما ) .  فجاء الكسائي فجلس بالقرب منه ،وأنصت يحيي البرمكي والناس لما سيقولانه، فقال له الكسائي: ( أتسألني أو أسالك ؟ ) فقال سيبويه : ( لا . بل سلني )، فقال الكسائي: ( كيف تقول خرجت فإذا عبد الله قائم ؟ )، فقال سيبويه : ( قائم بالرفع )، فقال له الكسائي : ( أتجيز قائما بالنصب ؟ ) فقال سيبويه : ( لا ) . فقال له الكسائي : ( كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا بالزنبور إياها بعينها ) ، فقال سيبويه : ( لا أجيز هذا بالنصب ولكن أقول : فإذا بالزنبور هو هي). فقال الكسائي : ( النصب والرفع جائزان ).  فقال سيبويه: ( الرفع صواب والنصب لحن).  فارتفعت أصواتهما، فقال يحيي البرمكي: ( أنتما عالمان ليس فوقكما أحد يُستفتي ولم يبلغ من هذا العلم مبلغكما أحد نحتكم إليه فيكما، فما الذي يفصل بينكما ؟ ) ، فقال الكسائي: ( العرب الفصحاء  المقيمون علي باب أمير المؤمنين الذين نرتضي فصاحتهم يحضرون فنسألهم عما اختفلنا فيه، فإن عرفوا النصب عرفت أن الحق معي، وإن لم يعرفوه علمت أن الحق معه ) ، فأرسل يحيي البرمكي فاستدعاهم فجاء خلق كثير منهم، فقال لهم يحيي: ( كيف تقولون : خرجت فإذا عبد الله قائم ؟ ) ، فتكلم بعضهم بالنصب وبعضهم بالرفع ، فلما رأي سيبويه كثرة من قال بالنصب أطرق وسكت . فقال الكسائي ليحيي بن خالد : ( أعز الله الوزير إن سيبويه لم يقصدك من بلدك إلا راجيا فضلك فلو أعطيته من معروفك ؟! )، فأعطي الوزير سيبويه بدرة مال ، ويقال إن الكسائي هو الذي أعطاه إياها.

     وتستمر رواية ثعلب عن الفراء فتقول : ( إن بعض الجهال زعم أن الكسائي اتفق مع الأعراب في الليلة حتي تكلموا بالذي أراده وهذا قول لا يعرج عليه ، لأن مثل هذا لا يخفي علي الخليفة والوزير وأهل بغداد أجمعين.)

التعليق :

1 ـ ومن حقنا أن نتشكك في تلك الرواية التي يرويها عن سيبويه خصومه ، خصوصا وأنها تتعلق بمناظرة تمت بين سيبويه وشيخهم الكسائي. ولو سلمنا بان الرواية حدثت علي هذا النحو فإننا نتوقع أن يقوم الكسائي بالدفاع عن مكانته في بغداد وفي البلاط العباسي ضد ذلك الشاب العبقري القادم إليه من البصرة . وإذا عرفنا ان التنافس كان علي أشده بين مدرستي البصرة والكوفة علي المسيطرة علي بغداد ـ وهي العاصمة ونهاية الأمل ـ أدركنا أهمية أن يحرص الكسائي علي مكانته . ومن هنا فإن تخيل عنصر التآمر يبدو مقبولا، فالكسائي يرسل الفراء وابن المبارك الأحمر مثل كتيبة استطلاع لمناوشة سيبويه وإجهاده ، ثم يأتي الكسائي ، ويقوم  هو بتوجيه الأسئلة ، ثم يقوم هو باقتراح استدعاء الأعراب من علي أبواب الخليفة . فمن جاء بهم لأبواب الخلافة وجعلهم يجتازون الحراس ؟ ، إذن هو أمر قد رتبوه قبلها بيوم ، وحتى تمر الأمور في سلامة وسلاسة يقترح الكسائي علي الوزير أن يعطي سيبويه جائزة مالية ليأخذها ويعود إلي موطنه راضيا.

2 ـ ومن الطبيعي أن يغضب أتباع المدرسة النحوية البصرية في بغداد لهزيمة سيبويه فيتحدثون عن اتفاق الكسائي مع الأعراب ، ويتصدى لهم الرواة من مدرسة الكوفة فيتهمونهم بالجهل . والواقع أن السلطة العباسية كانت تميل لمدرسة الكوفة لاعتزازهم بمدينة الكوفة نفسها التي كانت أول عاصمة لهم  قبل بناء بغداد ، بينما لم تشجع البصرة للدعوة العباسية .

3 ـ الذى يهمنا هو ذلك الخلاف المحتدم بين أئمة النحو وقتها . ثم يأتى فى عصرنا بعض أصحاب العاهات الثقافية ويتهمون القرآن الكريم بوجود أخطاء نحوية فيه ، معتقدين إن علم النحو خال من العيوب والثقوب ، وأن أئمة النحو كانوا على قلب رجل واحد .!.     

إختلاف بين شخصيتى الخليل وسيبويه

     ولقد امتاز الخليل بن أحمد عن تلامذته وعن غيرهم بأنه كان يرضي بالفقر متمسكا بالابتعاد عن أولي الجاه ، فعاش غنيا عن الناس راضيا بعقله العبقري، ورفض تلامذته هذا المنهج فسافروا بعلم أستاذهم إلي بغداد وعواصم الأمصار ليستفيدوا بالأموال . وبينما كان حظ الأصمعي وافرا عند الرشيد ، وكذلك كان النضر بن شميل مع المأمون إلا أن سيبويه كان سيء الحظ إذ رأي أعيان المدرسة النحوية الكوفية في بغداد في سيبويه منافسا خطيرا بسبب شبابه ووسامته وعلمه الغزير ، فعملوا علي أبعاده عن بغداد بكل ما استطاعوا ، وحين يأس سيبويه من بغداد سأل عن الحكام الذين يرغبون في النحو ، فقيل له إبن طاهر في خراسان ، فسافر إلي خراسان ، فأدركه الموت في بلدة ساوة ، فتمثل عند الموت بقوله :

   يؤمل دنيا لتبقي له

   فوافي المنية دون الأمل

   حثيثا يروي أصول الغسيل

   فعاش الغسيل ومات الرجل

 وكان أخوه حاضرا معه لحظة الاحتضار ، وقد وضع رأسه في حجر أخيه فأغمي عليه فدمعت عينا أخيه ، فلما أفاق سيبويه رأي دموعه فقال :

    وكنا جميعا فرق الدهر بيننا

    إلي الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا؟

   ومات سيبويه ولم يبلغ الخامسة والثلاثين .. ! 

اجمالي القراءات 725