من أرشيف مقالاتي
أوسلو في 15 يناير 2003
تصور المتفائلون بالتقدم العلمي أن الإنترنيت سيفتح الأبواب للشبكة العنكبوتية لشحن رؤوس المتصفحين بما لا عين عين ولا أذن سمعت، وأن الوعي سيزيح جانبا أكثر صنوف الجهالة توغلا والتصاقا بالعقل والنفس معا.
وكانت المفاجأة عندما تم تطويع هذا الانجاز الحضاري العملاق لخدمة التطرف والأميّة وتخدير العقل، وتم افساح المجال لخصوم التقدم والاجتهاد والعصرّنة والتمدّن والعقلانية لشن هجوم واسع وتدشين عشرات الآلاف من المواقع لخدمة الرِدّة العقلية.
تسللت في الشهور الماضية إلى عدد كبير من المواقع لنشر مقالاتي في محاولة لكسب قراء جدد غير الذي يعرفون طائر الشمال المطبوعة من أكثر من عشرين عاما فصدمني الواقع المرير وبدا لي أن الجهل يضرب بحذوره في أكثر مواطن العلم تقدما، وأن الانتصار على الأمية الثقافية في معركة الحضارة ليس أمرا هينا أو سهلا مضمون النجاح أو نصفه !
* رسائل عدة من ( السلفي المصري ) يتوعدني فيها بمصير أسود لأنني انتقدت الرئيس حسني مبارك، ثم يدفع بكم من السباب والشتائم لينتهي بدعاء إلى الله أن يدخلني جحيم الآخرة لأنني على حد قوله مسلم يقيم في بلاد الكفر!
* موقع ( ... ) الذي يستقطب فكر كبار قيادات الاخوان المسلمين يلغي فورا كل مقالاتي عن الاستبداد والطغيان والسجون والمعتقلات بعدما ثار قراء ومتصفحو الموقع باعتبار أن كتاباتي تصب في صالح أعداء الأمة وهي لا ترتفع لمستوى عبقرية أطروحات الموقع مثل ( هل يمكن أن يكون هناك دعم من الجن للاخوان المسلمين؟ وحكاية الفتاة التي ماتت فخرج مسك من أنفها لأنها لم تكن تشاهد التلفزيون أو تسمع الموسيقى، والمنقبة السعودية التي حضرت ندوة في الغرب فلما رأتها الحاضرات وهي ترتدي العباءة السوداء ولا يظهر منها الوجه أو العينان أو الكفان اعتنقت ست نساء منهن الاسلام في نصف ساعة !!، ودعوة لتجمع اسلامي ضخم ليتوجه إلى الله، عز وجل، ويطلب منه أن يكسر رقبة جورج بوش، وعشرات غيرها من الموضوعات المتشابهة)
وتم الغاء كلمة المرور فكتاباتي عن قوانين الطواريء والمظلومين في المعتقلات وتوريث الحكم وكرامة المواطن لا يكترث لها الاخوان المسلمون لأن حديثا عن اخراج عفريت من الجن من جسد مسلم واقناعه بدعوة الاخوان المسلمين يفوق في أهميته كل مقالاتي.
* موقع ( منتدى المحامين ) وافق على مقالاتي ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك، وقائع محاكمة العقيد معمر القذافي، سنوات الذل والقهر في المغرب، رسالة مفتوحة إلى الأمير عبد الله بن عبد العزيز ) ثم قام بحذفها فورا، وألغى كلمة المرور، وسمح بشتائم ضد كاتب هذه السطور لأن مقالاتي عن حقوق الانسان في المعتقلات والسجون لا تناسب أصحاب السعادة المحامين، وهم يريدون موضوعات لا تُذكرّهم بحقوق الآخرين والمعذَبين في السجون وانتهاكات كرامة المواطن.
عدد لا حصر له من المواقع والمنتديات التي تتفجر فيها طاقات شبابية ليخرج عفن فكري مخدرّ وينذر بقرب انتهاء أمة لتتحول إلى هنود حمر، فحملات الكراهية والتعصب والطائفية تسيطر على تلك المواقع، ومنها ما هو متخصص في اثبات أن الشيعة كفار، وآخرون يؤكدون أن أهل السُنة على ضلال، وبيانات عن العلويين والجعفريين والأكراد والبهائيين والتركمان والقاديين وغيرهم، وكل فئة تدعي نسبها الشريف وتحاول الاتيان بقرائن وأدلة أن الله تعالى منحاز إليها فقط، وأنه، سبحانه وتعالى، طرف في معاركهم وينتظر نتيجة انتصار الفئة التي يناصرها حتى يبعث إليها برسالة تهنئة.
تتسلل إلى المنتديات وتشارك في حوار أو تتابعه فيصيبك غم وهَمٌّ وكَمَدٌ ما بقي من يومك ، بل لعلك لاتصدق أن المشتركين قضوا عام أو بعض العام في مدرسة ابتدائية، ثم تعرج على منتديات اسلامية فلا تخرج منها إلا مصافحا روح كارل ماركس التي قال صاحبها بأن الدين أفيون الشعب، فأكثرهم يتحدثون عن قضايا فقهية مضى عليها ألف ونيف من الأعوام، ويستفتون في كل شيء، ويخلطون الجن بالجنس والعنف بالحور العين والجهاد بقطع الرؤوس.
فتاة في موقع ( ... ) التابع لجماعة الاخوان المسلمين تطالب المسلمين بالاستعداد لفتح العالم واجبار كل سكان الكرة الأرضية على اعتناق الاسلام أو دفع الجزية وهم صاغرون ( لعلها لم تقرأ أن أكثر من مليار مسلم لا يستطيعون فتح زجاجة مياه معدنية لأبي عمار في مقر اقامته برام الله )، وآخر يحيره ممارسة الجماع مع اثنتين وسبعين من الحور العين في الجنة ثم يهدأ عندما يعلم أن قدرته الجنسية ستكون فائقة بدون فياجرا!
ازدراء واحتقار لأصحاب الديانات الأخرى، وتحقير للمخالفين مذهبيا أو طائفيا، وتكفير لو تم تجميعه من الشبكة العنكبوتية لكان نصيب كل فرد في العالم ضربة سيف تتدحرج بعدها رأسه لسبعين ذراعا.
تدمير مواقع الآخرين بحجة أنها تروّج لفكر مخالف فتظهر فجأة عبقرية الهاكرز والتي تبيت في سُبات عميق لو تعلق الأمر بالحقوق والكرامة وهموم الوطن، وتنطلق كالجراد المجنون وتختار المواقع الدينية أو السياسية التي تخالف الزعامات العربية فأجهزة المخابرات العربية لها أيضا هاكرز يبحثون عن أي اساءة للزعيم مدى الحياة.
تسعة من كل عشرة مواقع ومنتديات تخشى قبول ونشر مقالات تفضح الذل والمهانة وامتهان كرامة المواطن في السجون العربية، والسبب يعود إلى أن الخوف دخل مسامات أجسادنا، وعبث بوجداننا ، وسيطر على عقولنا، وأوهمنا أن أجهزة مخابرات الزعيم العربي قادرة على فك الشفرة، واستبدال كلمة المرور في البريد الالكتروني، والتعرف على اسم المشترك، وايذاء أهله وأصدقائه واقاربه.
إنهم يذكرونني بمواطن مغربي كان يتردد على ( المكتبة العالمية ) في أوسلو في منتصف الثمانينيات، واستمع مصادفة إلى شريط كاسيت سياسي حاد ولما أردت أن أعيره إياه ارتعدت أوصاله، وتحجرت عيناه لبرهة ثم قال لي بأنه يخشى أن تعرف أجهزة أمن الملك الحسن الثاني أنه استمع للشريط بمفرده داخل سيارته، فالملك قادر، كما ظن صاحبنا، على أن يتنصت على مواطن مغترب في شمال الشمال ولو كان بمفرده في سيارة مغلقة تسير في مكان ناء لا يعرفه إنس ولا جان!
التحريض على القتل والتكفير والبغضاء خرج من رحم عشرات الالاف من الفتاوى الفجة والمتخلفة التي وجدت طريقها إلى الانترنيت، وأسرع المهووسون دينيا وجنسيا بجعلها تتحكم في حياة وممات المسلم، فهو مقيد ومكبل ومستعبد لبعض كبار العلماء الذين توفاهم الله منذ مئات السنين. ما عليك إلا أن تدلف إلى أحد المنتديات العربية والاسلامية وتطرح موضوعا خاصا بالمرأة أو الجنس أو الاختطاف أو كراهية الغرب فيتدافع المشتركون في الموقع ليزيدوك حزنا وأسفا على أمة تناهض العقل، وتهجو الاستنارة، وترسم صورة مشوهة وانسانية وأرضية لرب السماوات والأرض العزيز الجبار. العرب والمسلمون لم يعرفوا بعد قيمة هذا الانجاز الحضاري الرائع والعملاق.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج