الفاكس ومعالي الوزير

محمد عبد المجيد في الإثنين ١٧ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

من أرشيف مقالاتي

أوسلو في يونيو 2002

يتعامل المسؤولون في عالمنا العربي مع التكنولوجيا والتقدم العلمي تعاملهم مع الأمراض المعدية، فهم يخشونها، ويفضلون أن تمر أولا على جهاز رقابة وغربلة وتصفية قبل أن تقترب من مكاتبهم.
زعيم عربي كان في زيارة لمعرض علوم حديثة، ووقف مشدوها أمام جهاز كمبيوتر، وحاول أن يستعرض معلوماته فبحث عن كلمة ( طَبّاعة ) فلم يجدها في ذاكرته، لكنه كان يصر على افهام مهندس الكمبيوتر أن الزعماء أيضا لا &لا يخافون التكنولوجيا، فسأله قائلا: إذن من أين يخرج الورق عندما تصلك رسالة؟
ليس الزعماء فقط هم الذين تفصلهم عن الجماهير مسافات شاسعة، لكن المسؤولين الكبار والوزراء والمحافظين أيضا تركوا مهمة تحديد العلاقة مع الجماهير في يد السكرتير أو مدير المكتب. وفي معظم الأحيان يصبح مدير المكتب من حيث لا يشعر الوزير قوة لا يستهان بها، فهو يحدد نوعية البريد، ويستطيع أن يرفض طلبا عاجلا، ويختار الضيوف، ويعتذر لآخرين، ويحدد للضيف الوقت، ويوحي للوزير بأهمية اللقاء.
بعد فترة من الوقت في الوزارة يتراجع دور الرجل الأول فيها لصالح سكرتيره أو مدير مكتبه.
في إحدى المرات قال لي مدير مكتب الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم في مصر، وكنت أتصل به من النرويج، إن معالي الوزير يأتي في الحادية عشرة مساء في كل يوم!
وكثيرون من الوزراء منشغلون في الخارج، يصطحبون رئيس الوزراء، أو يودعون رئيس الدولة، ومنهم من هو رئيس بعثة شرف لعدة أيام.
بريد يثقل، ويتراكم، ويفقد القديم أهميته بسبب مروره على مدير المكتب أولا.
الفاكس هو الجهاز السحري الذي لم يستفد منه معظم المسؤولين العرب لتكوين علاقة مباشرة مع أصحاب الشأن والجماهير والاحتفاظ بخصوصيات لا تمر على مدير المكتب.
السبب بكل بساطة هو أن جهاز الفاكس في الدوائر الجكومية الرسمية في عالمنا العربي لا يمكن أن يكون موجودا في مكتب الوزير شخصيا، والسبب غير معروف على الاطلاق.
قد يخشى الوزير أن يبعث له شخص رسالة غير لائقة، أو نقدا جارحا، أو لعله يظن أن في الأمر صعوبة بالغة، لكنني أرى أن الحل يبدأ من هنا ..
من جهاز فاكس أو اثنين في مكتب الوزير والمحافظ والمسؤول الكبير، ولن يستغرق الأمر بضع ثوان لتمر عينا الوزير على الرسالة فيضمها إلى بريده الخاص، أو يهتم بها اهتماما شخصيا، أو يَطّلع على أسرار لا يحب أن يطلع عليها مدير مكتبه أو سكرتيره الخاص، أو يحيلها إلى وكيل الوزارة أو الوكيل المساعد أو أي شخص مختص بالأمر.
سيتم اختصار مئات من الساعات في كل كل عام كانت تضيع مع عرض مساعد الوزير أو السكرتير الخاص أو مدير المكتب للبريد وأهميته وفقا لرؤيته هو، وستتكون علاقة دافئة وصحية مع الوزير، وسيعرض عليه الآخرون خصوصيات واسرار وسلبيات العمل، وستصله شكاوى وانتقادات لم تكن تدور بذهنه قط.
إنها دعوة لنقل السلطة والقوة من مدير المكتب والمساعد والسكرتير إلى الوزير نفسه، وهو ليس مطالبا بأن يجلس أمام الكمبيوتر ويكتب رسالة، أو يقرأ البريد الالكتروني، أو يقرأ الرسالة كاملة
المهم أن العمل بهذه الفكرة سيسقط الحواجز التي أقامتها بيروقراطية متجمدة في عالمنا العربي، فإذا أعلن الوزير في الصحف بشجاعة أدبية وثقة بالنفس عن رقم الفاكس في مكتبه والذي لا يطلع عليه أحد آخر إلا أن يأذن له، فستتغير وجه العلاقة مع الوزير، وتنتقل القوة إليه، ويحدد هو أهمية الرسائل والخطابات واللقاءات والموضوعات والشكاوى.
نفس الأمر ينسحب على الشيوخ والأمراء الكبار في كل مكان،وكذلك الصف الأول من صناع القرار السياسي في العالم العربي.
إنها ليست دعوة فقط لردم الهوة، أو تقريب المسافات، لكنها فكرة لو تم تنفيذها على كل المستويات فسيكتشف أي وزير أنه فعلا لم يكن صاحب القرار الأول في وزارته، وأن علاقاته الاجتماعية والوظيفية تم تحديدها مسبقا في مكتب مساعده أو سكرتيره أو المدير العام أو حتى وكيل الوزارة المساعد.
كم من المشروعات توقفت، ومن الضيوف المهمين من تملكه اليأس من لقاء الوزير، ومن أموال أنفقت فيما لا طائل من ورائه، ومن تطورات كان ينبغي أن تحظى بالأهمية لولا عدم إدراك الرجل الثاني في الوزارة لما يدور في فكر الوزير.
المفترض أن مدير المكتب هو صناعة الوزير، لكن الذي يحدث في عالمنا العربي عكس ذلك تماما، فالوزير يضع رقبته في يد مدير مكتبه، يحدد له ضيوفه، ويهمل ما لايرى له أهمية، ويدخل بالبريد على الوزير في أوقات محددة، ولا يعرض عليه ما يغضبه، وقد لا يستريح لطالب موعد فيعتذر بحجة انشغال رئيسه.
جهاز فاكس أو أكثر بجوار الوزير في كل وزارة عربية من البحر إلى النهر قد تصبح طريقا سهلا وميسرا لتجديد العلاقة مع القضايا والموضوعات والجماهير، وتسحب البساط من تحت أقدام مدير المكتب.
لن يكون الأمر صعبا أو معقدا، فكما ذكرنا بأن الوزير هو الذي يحدد أهمية الرسالة، ويقرأها أو ينتظر، أو يؤجل النظر فيها.
قد لا تحتمل التأجيل ولو بعض الساعة فيأمر بما يراه الأصلح بدلا من عرضها على مدير المكتب ثم انتظار ايصالها للوزير نفسه.
لقد عرفت مدراء مكاتب يستشرفون أهمية الرسالة قبل عرضها على الوزير، ويعملون بجد واخلاص وشفافية ولكن هناك مئات غيرهم ينحدرون بعمل الوزير إلى الهاوية، ويكوّنون ثروات من وراء ذلك، ويشوهون صورة الوزير نفسه.
مدير مكتب وزير في دولة مشرقية اتصل بي منذ عدة سنوات، وطلب مني التوسط لدى وزارة الاعلام في دولة خليجية لعلها تستطيع أن تشتري له مطبعة بعدة ملايين أو تشترك معه في البزنس الذي أقامه!
مدير المكتب قوة لا يستهان بها، وهو في معظم الأحوال أكبر من الوزير، ويكاد يكون الرجل الأول حتى لو ظهر ذليلا منكسرا في تواضع عجيب أمام معالي الوزير !
نقل السلطة والقوة من مكتب السكرتير أو مدير إدارة المكتب إلى الوزير نفسه ستسحب البساط من تحت أقدام الكثيرين، وستعيد للوزير دوره الذي سُرق منه، وستجعل المياه تجري في الاتجاه الصحيح، وستعيد المعادلة إلى وضعها الصائب، ويصبح مدير المكتب أو السكرتير أو مدير الادارة في خدمة الوزير وليس العكس.
إنها دعوة آمل أن لا يقتلونها بالصمت، وأن يتبناها زملاء آخرون في صحف ومجلات عربية، وأن نتلقى شخصيا من وزراء عرب رسائل بالموافقة على الفكرة، وخروجها إلى حيز التنفيذ.
عندئذ سيكتشف الوزير أنه كان سجينا لدى مدير مكتبه، وأن فرصا عظيمة ضاعت منه، وأنه كان غائبا عن وزارته رغم حضوره اليومي، وأنه أصبح صاحب القرار الأول والأخير في تحديد الضيوف، واللقاءات، والموضوعات، والردود، وأنه أضحى الرجل الأول في الوزارة حقيقة وفعلا. ّ
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
http://taeralshmal.jeeran.com
http://www.taeralshmal.com
Taeralshmal@hotmail.com
http://Againstmoubarak.jeeran.com
http://blogs.albawaba.com/taeralshmal

اجمالي القراءات 15605