لمحة عن أثر دين التصوف إقتصاديا فى العصر المملوكى
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
لمحة عن أثر دين التصوف إقتصاديا فى العصر المملوكى
آثار الوقف اقتصاديا ..
1 ــ ازدهر الوقف في العصر المملوكي بازدهار التصوف وعكست هذا وثائق الوقف على المؤسسات الصوفية في مقدماتها [1] ، وكما يبدو واضحا في الفصل الخاص بأثر التصوف فى العمارة واهتمام المماليك بإنشائها ورعاية الصوفية فيها ، والوقف عليها بأرضى زراعية ومحلات تجارية وأملاكا عقارية ،كلها يتخصص ريعها فى الانفاق على تلك المؤسسات . ولم ينته حكم المماليك إلا وبلغ الأراضي الزراعية الموقوفة حوالى عشرة قراريط من 24 قيرطا ، أى حوالى نصف الأرض الزراعية وكانت غالبية مباني القاهرة والفسطاط وقفا ، وقد كان المقريزي يشكك في صحة ملكية الأوقاف في عهده بسبب كثرتها .[2].
2 ـ وكان السلطان المملوكى يتحايل فى تحصين ثروته وحمايتها من المصادرة بأن يجعلها وقفا ، ويجعل نفسه وورثته قائمين على هذا الوقف ، يخصص جزءا منه للمؤسسة الصوفية والباقى له ولذريته . وكان السلطان التالى يطمع في إنتزاع أوقاف من سبقه ، ولم يستطيعوا حلها بطريق شرعي، فتحكموا في ريعها ثم عاونهم القضاة في اغتصابها عن طريق الاستبدال ، فيأخذون الأراضى العامرة الموقوفة مقابل أراضى صحراوية وخرائب وأراضي البور، فى عقد استبدال صورى [3] . وانتقل الأمر من السلاطين والأمراء الى ذوى النفوذ الأقل شأنا ، فقد اشتهر جمال الدين الاستادار بذلك، وعاونه ابن العديم قاضي القضاة وقتها ، واستولى هذا الاستادار على أوقاف كثيرة بحيلة الاستبدال ،واوقفها على خانقاته ، ومما يؤكد إصرار ابن العديم على خراب الأوقاف في مصر قوله لمن احتج عليه كثرة الاستبدال : (إن عشت أنا والقاضي مجد الدين لا يبقى في بلدكم وقف ) [4] .. واشتهر جمال الدين الاستادار بخانقاته وكثرة سرقاته وتخصصه فى الاستبدال . واشتهر كثيرون غيره في استبدال الوقف [5] متأثرين بانحراف القضاة والفساد الذى شاع في العصر بتأثير التصوف...
3 ــ ولم يكن الاستبدال هو الطريق الوحيد . كانت هناك طرق أخرى : كان الواقف يُرغم على الاشهاد على نفسه ــ في محنته ــ بأن أملاكه واوقافه من مال السلطان. وفي عهد برقوق استؤجرت الأوقاف بأقل من أجر مثلها فلجأ بعض مباشري الأوقاف إلى هدم العقارات الموقوفة بدل تعميرها ، وأحيانا كان يتم تعيين القاضي في مقابل أن يقرض السلطان من مال الأيتام الموقوف .
4 ـ وبمرور الزمن تلاشت كثير من الأوقاف ، ووضع آخرون يدهم عليها وتملكوها بحكم الواقع وتقادم السنين او بانقراض المستحقين او فقدان كتاب الوقف، مع إهمال القضاة في الإشراف على الأوقاف الموكل اليهم حفظها .[6]
5ــ وبالإضافة إلى إهمال الأوقاف وخرابها فقد أدى اتساعها مع اعفائها من الضرائب إلى قلة إيرادات بيت المال ، فضلا عن أن السلطان كان يعطي امتيازات خاصة لمناطق اوقافه ، هذا إلى أن طبيعة الوقف من شأنها حبس الأموال عن التداول بأي نوع من أنواع التصرف ، وبالتالي منعها من القيام بدورها في خدمة اقتصاد البلاد. ثم ان الواقفين حجروا على المباشرين في حرية التصرف، وأدت الشروط المتعددة للواقف إلى سوء استثمار الموقوف لو إفترضنا حُسن النية لدى المباشر . وهذا متعذر فلا يهمه من الوقف إلا الريع دون الاهتمام بالإستثمار الأفضل . وبهذا خربت الأوقاف وقل ريعها فأثر ذلك على ثروة البلاد ..[7]..
6 ـ ــ ثم أن هذه الأوقاف كانت سبب تعطل من وقف عليهم اعتمادا عليها ، فعاشوا بلا عمل عالة عليها [8] ، ووجد فيها الصوفية فرصة الحياة المريحة فعاشوا عليها وأهملوا شروط الواقف مما دعا السلطان برسباي للكشف عن شروط وقفي المدراس والخوانق للعمل بها فسر الناس بذلك ثم تراجع عما عزم عليه ) هذا ما ذكره ابن حجر والمقريزى وابو المحاسن [9] ، ويقول أبوالمحاسن عن إهمال القضاة للأوقاف : ( من شان القضاة عدم الالتفاف لعمارة الأوقاف والمدراس التى يكونون أنظارها . وما ادرى ما الذي يعتذرون به عن ذلك بين يدي الله عز وجل ؟.... وقد شاع ذلك في الأقطار عن قضاة زمننا، وصار غالب الناس اذا وقف على مدرسة أو رباط او زاوية أو غير ذلك يجعل النظر فيه حاجب او الداودار او الزمام ولا يجعله لمتعمم ) [10]...
الأثار الاقتصادية للتواكل الصوفي : ترك الحرفة
1 ــ اتخاذ الحرفة أساس بناء الحضارة :
وبدعوة التواكل الصوفية ترك الكثيرون حرفهم وصاروا صوفية ، بل ان بعض الصوفية القادمين عنّ له أن يمارس حرفة فجرفه تيار التواكل )[11] ، والعيش الهنيء للصوفية في مصر داخل المؤسسات الصوفية يُغرى الحرفيين بترك الحرفة . بل إن بعض وثائق الوقف تتيح لتاركى الحرفة التوظيف فيها ليعيش عاطلا ، ففى وثيقة وقف مغلطاى الجمالى : ( ويرتب بها مع عشرين من الفقراء المتصفين بالخير والعيانة المتخليين عن الاكتساب ) [12]... أي كان ترك الحرفة شرطا للعيش الرغد في الخانقاه .
وصار ترك الحرفة لازمة من لوازم التصوف حتى أن الصوفي اذا نزع الى احتراف عمل يقتات منه تشكّكوا فيه و ( امتدت الى زهده الظنون ونالت من سمعته الألسن) على حد قول الشعراني ) [13].
بل كان بعض الشيوخ الصوفية يزينون لمن يجتمع بهم ترك الحرفة والانقطاع عوضا عنها بترديد اورادهم وأحزابهم وصلواتهم الصوفية . ويقول الشعرانى أن بعض الشيوخ كان (يأمر المريد ان يخلى دكانه ويُعرض عن الدنيا ) [14] . وأدت القصة الصوفية دورها المؤثر في هذا المجال ففي إحداها ان تاجرين تركا السوق وتصوفا [15]،
وفي الحوليات التاريخية نرى تأثر الكثيرين بدعوة الصوفية فترك الحرفة لمحبته في أهل الصلاح [16] بل أصبح أخرون أولياء بعد ان بدءوا تصوفهم بترك الحرفة مثل الأعسر )[17] ، والغمري [18] والحنفي )[19] .
وتسمى كثير من الصوفية بأسماء الحرف التي تركوها قبل الانخراط في التصوف مثل الحلاوي والسدار [20] وحسن الخباز [21] ، وقال الشيخ الحرار معللا تركه الحرفة (فلم أزل على حالتي اكب الحرير حتى قيل لي أن لم تتركه أعميناك ...)[22] ... وترك كثيرون حرفة الحياكة وتصوفوا مثل إسماعيل الباعوني [23] ومكين الدين الأسمر ) [24] ووضاح الخياط )[25] وبركات الخياط )[26] ، والغمري ) [27] وعمر الوفائي الحائك والدميري )[28] وقاريء البداية ) [29] والشيخ على القطناني )[30] ... وقد ذكرتهم المراجع التاريخية والصوفية ...
ــ والصوفية وقد تركوا الحرفة فعلى حد قول الشعراني (هم بعد ذلك على قسمين إما ان يطعمهم الشيخ من الصدقات وإما ان يسألوا الناس ) [31] أي أصبحوا عالة من الناحية الاقتصادية...
ــ وقد عاش بعض الصوفية في المؤسسات الخاصة بهم كموظفين . والموظف لا يمكن ان يكون عنصرا منتجا خاصة إذا اتصل عمله بعمل الصوفية في الخوانق .
ونذكر هنا أن الصوفية بما نشروا من تواكل وخمول وبما مارسوه من وظائف في الخوانق والربط والزوايا قد غرسوا حب الوظيفة ، وهو نوع من الاستجداء الرسمي في عصرنا الحالي لا يختلف كثيرا عن التسول الصوفي .
ويقول المثل الشعبي (ان فاتك الميري اتمرغ في ترابه ) [32]...
بعض الأثار الإيجابية ..
1 ــ ومع ذلك فقد كان للتصوف بعض النواحي الإيجابية في الاقتصاد ، خاصة في الرواج التجاري في الموالد المشهورة والقرافة ... حتى ان من كرامات البدوي اجتماع التجار إليه سنويا من سائر الأقطار (وشاع بينهم أن من حضر المولد بتجارته نفقت بعد كسادها ) [33] وقد راجت تجارة الحمص في مولد البدوي وروى المقريزي والقلقشندي انه عد في طريق بين الفسطاط وجامع ابن طولون (أكثر من ثلثمائة وتسعين قدرا من للحمص المسلوق سوى المقاعد والحوانيت التي بها الحمص ) [34] ولا شك في ان ازدهار طنطا التجاري حتى الآن ــ يرجع إلى وجود ضريح البدوي ومولده بها .
على ان بعض المحاصيل التجارية قد نسبت لبعض الأولياء لرواج بيعها في مولدهم فنسبت البطاطا إلى سيدي جابر والترمس للأنبابي وفي المثل الشعبي (ترمس امبابة احلى من اللوز قال وأجبر خاطر الفقرا ) [35] وكان الشعراني أحيانا يقرن ذكر المولد بالتجارة فيقول مثلا عن مولد المليجي (يحصل فيه جمعة (اجتماع) كبيرة وتنفيق سلع للناس ) [36]
وانتشرت الأسواق المتنقلة في القرافة والمزارات فيها ) [37].
وبالتصوف ومؤسساته تقدمت صناعات الرخام والمحاريب..
[1]ــ عبد اللطيف إبراهيم : رسالة في الدكتوراة 124
[2]ــ محمد امين : الأوقاف في العصر المملوكي رسالة دكتورة غير منشورة 76 ، 77 ، 111 ، 173 ، 395
[3]ــ كيلانى : مقدمة ديوان البوصيري
[4]ــ إنباء الغمر 2 / 47 ، أنظر رسالة الاوقاف 449 : 460
[5]ــ د محمد أمين : الأوقاف في العصر المملوكى 480 : 488 ، 469 : 477 ، 381
[6]ــ الأوقاف في العصر المملوكى 480 : 488 ، 469 : 477 ، 381
[7]ــ أحمد امين : قاموس العادات والتقاليد 76 ، رسالة الأوقاف 361 : 370
[8]ــ قاموس العادات والتقاليد 76
[9]ــ إنباء الغمر مخطوط 886 ، 887، السلوك 4 / 2 / ، 939 ، النجوم الزاهرة 15 / 57 : 58
[10]ــ حوادث الدهور 1 / 16 : 17
[11]ــ المدخل 1 / 39
[12]ــ وثيقة مغلطاى الجمالى
[13]ــ الشعرانى العهود المحمدية 65
[14]ــ لطائف المنن للشعراني 339
[15]ــ الكواكب السيارة 137 ، 252 ، تحفة الأحباب 377 ، 378
[16]ــ إنباء الغمر 2 / 76
[17]ــ تاريخ الجزرى مخطوط 3 / 62
[18]ــ التبر المسبوك 136 ، 85 ، مناقب الحنفى 44
[19]ــ التبر المسبوك 136 ، 85 ، مناقب الحنفى 44
[20]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 243 طــت بولاق ، تحفة الأحباب 75 ، 76
[21]ــ النجوم 11 / 385 ، السلوك 3 / 2 / 685
[22]ــ الكواكب السيارة 153
[23]ــ إنباء الغمر 203
[24]ــ طبقات الشاذلية 88
[25]ــ الدرر الكامنة 4 / 107
[26]ــ الطبقات الكبرى 2 / 125
[27]ــ التبر المسبوك 136
[28]ــ البدر الطالع 2 / 233 ، 272
[29]ــ ذيل الدرر الكامنة مخطوط 9203
[30]ــ تاريخ ابن كثير 14 / 220
[31]ــ لطائف المنن 339
[32]ــ أمثال تيمور 110
[33]ــ النفحات الأحمدية 264
[34]ــ الخطط المقريزية 2 / 131 ، صبح الأعشى 3 / 337
[35]ــ أمثال تيمور ورقة 389
[36]ــ الطبقات الكبرى 1 / 172
[37]ــ التبر المسبوك 302