عن : أثر دين التصوف في العادات الاجتماعية فى مصر المملوكية : زيارة القبورعادة إجتماعية
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
أثر التصوف في العادات الاجتماعية فى مصر المملوكية : زيارة القبور
مدخل
1 ـ زيارة القبور العادية عادة إنسانية إجتماعية ، وفيها يدعو الزائر الله جل وعلا ان يرحم المدفون . يختلف الأمر عن زيارة الفرد لقبر مقدس ، هنا تكون الزيارة ( حجا دينيا ) بهدف التوسل وطلب المدد ودفع الضرر ، أى ما ينبغى أن يطلبه الفرد من الله جل وعلا وحده يطلبه من القبر المقدس وصاحبه الذى تحول الى تراب لا يختلف عن التراب الذى يسير عليه بقدميه هذا المأفون الساعى الى القبر يستمد منه البركة والعون.
2 ــ وحين سيطر التصوف على العصر المملوكى أصبحت زيارة القبور المقدسة عادة إجتماعية ، وليس مجرد شعيرة دينية ، ولأنها أصبحت عادة إجتماعية ولأن القرافة ( موضع القبور فى القاهرة ) وغيرها أصبحت تضم القبور المقدسة بالاضافة الى القبور العادية ،فقد أصبحت زيارة القرافة وقبورها المقدسة والعادية عادة إجتماعية فى مصر المملوكية . ومن الطبيعى أن تنشأ عن ذلك تجارة ، لها دعاية رائجة يروجها المنتفعون ، وبسبب الشهرة الدعائية فقد أصبحت معالم القرافة معالم سياحية حتى للوافدين والرحالة .
ونعطى بعض التفصيلات :
الدعاية لزيارة القبور المقدسة
1 ــ سبك المنتفعون من زيارة المقابر أكاذيب يزعمون فيها أن صاحب القبر يدعو الناس لزيارة قبره ، وتأتى هذه الدعوة عن طريق المنامات ، فأولاد الصيرفي وجهوا دعوة لابن الجباس لزيارة قبورهم )[1] . وفى منام آخر يزعم أن صاحب القبر وجه عتابا لشخص من الأكابر يقول له فيه : ( يا شيخ على .. تدخل قبر صاحب الحفار ولا تزورنا ؟ ! . سوف تعلم غدا يوم القيامة من المقدم فينا ) [2]..اى هى المنافسة بين سدنة وخدم القبور فى استجلاب الزبائن طمعا في النذور .
2 ــ بل يصل التخطيط مقدما للإرتزاق عند إحتضار أحدهم ، فيقال إنه قال عند الموت : ( رحم الله مسلما زار قبري وحفرتي ) أى هنا تخطيط مقدم لعمل مشروع ( بيزينيس ) لقبر صاحبنا ، وهو لم يمت بعدُ. ونجح هذا التخطيط بدليل أن الذى ذكر الخبر السابق هو المؤرخ أبو المحاسن ، أى إنه صدق الرواية وابتلعها وذكرها ضمن الأحداث التاريخية . [3] .
3 ـ ومن فنون الدعاية لهذه التجارة أن يكون أشياخ الصوفية هم الأئمة والقدوة فى زيارة القبور ، وتحديد الزيارة فى يوم الجمعة ، وصار هذا عادة اسبوعية سجلها السيوطى فى نهاية العصر المملوكى ضمن رسالته فى ( عمل اليوم والليلة ) ، وأن يقول الزائر : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ) [4] ، ولذا فقد كان الصوفي اذا اعتزل العالم لا يتردد إلا لصلاة الجمعة وزيارة القرافة .[5] . يعنى إن يعتزل العالم كله ولكن لا يعتزل زيارة القبور ولا يعتزل صلاة الجمعة ، فجعلهما ( زيارة القرافة وصلاة الجمعة ) متساويين . ووصف المؤرخ ابن حجر العسقلانى بعضهم بكثرة زيارة قبور الصالحين بالقرافة . [6] .
4 ـ ومن الدعاية أيضا تبشير الزائرين للمقابر بالجنة ، حتى لقد إشتهر بعضهم بلقب (مبشر الزوار بالجنة) كابن عنان [7] ، وثابت الطيان [8] أو ( واعظ المقبرة) [9] الذي وصف به أخرون . ، ولم يتحرج الصوفية من صناعة أحاديث تدعو لزيارة القبور كما يذكر المؤرخ الصوفى النويرى ، فى كتابه ( الالمام )[10] أو تتحدث عن حياتهم وتصرفاتهم داخل المقبرة كما يفترى السيوطى، فى رسالته ( بشرى الكئيب بلقاء الحبيب ) . [11] ...
3ــ ولأنها تجارة فقد تخصص فيها منتفعون منهم سدنة وخدم القبور ، ومنهم ( مشايخ الزيارة ) وهم العارفون بطرق ومسالك القرافة ، واشهر القبور المقدسة ، وكرامات أصحابها العامة والتخصصية ، والقصص الرائجة عنهم . وأشهر مشايخ الزيارة ( السخاوى الصوفى ) صاحب كتاب ( تحفة الأحباب ) وابن الزيات صاحب كتاب ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة ) .
ترتيب الزيارة :
1 ـ وعدا ما شرحه ابن الزيات فى ترتيب الزيارة فى كتابه السابق فهناك ترتيبات اخرى لزيارة القرافة وضعها مشايخ الزيارة من الصوفية ؛ فالشيخ شهاب الدين الأدمي ( أول من سار بالزيارة بالنهار في يوم الأربعاء )[12] ، بالاضافة الى يوم الجمعة ، وهناك زيارة بالليل كان يقوم بها مشايخ اخرون [13] ، وكان الشيخ عبد الله الجامى ( يجمع الزوار في ليالي الجمع )[14] ، بمعنى استمرار الزيارة نهار وليل الجمعة .
هذا عن توقيتات الزيارة . أما عن مساراتها ، فالابتداء بزيارة المشهد النفيسي ( ضريح السيدة نفيسة ) ( والزيارة النهائية ليوم الأربعاء المبارك )[15] ، ولا نعرف لماذا جعلوه ( الأربعاء المبارك ) ربما بسبب كرامة قيلت فيه . ( وبعده تربة أحمد ابن طولون )[16] ،أى تحول هذا الوالى الدموى الى قديس يُزار قبره . ويبدو أن جدول الزيارة كان أكثر تعقيدا مما نتصور ، أو يبدو أنه كانت فيه ( إجتهادات ) مختلفة ، وعدم (إجماع ) على جدول واحد ، لأنه يقال أنه ( في ليلة الجمع كان يُبتدأ بتربة العارف الصوفى عبد الله الأرزني ، ويختم بها تبركا بمن في التربة من الأولياء )[17] . وواضح أن هذه التربة كانت تحتوى على ( أولياء) موتى كثيرين ، كما يبدو أن لكل ( شيخ ) من مشايخ الزيارة ( طريقة ) على حد قول المثل الشعبى المصرى : ( كل شيخ وله طريقة) .
2 ــ ووضعوا شروطا للزيارة، بإعتبارها شعيرة دينية . فعلى الزائر للقبر ان يجعل القبر خلف ظهره ، وأن يستقبل جبل المقطم الذى يحوى بين جنباته رفات كثيرين من ( الأولياء ) بزعمهم ، ويسلّم عليهم ، وألا يدعو على من ظلمه.[18] . ولأنها عبادة جادّة فقد جعلوا الضحك مكروها بين المقابر ( فإنه من وضع الأشياء في غير محلها ) [19] . وكان الشيخ القضاعى يحث على زيارة سبعة قبور لأفضليتها [20] . وهذا لا يعنى إهمال القبور الأخرى، بل تُزار ـ مع حُسن النية ـ لو كانت أضرحة مزورة أو مشكوكا في أسماء أصحابها. [21] ...
معالم القرافة :
1 ــ اكسبت المنامات والدعاوى الصوفية بعض القبور شهرة معينة ، فأصبحت هناك معالم هامة يحرص الزائرون على مشاهدتها : ( فقبر صاحب الشمعة كانوا يرون على قبره شمعة تضيء في الليالي المظلمة فاشتهر بهذا )[22] ، ومثله (قبر صاحب القنديل ) [23] . أما قبر أو ( مشهد النور) فقيل ان أكثر الناس بالجيزة كانوا يرون عليه عمود نور إلى السماء ) [24] ومشهد ( نور) آخر حذر صاحبه امرأة حائض وطأت قبره [25] .
وواضح هذا التنافس بين سدنة القبور على التسمية للقبور التى يرتزقون منها بموضوع ( النور ) .
وإجتهد آخرون فى إطلاق ألقاب أخرى على القبور التابعة لهم ، فاشتهر قبر بأن صاحبه رؤى في منام فقال " فاز من اتقاه " فأطلق على القبر هذا اللقب( فاز من إتقاه )[26] . وقال آخر في المنام انه غُفر له ولكل من صافح عند قبره ، فكان الزوار يتصافحون عنده ، واشتهر القبر بهذا [27] . وقيل عن قبر بأنه لعروس بكر ماتت خجلا ليلة الزفاف، وأطلق على القبر ( قبر عروسة الصحراء) وزعموا أن من يضع يده على قبرها يجدها تعرق في الشتاء كالعروسة صاحبة القبر )[28] . وبنفس الابداع فى الكذب اشتهر ( قبر سماسرة الخير ) بإطعام الجائع [29] . وزار الرحالة المغربى ( العلوى ) القرافة كغيره من ( السائحين ) وفى كتابه عن رحلته لمصر ذكر من معالم القرافة : قبر الناطق عند لحده في قبره ، وقبر الصامت الذي لم يتكلم أربعين سنة ، وقبر صاحب الأبريق [30]....
زيارة النساء للقرافة :
1 ــ شاركت النساء بكثافة في زيارة المقابر ، ليس فقط الزيارة بل بالمبيت فى القرافة مع الأولاد والبنات ، ويخرج معهم الباعة بأصناف الطعام ، وكان لذلك مواسم دينية معينة مما أثار اهتمام الرحالة ، يقول ابن بطوطة (يخرج الناس للمبيت في القرافة بأولادهم ونسائهم ، ويطوفون على المزارات الشهيرة ، ويخرجون أيضا للمبيت بها ليلة النصف من شعبان ويخرج أهل الأسواق بصنوف المآكل) [31] ...
2 ــ وصور ابن الحاج مواعيد زيارتهن اليومية والسنوية فقال إنهنّ : ( يخرجن في الغالب في الأيام والليالي الشريفة كليالي الجمع ، سيما المقمرة منها . ويقمن فيها ( فى القرافة ) يوم الجمعة ، ويرجعن يوم السبت . هذا بالإضافة على يوم عاشوراء والعيدين وليلة النصف من شعبان. ثم أضفن يوم الاثنين لزيارة الحسين ، ويوم الأربعاء لزيارة الست نفيسة ، ويوم الأحد لحضور سوق مصر. فلم يتركن الإقامة ( فى البيت ) في الغالب إلا يوما واحدا وهو يوم الثلاثاء. ).!
3 ـ وعن مظاهر الزيارة النسائية يقول : ( وفي القرافة تختلط الرجال بالنساء في سماع الواعظ والواعظة في الغناء والسماع ، فإذا وصلن البلد تنقبن واستترن . وصار ذلك عادة تستتر المرأة في البلد ولا تستتر في القبور أو الطريق اليها )[32] . وتعبير إختلاط الرجال بالنساء يعنى الانحلال الخلقى ، وكان النقاب هو (الحارس الأمين ) لهن فى الطريق الى القرافة ، فإذا وصلت القرافة خلعت النقاب ( وخلعت أشياء أخرى ، حيث إنتشر الانحلال الخلقى فى القرافة ، وأوضحنا ذلك فى كتاب أثر التصوف فى الانحلال الخلقى ) . وبسبب السُّمعة السيئة للقرافة فقد حرص المماليك على ترتيب خادم أمين ثقة لخدمة الحريم السلطاني عند زيارة الأضرحة والآثار الشريفة في ليل أو نهار. كما جاء فى بعض وثائق الوقف. [33]
4 ـ وأشار المؤرخون : المقريزى وابن حجر وابو المحاسن والصيرفى الى ما كان يحدث ( من مفاسد في المقابر حتى صارت جمعا للنسوان ومحلا للعب )[34] ، لذا كان يُنادي بمنع النساء من الذهاب الى التربة ، وتُهدّد المرأة بالتغريق ويُهدد المكاري ( الذى يحملها على الحمار ) بالشنق . ولم يجد ذلك فتيلا ...)[35]..أى بلا فائدة .
5 ــ وانتهز اللصوص الفرصة فكانوا يقطعون الطريق على رواد المقابر..
[1]ــ الكواكب السيارة 196 ، 305
[2]ــ الكواكب السيارة 495
[3]ــ النجوم الزاهرة 11 / 18
[4]ــ السيوطى عمل اليوم والليلة مخطوط 145 : 146
[5]ــ أخبار القرن العاشر 176 : 177 ترجمة ابن عنان . وفى تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر) 468 ترجمة ابن جربغا
[6]ــ أنباء الغمر 2 / 274
[7]ــ تحفة الأحباب 336
[8]ــ الكواكب السيارة 204
[9]ــ الكواكب السيارة 43 ، 98
[10]ــ النويري الإلمام مخطوط 1 / 226
[11]ــ السيوطى بشرى الكتب : 45 : 60
[12]ــ تحفة الأحباب 30 ، 345
[13]ــ تحفة الأحباب 462
[14]ــ تحفة الأحباب 4 / 214
[15]ــ الكواكب السيارة 30 ، تحفة الأحباب 405 ، 440
[16]ــ تحفة الأحباب 405
[17]ــ تحفة الأحباب 214
[18]ــ الكواكب السيارة 294
[19]ــ الكواكب السيارة 15
[20]ــ الكواكب السيارة 17 ، تحفة الأحباب
[21]ــ تحفة الأحباب 486
[22]ــ الكواكب السيارة 189 ، 297 ، تحفة الأحباب 413
[23] الكواكب السيارة : 127 ، 184 ، 296
[24]ــ """"" """" """ """" """
[25]ــ """"" """" """ """" """
[26]ــ الكواكب السيارة 281 ، تحفة الأحباب 413
[27]ــ """"" """" 77 : """" """ 199
[28]ــ 143 ، 231 الكواكب السيارة
[29]ــ 143 ، 231 الكواكب السيارة
[30]ــ رحلة العلوى مخطوط ورقة 60 ب
[31]ــ رحلة ابن بطوطة 1 / 21
[32]ــ المدخل 1 / 151 ، 160 ، 161
[33]ــ وثيقة الغورى نشر عبد اللطيف ص 45 : 46
[34]ــ تحفة الأحباب 35
[35]ــ سنة 793 : عقد الجمان لوحة 436 مخطوط ، نزهة النفوس 1 / 334 ، انباء الغمر 3 / 437 ، 439 ، سنة 803 : المنهل الصافى مخطوط 1 / 263 ، سنة 824 السلوك 4 / 2 / 870 أنباء الغمر 3 / 470 . نزهة النفوس للصيرفى خوادث عام 835 ، وغير ذلك ...