عن : أثر دين التصوف فى المعتقدات الاجتماعية : ( الاعتقاد فى الجن والسحر )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٥ - يوليو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

عن : أثر دين التصوف فى المعتقدات الاجتماعية  ( الاعتقاد فى الجن والسحر )

   كتاب : أثر التصوف  الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية

( الاعتقاد فى الجن والسحر )

الاعتقاد في الجان

1 ــ الاعتقاد في الجان ظاهرة إنسانية عامة . وقد تردد ذكرهم في القرآن الكريم وخصصت باسمهم سورة الجن ، ورب العزة جل وعلا يذكر إيمان بعضهم بالإسلام ( الأحقاف:29 )، وهم مخلوقات برزخية فى مستوى آخر من الوجود لا نُحسُّ به فى عالمنا المادى . وحين عصى ابليس طرده الله جل وعلا من الملأ الأعلى فصار وأصبح مع ذريته فى المستوى البرزخى للجن :( الكهف :50) .

2 ــ أما ما ينكره الإسلام فهو الاعتقاد في التعامل المادى الحسّى مع الجان على المستوى الحسي وإمكانية الاتصال بهم على نحو ما يشيع بين الناس ، مثلما أشاع الصوفية في العصر المملوكي ، لأن الله جل وعلا حكم علينا بعدم رؤيتهم مع انهم يروننا . قال جل وعلا : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف: 27). 

3 ــ وينكر الإسلام تلك الخرافة الصوفية التى تزعم تشكل الولى أو تجسّده بهيئة الجن ـ أو تطور الولى وتجسده ليكون من الجن ، أو ذلك الاختلاط والتماهى بين الجن وبين الأولياء الصوفية ممن يُطلق عليهم ( أصحاب النوبة ) الذين يحرسون الأرض فى زعمهم ، على نحو ما تحدث الشعراني ، [1]. فالشعراني يحتج على منكري وجود أصحاب النوبة ، وهو يخشى منهم ، ويعد من المنن عليه حفظه من تصريفهم فيه (بمرض او سلب حال )[2] ، وأنه يحرص استئذانهم كلما خرج من بيته ليكون في رعايتهم )[3] ، ويتذكر وصية الخواص بالاستعانة عليهم بالله ورسوله [4]  . وهذا الاعتقاد فيهم مع الخوف منهم وعدم تحديد تام لشخصياتهم يجعلهم أقرب إلى الكائنات المجهولة أوالجان . واقرأ قول الشعراني يصف حالته حينما مر في أماكن مهجورة (.... وغفلت مرة فأحسست بنفسي أن ورائي تمساح كبير يريد ان يبتلعني ، فالتفت فاذا شخص منهم أشعث الرأس كأن عينيه جمرتان .!) ويقول: ( فلقيني واحد منهم فما كانت روحي إلا زهقت) [5] .

4 ــ ومن ناحية أخرى فالصوفية (أساتذة العصر) افتخر بعضهم باعتقاد الجان فيه وفى الأولياء )[6] ، وخضوع بعضهم للولى كخضوعهم لسليمان [7] . ، وافتخر الشعراني بكثرة اعتقاد الجن فيه [8]  ، وألف كتاب : ( كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان ) للرد على أسئلة الجن له في التوحيد  [9] ، أى جعل الجن تلاميذ له ينهلون من علمه اللدنى . ويتردد في مصادر العصر المملوكي ان بعض الأولياء كان يعلم الجان ويفتيهم  [10] ، وفي هذا المجال اشتهر الحنفي حتى ان إحدى مريداته من الجنيات ــ على زعم كتب المناقب ــ طلبت أن تتزوج من صهر الحنفي فأفتى الحنفي بعدم الزواج شرعا إلا أن العريس نزل معها (تحت الأرض) حيث قابل ملك الجان فقال الأخير : لا اعتراض على سيدي محمد (يقصد الشيخ الحنفى ) فيما قال : ثم أمر الجنية بأن تعيد حبيبها على مكانه )[11] . وتابع الشعراني الحنفي فنسب لنفسه مغامرات مع الجان  [12] .

 واحترف بعض الصوفية استحضار الجان للمصاب بالصرع ، مثل ابن الرداد المعروف بشيخ الجن ( فكان من يعزم عليه ينصرع عمدا ليضحك الحاضرين ، وتكرر ذلك فصار يُعتقد ،وسُمّى شيخ الجن )[13] ...

5 ــ ومن الطبيعي أن ينعكس جهد الصوفية في معتقدات العصر في الجان ووجودهم الحسي حتى ان الشيخ الشبلي ــ وضع كتابا فقهيا بعنوان ( آكام المرجان في أحكام الجان) قص فيه حكايات عن زواج بين الإنس والجن وتسخير الإنس للجن وخوفهم منهم والحروز التي تعصم من كيدهم وتأثير الذكر والأوراد فيهم ودخولهم بدن المصروع وسحرهم للإنسان . الخ  [14] وكانت الناس تفسر الأشياء الغريبة والتي تبدو كذلك في ضوء اعتقادهم في الجان [15] . وأشيع عن الجان انها تفر من الأترج .[16]..وصنعت تمائم للحفظ من الجان نسب بعضها للرسول عليه السلام [17]  . ويقول ابن الحاج (من أراد أن يحفظ من العين ومن مردة الجان فيعلق الحروز من تحت ثوبه بحيث لا يظهر ..)[18].

6 ــ وتأثرت بعض العادات الاجتماعية بالاعتقاد في الجان ، فالنساء كن يضربن على الأواني النحاسية عند خسوف القمر لإبعاد الجن عنه( 205 ) ، ولا يزال ذلك ساريا .

7 ــ وللجان والعفاريت ذكر في الأمثال الشعبية المصرية [19] ..

8 ـ وحفلات الزار الحالية أثر للاعتقاد في الجان في العصر المملوكي .. والعفاريت فيها خليط من الجن والأولياء التي تركب الإنسان ،  وتستعمل في أساليبهم الفاظ صوفية مثل ( دستور يا سيادي ، مدد يا اهل البيت) مع عبارات  مختلفة فى التوسل بالأولياء وآل البيت . ثم ان رقص الزار هو إحدى حالات الذكر الصوفي. وتلك الأقاصيص الخرافية عن الجن  لا تزال موضع التصديق في مجتمعاتنا الشرقية ، وقد إحتلت مكانها فى ( قصص ألف ليلة) التى تعبر عن المجتمع المصرى فى العصرين المملوكى والعثمانى . 

الـســــــحـــــر :ـــ

1ــ تضاءل الفارق بين السحر وانتحال بعضهم إتيان الكرامة كمؤهل لصلاحيته كصوفي معتقد . وقد سجل الجويري في كتابه ( المختار في كشف الأسرار) حيلهم ، فكان يذكر الكرامة ثم يتبعها بكشف التحايل فيها ، مثل عدم احتراق أحدهم في النار ونبع الماء من بين أصبعه وبقائه بلا طعام او شراب مدة طويلة وغير ذلك مما ذكره مفصلا  [20].. واكتشف ابن تيمية حيل الأحمدية في دخولهم النار وفضحهم امام الحاكم  [21]  . 

2 ــ والقرآن الكريم ينفى عمل السحر ، ويؤكد أنه تخيُّل ممن يصدق الساحر ، وقد قال جل وعلا عن موسى وسحرة فرعون:  (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) )طه :66) ، ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ )الأعراف 116 ) ، أى أن رصيد السحر والانتحال  للكرامات في العصر المملوكي يكمن فقط في اعتقاد الناس فيهما.

3 ــ وبازدياد الاعتقاد في السحر فسرت الأشياء التي لا يفهمها الناس ــ او لا يستطيعون تعليلها ــ على انها سحر ( .. فكان يقع من ابن البرهان عجائب فيظن ان له رئيا من الجن يخبره ..) [22] وفي إحدى الفتن اشتهر الامير ( يلبغا المجنون ) بأن السهام لا تصيبه ، (واختلف الناس في امره ، فمنهم من يقول كان معه هيكل منيع ، ومنهم من يقول كان يتحوط بأدعية عظيمة ، ومنهم من يقول كان ساحرا) [23]..

4ــ وما لبثت الأشياء العادية أن فسرت بالسحر أيضا فقيل أن محمد ابن جقمق مرض ومات بالسحر ) [24] وقال نفس الشيء عن الاتابكي ازبك بن ططح ) [25].

5ــ وسار الاعتقاد في السحر باضطراد يواكب انتشار التصوف المضطرد، ونلحظ ذلك في اقوال ابن اياس عن مقتل الأمير المملوكى قرقماس ق 842 : (أن الضربات كانت تطيش ولا تصيب من قرقماس ، لأنه كان في فمه خاتم مرصود، أخرجوه من فمه ، وقتلوه ) [26] . وهذا يخالف ما ذكره من عاصر مقتل قرقماس من المؤرخين ، وما سجلوه عن مقتله كالمقريزى فى (السلوك ) وابو المحاسن فى ( النجوم الزاهرة ) [27] ، ومعنى ذلك ان ابن اياس المؤرخ في آخر العصر المموكي قد تأثر بما شاع في عصره من خرافات زادت حتى طغت على الحقيقة التي كتبها المؤرخون المعاصرون انفسهم . وابن اياس خير من يعبر عن عقلية هذه الفترة وتأثرها بالتصوف ..

6ـ وساد الاعتقاد فيما أطلقوا عليه ( إسم الله الأعظم ) الذى كان عندهم تميمة سحرية تعادل ( كن فيكون ) ، وكان العثور على (اسم الله الأعظم) قمة امنيات الساحر ، فبه يحقق كل اغراضه . و(اسم الله الأعظم) اختراع صوفي عرف منذ بداية التصوف،  وتردد في كتب الصوفية فى محاولة العثور عليه لتحقيق المطالب والحصول على الكنوز الأثرية المدفونة [28]... وادعى كثير من الصوفية معرفة الاسم الأعظم وكان اغلبهم من أدعياء علم الغيب او الكشف كابن زقاعة  [29] والنعمان   [30] والأشمركاني  [31] ، وافتخر الشعراني بانه اطلع على الاسم الأعظم عن طريق الكشف . [32] وعن هذه الصلة بين التصوف المملوكي والسحر ترسخ الاعتقاد في السحر كحقيقة حتى ان فقيها قاضيا استغل قوة الاعتقاد في السحر ــ ليحكم بقتل شخص بحجة أنه ساحر حلال الدم  [33]..

والظريف ان الوزير عبد الباسط اتهم في محنته بأن معه الإسم الأعظم وأنه (يسحر السلطان لأنه كلما أراد عقوبته صرف السلطان عن ذلك ، ووجدت في عمامة عبد الباسط أوراق فيها ادعية ونحوها كما أشيع  ) [34]..بهذا فسر العصر المملوكي محنة الوزير عبد الباسط مع أن تلك المحن كانت شيئا عاديا وقتها .

8ــ ومن الطبيعي أن يستهوي السحر عقول النساء في العصر المملوكي ، والحريم السلطاني على وجه الخصوص حيث مكائد النسوة لا تنتهي . فقيل ان والدة الناصر فرج زوجة السلطان برقوق قد سحرتها جارية من جواريها ، فقتلت الجارية وقتل نصراني اتهم بالتعاون معها .. )[35] وطلق السلطان جقمق زوجته لاتهامها بانها سحرت حظيته سرباي )[36]  وفي هذا الجو مارست النساء السحر كصناعة للتكسب )[37]  بل إن المقريزي ــ مع علو ثقافته بالنسبة لمعاصريه ــ ذكر كيفية معينة يمكن بها للمرأة ان تمنع المطر )[38] ..

9ــ واستمر الاعتقاد في السحر بعد العصر المملوكي فقال كلوت بك : ( ومسلمو مصر يعتقدون أن بإلامكان القيام بالإجراءات السحرية بحسب مبادئ الخير والشر ، وتسمى نظريتهم في الحالة الأولى بالعلم الروحاني وفي الحالة الثانية بالعلم الشيطاني  )[39] . وهو هنا يفرق بين انتحال الكرامة وادعاء السحر . ونحن بهذا نصل آخر الموضوع بأوله.



[1]
ــ لطائف المنن 144 ، 147

[2]ــ """   """""   """    """"

[3]ــ لطائف المنن 144 ، البحر المورود 89 ، 90

[4]ــ الطبقات الكبرى 2 / 144

[5]ــ درر الغواص 51 ، 52

[6]ــ روض الرياحين 216

[7]ــ حياة الحيوان للدميري 1 / 213 : 214

[8]ــ لطائف المنن  ـ8 22

[9]ــ راجع أيضا : اليواقيت والجواهر 137 لطائف المنن 229

[10]ــ الكواكب السيارة 164 ، تحفة الأحباب 394 ، التبر المسبوك 370

[11]ــ مناقب الحنفى مخطوط 403 : 415 ، الطبقات الكبرى 2 / 84

[12]ــ لواقح الأنوار 116 ، لطائف المنن 31

[13]ــ التبر المسبوك 158 ، 159

[14]ــ أحكام الجان مخطوط بالدار رقم 2412 تاريخ ص 47، 58 ، 59 ، 62 ، 64 ، 74 ، 75 ، 79 وما بعدها ..

[15]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 203 تحقيق محمد مصطفى

[16]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 85 ، حياة الحيوان 1 / 214 : 215

[17]ــ حياة الحيوان 2 / 265

[18]ــ المدخل 2 / 209

[19]ــ أنباء الهصر 366 ، قاموس العادات والتقاليد المصرية 410

تيمور الأمثال الشعبية 169 ، 318 ، 345 ، 80 شعلان الشعب المصري في امثاله : 187 ، 188 ،....

[20]ــ الجوبرى : المختار في كشف الأسرار 20 : 280

[21]ــ تاريخ ابن كثير 14 / 36

[22]ــ تاريخ ابن الفرات 8 / 56

[23]ــ حوادث الدهور 2 / 174

[24]ــ التبر المسبوك 83

[25]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 355 طـ بولاق

[26]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 206

[27]ــ السلوك 4 / 3 / 1092 ، 1093 ، النجوم الزاهرة 15 ــ 249

[28]ــ روض الرياحين 154

[29]ــ المنهل الصافى مخطوط 1 / 88 ، النجوم 14 / 177

[30]ــ الكواكب السيارة  182

[31]ــ المناوى الطبقات الكبرى مخطوط 357

[32]ــ لطائف المنن 507

[33]ــ انباء الغمر 3 / 457

[34]ــ النجوم الزاهرة 15 / 331 ، تاريخ ابن اياس 2 / 219 تحقيق مصطفى

[35]ــ نزهة النفوس 2 / 69

[36]ــ التبر المسبوك 209 ، تاريخ ابن اياس 2 / 263 ، 264 تحقيق مصطفى

[37]ــ نزهة النفوس مخطوط ورقة 181 حوادث 842 ، السلوك 4 / 3 / 1130 : 1131

[38]ــ حل لغز الماء . مخطوط ورقة 75 : 76

[39]ــ كلوت بك لمحة عامة إلى مصر 2 / 96

اجمالي القراءات 1004