بعض آثار إيجــابية لبعض الصوفية في العصر المملوكي : الضيافة / الكفالة الاجتماعية
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
بعض آثار إيجــابية لبعض الصوفية في العصر المملوكي : الضيافة / الكفالة
مدخل :
سبقت الإشارة إلى ما قامت به المؤسسات الصوفية من خدمات تعليمية لأناس من خارج الخوانق والزوايا ، كما عرضنا للشفاعة الصوفية عند الحكام في الباب السياسي . والواقع ان المؤسسات الصوفية ــ سواء أقامها الحاكم أو أقامها المتصوفة ـ أدّت دورا هاما فى الضيافة وكفالة الأرامل والعجزة . كما ظهر من بين المتصوفة من إشتهر بالكرم والتفاعل الإيجابي مع المجتمع والسعى في مصالح الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع ان هؤلاء كانوا قلة بالنسبة للكثرة الكاثرة من المستفيدين بالتصوف فإن وجود أولئك يعتبر دليلا حيا على أن أى مجتمع لا يخلو من الخير مهما تحكم فيه الدين الأرضى بسلبياته . وسنعرض لبعض هؤلاء الايجابيين ودورهم بقدر ما اسعفتنا به المراجع ..
الضـيــافـــة :ــ
1 ــ قامت بعض الزوايا الصوفية بدور هام في إيواء الغرباء وأبناء السبيل . وقد ذكر ابن بطوطة الزوايا الصوفية التي تنقل في ضيافتها أثناء رحلاته في مصر، فذكر أنه نزل بزاوية الشيخ مرزوق في البرلس وزاوية الشيخ القلوي في تنيس وزاوية الشيخ ابن قفل وزاوية الشيخ جمال الدين الساوي وزاوية ابن النعمان في دمياط وخارجها ، وقضى ليلة في رباط الآثار النبوية، واضافه ابن الصباغ في زاويته بأسيوط ، وابن عبد الظاهر في أخميم . وتحدث كثيرا ــ شأن المؤرخين الأخرين ــ عن زاوية عبد الله المرشدي الولى المشهور بالكرم بمنية مرشد [1] ..وكيف انقطع بمنية بنى مرشد وانفرد بزاوية هناك لا خدم له ولا صاحب ويقصده الأمراء والوزراء وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم فيطعمهم ،وقد قصده السلطان الناصر محمد مرات بموضعه ، وتصادف وجود ابن بطوطة عنده وجود الأمير سيف الدين يلمك مع اتباعه ضيفا على الزاوية )[2]..واشتهر المرشدي في المصادر التاريخية بكرمه في زاويته وخدمته للضيوف بنفسه ، وانه حج في حاشية كبيرة فأنفق عليهم، ومع هذا كان لا يقبل من احد شيئا )[3]..
2 ـ وقبله كان قطب الدين الزاهد 686 مقصدا للمساكين والفقراء الواردين للقاهرة يمد لهم سماطا ، ويبرهم ويعين كثيرا منهم على الحج )[4] وعاصره ابن عدي 697 حيث كان يمد السماط (للوارد والمقيم) كل يوم مرتين ، وكان كريما حسن الأخلاق ، لا يبقى على درهم ولا دينار )[5] . وفي القرن الثامن الصوفي اشتهر ابن شيراك التركماني ، وكان نافذ الكلمة في مصر ، وخدم الصوفية فى زاويته الواردين اليها من الأغنياء والفقراء )[6] . ووصف الشيخ صالح المناوى بكثرة الضيافة للواردين إلى زاويته([7] ).
وعلى طريق المرشدي في الكرم مع عدم قبول المال من الآخرين سار العينتابى ت 800 في إدارة زاويته فأضاف من يرد عليها ، وأطعم كل يوم فوق المائتي نفس ، وأنفق من كدّ يمينه وأنشأ زاويته بماله واوقف عليها اوقافا كثيرة . ونلمح نفس المبدأ عند ابن نبهان الذي كان زاهدا في بيت جبرين ، واشتهر بها ، وأطعم الضيوف الواردين، ولم يأخذ من احد شيئا، بل ان الأمير طشتمر(حمص اخضر) (أوقف على الزاوية أرضا فامتنع الشيخ ، فلم يزل به حتى سكت )[8] .
3 ــ واشترطت وثائق الوقف على الخوانق امكانية ايواء الضيوف ـ ففى وثيقة بيبرس الجاشنكير اشتراط السكن ( للمتأهل منهم والمتجرد والمقيم والمجتاز، بحيث لا يكون منهم ولا من أهل الرباط ) والمجتاز هو الضيف ابن السبيل . وجعل السبكي من واجبات شيخ الزاوية (تهيئة الطعام للمقيمين والمجتازين ومؤانستهم اذا قدموا ، بحث تزول وحشة الغربة عنهم ، ولا بأس بإفراد مكان للوارد حتى لا يستحي وقت اكله وراحته ..)[9] .
4 ــ وقد ورد المصادر الصوفية إشارات لدور الزوايا في الضيافة ، فالشعراني افتخر بان الضيوف في زاويته كل يوم سبعون نفسا ، زيادة على المجاورين، وأنه زوّج من المجاورين نحو خمسين نفسا ، دفع عنهم غالب المهور ، وعمل لهم طعام العروس والعقيقة ، وحج معه غالب أكابرهم فى عدة سنين ، ولم يكلف أحدا منهم بشيء . وقال أن عدد المجاورين في زاويته ضعف عددهم في زاوية المتبولي وعثمان الخطاب ومدين . [10] وقد ذكر الشعراني أن زاوية المنزلاوي كانت موردا للضيوف القادمين من دمياط والصادرين اليها )[11] وكان الوارد كثيرا على زاوية الشيخ السطيحة )[12]..
5 ــ ومن ناحية اخرى وصف كثير من الصوفية بالكرم وحُسن الخلق خارج نطاق الزوايا ، كابن النجار ، فقد كان متواضعا يخدم العميان والمساكين ليل نهار ويقضى حوائج الأرامل ويجمع لهم أموال الزكاة ويفرقها عليهم ولا يستأثر لنفسه بشيء منها ، ويقرى الضيف ويخدمه ، ولا يترك قيام الليل . ومع هذا فله هيبة عظيمة ، ويكاد من لا يعرفه يرعد من هيبته. ومثله شمس الدين البوصيري 824 الذى ( كان خيرا ديّنا كثير النفع للطلبة ، يحج كثيرا ، ويقصد الأغنياء لنفع الفقراء ، وربما استدان للفقراء على ذمته ، وكانت له عبادة )[13]..وووصف ابن عبد المؤمن بانه (كان صالحا سليم الصدر ناصحا للخلق قانعا بالسير باذلا للفضل بل لقوت يومه ، مع حاجته إليه )[14] ..
والتراجم السابقة لهؤلاء أظهرت أن كرمهم مرتبط بعبادتهم وحسن خلقهم ومع ذلك حرموا الشهرة بين الصوفية ، ويكفي أنهم لم يحظوا كالآخرين بوجود مناقب لهم في الكتب الصوفية.
6 ــ وعلى عادة الشعراني افتخر باهتمامه بأمر الضيف وكثرة سؤاله عنه وقت الغذاء والعشاء مع انشغاله " بأمور كثيرة"[15] ،( لطائف المنن 475 ) وأشاد بشقيقة عبدالقادر الشعراني الذي يتبرع بغسل الموتى وتكفينهم من عنده( لواقح الانوار 256 : 257 )[16] ، وذكر كرم بعض شيوخه مثل الخواص الذي جاءته الف دينار وهو يحلق فأعطاها الحلاق ، والشيخ ابن المنير الذي تصدق على شخص لا يعرفه ماتت جماله بطريق الحج فأعطاه خمسمائة دينار ، والشيخ الشناوى الذى اعطى ( مالا يحصى) ــ على حد قول الشعراني ( من حيوانات وحبوب ونقود( لواقح الانوار 60 : 61 )[17] وحكى ان الاستادار اعطى للشيخ المحلى ألف دينار فوضعها عند شخص وأرسل له المحتاجين واحدا واحدا حتى صرفها كلها عليهم ( لطائف المنن 170 )[18] .
وهذه الأخبار نظرا لكونها عادية فإنها قابلة للتصديق خاصة ، وقد تطهرت من دعاوي الكرامات والمبالغات التي تحفل بها كتابات الشعراني..
كفالة الأرامل والعجزة :ــ
1 ــ وجدت بعض الأرامل في مؤسسات الصوفية ملاذا يحفظهن ويقيهن السوء ، فبلغ عددهن في زاوية تاج الدين النخال نحو ستمائة بالإضافة الى مائة فقير، (67 ) وكان في زاوية عثمان الحطاب أكثر من مائة من الأرامل والفقراء )[19] .
2 ــ وبعض المؤسسات اقتصرت على كفالة الأرامل ، وأشهرها رباط البغدادية ورباط الأندلس السعدي ورباط زوجة اينال وقد اهتمت بكفالة المرأة ، مما يشير إلى تقدم اجتماعي لا شك فيه في ذلك العصر [20] . وكان رباط البغدادية أشهرها في خدمة الأرامل ، وقد ادارته الشيخة الصالحة زينب بنت أبي بركات البغدادية ت 796 فكانت ( تعظ النساء وتعلمهن الخير )[21] أي أنه قام بمهام دينية مع وظيفته الاجتماعية ، وقد بنت ذلك الرباط بنت الظاهر بيبرس، ( وصار كالمودع للنساء الأرامل )[22] .
3 ــ وقد سبق ذكر إيواء بعض المحتاجين مع النساء الأرامل في الزوايا ، وكانوا من الأيتام أو المُعاقين ، فالشعراني افتخر بان في زاويته نحو ثلاثين شخصا من العميان يرعاهم )[23] وقيل في ترجمة شهاب الدين السويداوى ت 804 ، أنه أُصيب فى آخر عمره بالعمى ، ( فانقطع بزاوية الست زينب خارج باب النصر )[24] أي انه وجد في الزاوية مأوى له حين أصابه العمى على كبر . وقيل في ترجمة المجاصى ت 802 انه مات بالقاهرة وقد ناهز الثمانين ، وكان حينئذ صوفيا فى خانقاة سعيد السعداء ، وقبلها كان يطوف البلاد ويتكسب بالشعر )[25] أي أنه لما علا سنّه آوى إلى الخانقاه حتى مات فيها ، وان أشهر الخوانق في العصر المملوكي وقبله الأيوبي (خانقاه سعيد السعداء) قدمت خدمات لأولئك المحتاجين .
وقد افتخر الشعراني بكثرة إيوائه ( الأيتام والعميان والعجزة والعرجان وسائر من به عاهه) وأنه يشفق عليهم حتى انه يتمنى لو كان المجاورين كلهم من أولئك )[26] . وسبق قيامه بتزويج بعض المجاورين في زاويته واصطحابه لهم معه في الحج على نفقته )[27] أي ان زاويته علاوة على الضيافة قدمت خدمات إنسانية ودينية للمجاورين فيها..
[1]ــ رحلة ابن بطوطة : 1 : 13 ، 14 ، 16 ، 17 ، 18 ، 26
[2]ــ رحلة ابن بطوطة : 1 : 13 ، 14
[3]الدرر الكامنة 4 / 82 ، الصفدى الوافى بالوفيات 3 / 372 : 373 ، شذرات الذهب 6 / 116
[4]ــ تاريخ ابن الفرات 8ر 60 : 61
[5]ــ تذكرة النبيه 1ر 207
[6]ــ العيني : عقد الجان مخطوط وفيات 714
[7]ــ إنباء الغمر 2ر 33
[8]ــ الدرر الكامنة 4ر 272
[9]ــ معيد النعم : 171
[10]ــ لطائف المنن 501
[11]ــ الطبقات الكبرى 2ر 161
[12]ــ الطبقات الكبرى 2ر 119
[13]ــ شذرات الذهب 8ر 165 : 166 ، 7ر 167 / 168 ، 1596 بالترتيب
[14]ــ لطائف المنن 475
[15]ــ لواقح الأنوار 60 ، 61
[16]ــ لواقح الأنوار 1ر
[17]ــ لطائف المنن 170
[18]ــ طبقات الشاذلية 115
[19]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2ر 93 : 94
[20]ــ دولت الخوانق رسالة دكتوراه غير منشورة جامعة القاهرة ص 252..
[21]ــ السلوك 3ر 2ر 823
[22]ــ ابناء الغمر 1ر 480
[23]ــ لطائف المنن 500
[24]ــ شذرات الذهب 7ر 41
[25]ــ انباء الغمر 2ر 114
[26]ــ لطائف المنن 410
[27]ــ لطائف المنن 501