عن علاقة الصوفية بأصحاب الحرف والفلاحين فى مصر المملوكية
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
علاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى المملوكى
علاقتهم بأصـحــــــاب الحـــــــــــرف :ــــ
1 ــ كانوا طبقة فقيرة اقترن ذكرهم بذكر الفقر والاحتياج ، ولم يتركهم الشعرانى فى بؤسهم فتصدى لهم بالنصيحة [1]ولم يمنعه التظاهر بالإشفاق عليهم من اباحته أكل الصوفية لطعامهم بدعوى امداده بالبركة الخفية .! . وما أسهل هذا الادعاء من أولياء التصوف وبه يمتصون دماء الفقراء والأثرياء .
ونلمح خُبث الشعراني واستحلاله أكل الصوفية المُتخمين لطعام اولئك الفقراء الجائعين في قوله : ( أخذ علينا العهود ألا نمد يدنا على طعام فقير او صنايعي ، إلا إن كنا نمده بالبركة الخفية في الرزق . فإن علمنا من انفسنا عدم القدرة على ان نمده فالأولى لنا تركه ولا نلتفت إلى جبر خاطره . فإن السلامة مقدمة على الغنيمة . والفقير لقمته تقع بكُلفة ، ولا سيما ان كان ضعيف البصر عاجزا عن الصنعة ، فسلامتنا من منة ذلك الفقير أولى لنا من جبر خاطره )[2].
ويبدو من حديث الشعراني عن (جبر الخاطر) أن أولئك الحرفيين الفقراء كانوا صادقى النية في دعوة الصوفية لأكل طعامهم ، وكان أولى بالشعراني أن يحرم ذلك على الأولياء المتخمين بالولائم ، لا أن يبيحه لهم بحجة إدّعاء ( البركة الخفية في الرزق ) مع أن مرجع ذلك كله لله وحده . ويدل على خطئه أن أولئك الأولياء الصوفية الذين أكلوا أموال الحرفيين ( الصنايعية ) الفقراء استهانوا بهم واحتقروهم في نفس الوقت. وهذا باعتراف الشعراني نفسه في رسالته (ردع الفقراء) يقول عن مدح النقباء لشيخهم عند ذوى الجاه ابتغاء الرزق والاعتقاد فيه : ( وتأمل مدحهم لشيخهم انما يكون دائما عند الامراء وكبراء البلاد ونحوهم .... فما ترى منهم أحدا يمدح شيخه عند صنايعي فقير أبدا، ولا عند فقير صعلوك لعلهم ان هؤلاء ليس عندهم شيء يأخذه لهم ولا لشيخهم )[3]...
علاقتهم بالفلاحين :ــ
1ــ كانوا اغلبية السكان وأقلهم شانا وأكثرهم حرمانا إلى درجة صورها ابن الحاج الفقيه المغربي الأصل بأن الفلاح المصرى عند المماليك ( صار كالأسير الذليل الحقير وكأنه لا بال له عندهم ولا روح) )[4] . واتفق هذا مع نظرة بعض المؤرخين مثل عبد الباسط بن خليل الذي اعتبر مشافهة السلطان قايتباي لأحد الفلاحين أمرا حقيرا وضربا من النوادر )[5] وقد سبق التعرض للظلم الذي حاق بالفلاحين في بلادهم من التزامات عليه ان يدفعها للسلطة ، والجديد هنا هو تلك الزيارات التي كان يقوم بها السلاطين ونوابهم إلى القرى المصرية ينهبونها ويصادرون رزق الفلاحين )[6]. وقد استولى المماليك على غالبية الأراضي المصرية وفق نظام الاقطاع العسكري وأصبح الفلاح أداة زراعية عليه مسخرة ، وعليه أن يدفع من قوته الضئيل الضرائب والمغارم والمصادرات ،ومُنع بعد ذلك من الفرار من قريته ،وأعيد كثير من الفارين للأرض بعد توقيع العقوبات الصارمة عليهم . بالاضافة الى هذا ، قاسى الفلاح من تسلط العُربان ( الأعراب ) عليه يسلبون وينهبون ويقتلون ، فأصبحت القرى المصرية ميدانا للقتال بين قوات المماليك والعربان ( الأعراب ) . وفي مصائب المجاعات وانخفاض النيل تدخلت السلطات لنجدة القاهريين وأرباب الخوانق والزوايا بينما ترك الفلاح في قريته بعيدا مع المجاعات فهلك معظم الفلاحين !!..[7]
2 ـــ وبعد هذا العرض السريع للفلاح المصري في العصر نحاول أن نكشف علاقته بالصوفية من خلال كتابات الشعراني.
ويؤسفنا هنا أنه مع اعترافه بسوء حال الفلاحين في عصره فإنه لم يتخذ موقفا حاسما كعادته بالنسبة لأكل الصوفية في عصره لأموالهم يقول مثلا:ــ (ولا ينبغي للشيخ ان يأكل من ضيافة فلاحي الوقف لضيق حالهم وماهم فيه من المغارم ، وليس على الشيخ لوم في ردها ، إذا جاءت فإنها خاصة به في العادة )[8]. والحقيقة أن الصوفية خصوصا في أواخر العصر تطفلوا على الفلاحين فى الارياف ، وأرهقوهم بزيارات للقرى على منوال زيارات المماليك ، وإن كانت زيارات المماليك بسيف القوة فإن زيارات الصوفية كانت تتم (بسيف الحياء ) كما يقولون . وقد ذكر الشعراني أن أصحاب الطرق البرهامية كانت تنزل الريف [9] ، وان أبا العباس الحريثي سار إلى الغربية فسار معه مائة من أتباعه بسبب كرم الفلاحين هناك وكانوا يقدمونه له ولهم من الدجاج والغنم . وحدث أن سافر مره الى البلاد الشرقية بأصحابه فأطعموه الشعير والفول الأخضر والدبس فتفرق عنه اتباعه [10].
3 ــ وكانت للصوفية حيلهم في أكل مال الفلاحين . فكان لكل شيخ صوفى أتباع في القرى ( يدعون ان أهل قريتهم في انتظاره ويصحبونه في الولائم ويهونون الأمر على الفلاح) صاحب الضيافة بقولهم (حصلت لك البركة بأكل سيدي الشيخ عندك )[11].
وكان من طقوسهم عند دخول الصوفية بلدا أنهم ينخرطون في الذكر بصوت مرتفع ليتلقاهم الفلاحون ويتعاونوا في ضيافتهم وفي إعطائهم الفتوح ( أي الهدايا) للشيخ وأصحابه وخدمه ، وعلف دوابه) . هذا ما يذكره الفقيه ابن الحاج ، الذى يسجل أيضا أن بعض الفلاحين كان يهرب من قريته عند قدوم ( الغزو الصوفى ) لعجزه عن القيام بالضيافة فلا يرحمه الصوفية بل يدخلون بيته في غيبته وينهبون ما به [12].
4 ــ واعتقد الفلاحون في بعض الصوفية فكانوا يقومون بزيارتهم في القاهرة حاملين معهم للشيخ ما لذ وطاب . وربما يرد الشيخ هدية الفلاح اذا استقلها [13]. ومع ان الشعراني اعتبر الأكل عند الفلاحين حراما [14] إلا انه افتخر بكثرة الفلاحين المعتقدين فيه [15]وقد أباح للمتصوفة ان يستضيفهم القادرون اذا سافروا إلى بلاد الريف [16]..
5 ــ ولكن : هـــل رد المتصوفة إحسان الفلاحين لهم .؟؟
ان الاحتقار هو أنسب ما يعبر عنه شعور المتصوفة تجاه الفلاحين ..فالشعراني عدّ من منن الله عليه ان هاجر من بلاد الريف الى القاهرة ، ونقله من أرض الجفاء والجهل والفقر إلى اللطف والعلم )[17] وقال ان العهود اخذت عليه ( الا ننكر انسابنا إلى أبينا أو أهلنا إذا رفع الله قدرنا ولو كان من أراذل الناس، كفلاح وحجام وكنّاس) ، فجعل الفلاح من أراذل الناس . ولا شك أنه يعبر عن عصره ونظرته للفلاح المصرى . وكان خليقا به أن يرتفع عن هذا لأنه أصلا من الريف المصرى وأعرف بمعاناة أهله ، ولكنه لم يفعل ، بل ان لهجته في نصح الفلاحين يبدو فيها الاستعلاء بالمقارنة بالتجار ، فيجعل ــ مثلا من العهود عليه أن (يرغّب الفلاحين وأهل الغيط في الزرع وغرس الأشجار ، وأن يبين لتارك الصلاة من الفلاحين والعوام وسائر الجهال ما جاء فى فضل الصلاة )[18]
وحين هاجم خصومه المنافسين له من الشيوخ الصوفية وصفهم بأن (الفلاحين احسن حالا منهم )[19]. وهكذا لم يجد في الفلاح إلا ممثلا لأراذل الناس واجهلهم وأسوئهم . وقد شاركه في ذلك الشيخ يوسف العجمي الصوفي الذي كان يتفنن في إذلال مريده ، فكان (يأمره بأن يلبس لبس فلاح ويدخل الزاوية فيفعل )[20]..
[1]ــ البحر المورود 233 ، 237
[2]ــ البحر المورود 116 : 117
[3]ــ ردع الفقراء 15
[4]ــ المدخل 4 / 8
[5]ــ عبد الباسط بن خليل الروض الباسم .. مخطوط 3 / 171 حوادث 872
[6]ــ الروض الباسم .. نفس المرجع 4 / 98 : 100 حوادث 873 حوادث الدهور 710 : 712
[7]ــ المقريزى : إغاثة الأمة بكشف الغمة : 74 : 75
[8]ــ البحر المورود 333
[9]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 99 : 100
[10]ــ لطائف المنن 511 : 512
[11]ــ ردع الفقراء للشعرانى صــ11
[12]ــ المدخل 2 / 204
[13]ــ لطائف المنن 176 ، المنن الصغرى مخطوط 50
[14]ــ لطائف المنن 249
[15]ــ لواقح الأنوار 193
[16]ــ البحر المورود 53
[17]ــ لطائف المنن 6 ، 43
[18]ــ لواقح الأنوار 28 ، 194
[19]ــ رسالة في مدعى الولاية 3 ، 6
[20]ــ لطائف المنن 391