عن أثر التصوف في الموسيقى فى العصر المملوكى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٣ - يوليو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

عن أثر التصوف في الموسيقى فى العصر المملوكى

كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

أثر التصوف في الموسيقى فى العصر المملوكى

 مدخل :

1 ـ سبق التعرض لأثر التصوف فى الغناء والرقص فى الجزء الثانى ( العبادات ) من كتاب ( أثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية ) فى موضوع ( الذكر ) كما تعرضنا للأثر الصوفى فى الرقص فى الجزء الثالث من نفس الكتاب عن ( إنعكاسات للإنحلال الخلقى ). ولذا لا داعى لتكرار ما سبق ، ونكتفى هنا بما لم يسبق التعرض له ، وهو اثر التصوف فى الموسيقى .  

2 ـ ونعطى لمحة عن أشهر  الصوفية في الغناء والموسيقى :...

شيوخ نظم  الأغا نى :

1 ـ بعض الشيوخ أوتى موهبة التأليف الموسيقى والغنائى ، ومنهم الشيخ ( على وفا ) شيخ الطريقة الوفائية الشاذلية ،الذى ( رتّب لأصحابه اذكارا بتلاحين مطبوعة تستميل بها قلوب السامعين ) [1]  .

2 ـ وقد اتخذت قصائد المديح الصوفية مادة ينشدها المداحون في المحافل الدينية وحفلات السماع . واشتهر الشاعر المداح شهاب الدين السنهوري الضرير بأغاني مديح شهيرة جرت على ألسنة المداحين . وعلى مثال ( على وفا ) نظم عبدالغفار بن نوح شعر اللحن لينشد في حلقات الصوفية  . ومارس بعض شعراء الصوفية الانشاد بنفسه مثل حمزة الاسنوى الواعظ الذي( تغانى النظم ومدح وهو من ذوى الأصوات الطيبة ، وكلما طال غناؤه جاد صوته ) [2].

شيوخ الغناء ( الطرب ) و الــعــــزف : .. 

1 ـ كان أكثر مطربو الصوفية من الوعاظ والمداحين، واستعمل اللقبان للدلالة على المطرب،  وفي مناقب الحنفي يتكرر فى صفحات : 174 302،  482 ، أنه بعد اختتام الميعاد يبتدىء المادح أي الواعظ فى الكلام ، ويتلقى النقوط الجزيل من الحاضرين، وأن الشيخ الحنفى إذا فرغ من إلقاء ميعاده أو ندوته يقوم الوعاظ ( أو المداحون ) فى المديح والانشاد.    ويقول السبكي فى كتابه ( معيد النعم : 145 ) :(وينبغي على المنشد أن يذكر من الأشعار ما هو واضح اللفظ صحيح المعنى ، مشتملا على مدائح النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذكر الله وآلائه وعظمته وذكر الموت وما بعده )

2 ــ وأضيف للواعظ المنشد المداح لقب المطرب ، فكان ابن حلة منشدا مطربا واعظا مادحا ومن مشاهير الوعاظ  على حد قول ابن اياس ( 2 / 242، ط بولاق )  ، وكان ابن العينولى مطربا واعظا بالجامع الأزهر كما يقول المقريزى فى المقفى ( مخطوط 4 / 21 )  ، وكان أبو الفداء مطربا ( واعظا مادحا حسن الصوت جيد الغناء) ( تاريخ ابن اياس : 2 / 218 ط بولاق ). واشتهر الواعظ عبدالقادر الوفائي الشاذلى بحُسن الصوت والنغمة (حتى يضرب بحُسن صوت المثل ، مع ذكره بذلك غربا وشرقا )، على حد قول المؤرخ ابى المحاسن فى ( حوادث الدهور 3 / 729 ، وابن الصيرفى فى ( إنباء الهصر 87 ، 68 ) . وذكر الشعرانى  فى ( الطبقات الكبرى) أن الشيخ عبدالعال المجذوب كان (يمدح النبي عليه السلام فيُبكى الناس ، وكان يطوف القرى ويرجع الى مصر ) [3]...

3 ـ واشتهر صوفية آخرون بالغناء مثل ركن الدين الأربيلي شيخ رباط علاء الدين و( كان حسن الصوت ) ( تاريخ الجزرى : مخطوط : 2 / 79 )، وجمع بعضهم بين الغناء و ( الخلاعة ) مثل الشيخ زوين الصوفي الذى كان (حسن الغناء والخلاعة )، وهذا وصف المؤرخ ابن الفرات له ( تاريخ ابن الفرات : 9 / 2 /  356 ) . وبرع محمد برقوق التونسي في الغناء والانشاد ( وله شهرة طائلة)( تاريخ ابن اياس 2 / 128 ط بولاق ) ، ويصف المؤرخ ابو المحاس الشيخ الصوفى سليمان المادح، أنه كان  (ذا صوت شجي طروب يروح النفوس) [4]وقال المؤرخ المحدث ابن حجر عن الشيخ عبدالله المارداني أنه نشأ (مع قراء الجوق وله صوت مطرب ) ( إنباء الغمر : 2 / 368 .  ويذكر المقريزى فى تاريخه ( السلوك : 3 / 2 / 576 ) أنه اتفق في سنة 790 موت  خمسة من مشهوري المطربين الصوفية لم يخلفهم مثلهم في فنهم وهم سليمان المادح وابن الجمّال وأخوه خليل المشبب، وابن الشاطر رئيس المؤذنين بالجامع الأزهر وإسماعيل الوجيجانى )  .

4 ــ وكان بعضهم عازفا مطربا مثل الواعظ ابن القرداح الذي مدحه السخاوى فى تاريخ ( الضوء اللامع : 2 / 142 : 143 ) بأنه (انتهى اليه حُسن الانشاد في زمانه، حسن الوجه والكلام ورخامة الصوت وله اليد الطولى في الضرب بالعود والبراعة في الضرب بالسنطير ) ، وقليلا ما كان السخاوى يمدح أحدا.!!. وكان للشيخ الكومي علّامة في ضرب العود وفي فن الموسيقا في زمنه ، طبقا لما قاله ابن اياس ( تاريخ ابن اياس 1 / 2 / 301 ) . وانتهت الرئاسة في الضرب بالعود  للشيخ الصوفى ابن باباي أحد ندماء السلطان فرج والسلطان المؤيد شيخ ). هذا ما ذكره المقريزى فى السلوك( 4 / 1 / 476 ) وأبو المحاسن فى النجوم الزاهرة : 14 / 151 : 152 ).

شيوخ الفنون الموسيقية .

1ــ إشتهر شيوخ صوفية بمعرفة الموسيقى، فالسيواسى (كان علّامة في الفقه والتصوف والموسيقى ودرّس بالمنصورية والشيخونية ) ( 444)  ، أى جمع العلم بالمتناقضات ( الفقه السنى والموسيقى ).

وقال المؤرخ العينى عن ابن شرنكار الحنفى إنه كان فاضلا في علم الموسيقى) [5]وكان الشيخ عارف العجمى أحد الصوفية بالخانقاة البيبرسية ( عارفا بالموسيقى وانتهت اليه الرئاسة في ذلك ) [6]وكان ابن عرب شاة ( يدري بالموسيقى ويقرأ في الترب) [7]، أى يستخدم موهبته الموسيقية فى التلاوة على القبور . وقال المؤرخ السخاوى إنه : ( لم يُر بعد الشيخ حيدر وأخيه من يدانيهما في الموسيقى  )[8]  ولم يمنع إنشغال الشيخ شمس الدين الادفوى بالعلم والعبادة عن علمه بالموسيقى إذ ( كان يدري الموسيقى )على حد قول المؤرخ ابن حجر فى تاريخه ( الدرر الكامنة ) [9]، ويقول المؤرخ ابو المحاسن أنه كان لأبي عبد الله الحمصى (  يد  في علم الموسيقى ) [10].

2 ــ وألف بعض الصوفية في علم الموسيقى مثل شرف الدين الصوفي المصري (وكانت له يد طولى في الموسيقى ، وله تصانيف في ذلك مشهورة ، منها نوتة الدوكاة : "وغيرى يغيره  البُعاد الجافي." ) [11]أى ألّف قطعة موسيقية مشهورة بهذا العنوان . ويقول الصيرفى أن ابن تغرى بردي أخذ علم النعمات والموسيقى وادوار صفي الدين عبد المؤمن عن الشيخ الامام فتح الدين العجمي وعن غيره،  وذكر له ( كتاب في الرياض والموسيقى) [12]. وانتهت الرئاسة في الموسيقى والالحان للشيخ حيدر الرومى الحنفى( وصنف فيهما مع الديانة والعبادة ) [13]  ، أى كان موسيقيا ملحنا متدينا متعبدا .! وللصوفي الشهير أبو المواهب الشاذلي مؤلف في حل سماع العود ) [14]..

3 ــ وكان من الصوفية من ألف في الموسيقى مع موهبته في الشعر أو العزف مثل الشيخ شمس الدين المغازي الذي ( انتهت إليه الرئاسة في ضرب العود والموسيقى وهو صاحب التصانيف الهائلة في الموسيقى ) [15]وكان للشيخ شمس الدين البرهان ( نظم ونثر ويدري بالموسيقى وكان ينظم الشعر بالإيقاع على الضروب المختلفة يغني به المغنون ، وكان أيضا يلعب بالقانون . وقد رثى مملوكا له بشعر كثير ولحّنه ، فتداوله الناس ) [16]وكان الشيخ شرف الدين الصوفي الواعظ ينظم الشعر وله معرفة بالأنغام والألحان .. ) [17]..

  4 ــ ومن الصوفية المطربين الواعظين من ألّف فى الموسيقى مثل ابن رحاب (المغنى الناشد المادح فريد عصره ، وكان من نوادر الزمان، ينظم الشعر ،ويلحّن الخفائف بألحان غريبة ، وكان أخر مغاني الدكة في الدخول والطرب ، ولم يجيء أحد في الدخول مثله ) [18]، و( الدخول ) هو إفتتاح الأغنية .

وكان إسماعيل الزفتاوي( من المنشدين الذين يماشون الملك في تلك التلحينات ولقد تعانى الأنغام وذاق الفن ووزن الشعر) وألمّ أبوبكر التركستاني نزيل القبة الداودارية) [19](بعلم الموسيقى مع حُسن الصوت ) [20]ومثله في حسن الصوت الشيخ ابن القرداح الذي (صار له جوق ) أى فرقة موسيقية ، ( وحظى عند الملوك والأكابر، وأحسن العزف على بعض آلات الطرب ، وعرف طرفا من الموسيقى والأنغام ) [21].

الشيخ الموسيقار المجهول : إبن كُرّ

1 ــ ونتوقف مع المؤلف الموسيقى المشهور فى عصره : ( إبن كُرّ ). كان هذا الشيخ الصوفى إمام أهل عصره في الموسيقى. ومن خلال ما ذكره عنه المؤرخان ابن حجر وأبو المحاسن ـ وقد عاصراه ـ نعرف أن إبن كُرّ ـ كان شيخا للزاوية التي بجوار المشهد الحسيني ، وشيخا لزاوية أخرى بالقرب من شاطيء الخليج . وقد قرأ فن الموسيقى على الشيخ القاضي علاء الدين التراكيشي وغيره، وتفوق ابن كُرّ على أقرانه فى علم الموسيقى ،  وصنّف فيه تصنيفا بديعا سماه (غاية المطلوب في فن الانغام والضروب) .

2 ــ يقول المؤرخ أبوالمحاسن ابن تغرى بردى : (سمغت مقدمته منه بمنزله فى الزاوية الذكور في شوال سنة 745 ، وقال: " ظهر لي خطأ جماعة من المتقدمين في هذا الفن مثل الفارابي وغيره وقد برهنت ذلك."). ويقول أبوالمحاسن عن فقهاء عصره الرافضين للموسيقى : (وعلماء عصرنا يستعيبون هذا الفن لعدم معرفتهم به ، وظنهم ان هذا الفن ليس هو غير ما يقوله العامة من الغناء والطرب . وليس هو كذلك . وإنما هو علم مستقل بذاته مشتق من العروض ، وفيه أراجيز ومصنفات نظم ونثر . وهو فن صعب إلى الغاية ، ولا يصل إليه إلا من له قوة في عصبه ، مع معقول جيد وذكاء وحُسن صوت . ومن الأراجيز في هذا العلم قول بعضهم :

 أصل الضرب على أربع انقسم وانحسب  فاصلة ومنفصلة والوتد والسبب

وأما علم النغمة فهو بحر لا قرار له . ) .

3 ــ ثم يعود المؤرخ أبو المحاسن ليقول عن الموسيقار ( إبن كُرّ) : ( وان ابن كُرّ هذا كان لا يمرّ به صوت مما ذكره أبوالفرج الاصفهاني في الأغاني إلا ويجي به ويجيده .) ومعروف أن أبا الفرج الأصفهانى ( 284 : 356 ) فى كتابه المشهور ( الأغانى ) كان يذكر الألحان للقصائد المُغنّاه المشهورة فى عصره العباسى . ونرجع الى أبى المحاسن وهو يقول عن إبن كُرّ يمدحه : ( وكان فيه شمم وعفاف ، لم يتخذ صناعة الموسيقى إسترزاقا ، بل فكاهة يروّح بها نفسه ) . أى كان مع علمه بالموسيقا هاويا لها وليس محترفا بها. ويقول عنه الفقيه قاضى القضاة المؤرخ ابن حجر: ( وقد رآه أحدهم غنّى فأضحك ثم غنى فأبكى ثم غنى فنوّم ، يقول : فرأيت بعيني ما كنت سمعت بأذني عن الفارابي . وقال أخر مر ابن كر على قوم يُغنُّون فحرك بغلته حتى مشت على إيقاعهم )[22].

4 ــ ومن أسف أن هذه الشخصية الموسيقية الفذّة لا يعلم بها أحد فى عصرنا ، والكتاب الذى صنّفه فى علم الموسيقى لم أعثر عليه فى المخطوطات . ويا حبذا لو إهتم بهذا الموسيقار ( الشيخ إبن كُرّ ) بعض الباحثين فى تاريخ الموسيقى ، ومن يفهم فى مصطلحات الموسيقى فى العصر المملوكى ، وأعترف بجهلى فى هذه المصطلحات حتى ما ذكره أبو الفرج الأصفهانى منها فى العصر العباسى . ويكفينا أننا أمطنا اللثام عن هذه العبقرية الموسيقية المجهولة .



[1]
ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 352

[2]ــ الضوء اللامع 3ر 165

[3]ــ     الطبقات الكبرى للشعرانى 2ر 160

 

[4]ــ شذرات الذهب 7 / 298 : 299

  

[5]ــ  عقد الجمان : مخطوط : وفيات 821 لوحة 471

[6]ــ  ابن حجر : إنباء الغمر : 1 / 184

[7]ــ ابن حجر : الدرر الكامنة 2 / 302

[8]ــ الضوء اللامع 3 / 105

[9]ــ الدرر الكامنة 2 / 302

 

[10]ــ المنهل الصافي 5 / 243

[11]ــ  المنهل الصافى 4 / 300

[12]ــ إنباء الهصر : 176 : 177 ، 178

 

[13]ــ  الضوء اللامع 3 / 119 ، المنهل الصافى لأبى المحاسن 3 / 105

[14]ــ شذرات الذهب 7ر336

[15]ــ النجوم الزاهرة 11ر 220 ، 221

[16]ــ المنهل الصافي 5ر 114

[17]ــ تاريخ الجزرى 1ر353 مخطوط

[18]ــ تاريخ ابن اياس 2ر 368 طـ بولاق

[19]ــ الضوء اللامع 2ر300

[20]ــ الضوء اللامع 3ر 138 : 139

[21]ــ المنهل الصافى 1ر279 : 280 ، شذرات الذهب 7ر238

[22]ــ أبو المحاسن المنهل مخطوط 5ر149 ، 150 ، النجوم الزاهرة 10 ر 230 ، 231، ابن حجر الدرر الكامنة 4ر128

اجمالي القراءات 883