عن أثر التصوف في الشعر في العصر المملوكي : في الأسلوب والمسار : ـــ
كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )
عن أثر التصوف في الشعر في العصر المملوكي : في الأسلوب والمسار
1 ــ لبعض الباحثين رأي طيب في الشعر الصوفي [1] وهو رأي صحيح في بعض نواحيه .
ومع تحفظنا الدينى على مدائح البوصيرى إلّا أننا نقول من وجهة نظر أدبية نقدية أنها تحوى الصدق في المشاعر ، وهذا عكس الاسفاف فى بقية شعره . ومثله ابن برشق المادح يقول فيه ابن حجر "وكانت مدائحه في الأعيان سافلة وفي المدائح النبوية في الأوج ) [2] .فالمنهج العلمي لا يناسبه التعميم في الأحكام ، فقد كان من الصوفية من نظم في الحب الإلهي بأسلوب علمي ولغة دارجه يقول ابن حجر عن ابن البصيص " وكان ينظم نظما عاريا من الاعراب على طريق الصوفية ) [3] ، فالرأي الأقرب للصواب أن كل شاعر صوفي تأثر بمدى ثقافته وموهبته ، واذا كان الشعر الصوفي معبرا عن كل صوفي فإن التصوف نفسه ككل قد أثر على أسلوب الشعر المملوكي ومساره ، فكان ــ خصوصا في أواخر العصر وسيادة التصوف ــ كما قال أحد الباحثين ( تقليدا لا استقلال فيه وصدى لا حياة فيه وصورة معكوسة في الأيام الخالية وأجدر به اذا كان كذلك الا ان يكون فيه ابتكار ولا تجديد )[4] .
2 ــ وشاع التضمين الشعرى فى العصر المملوكى :
، والتضمين هو أن يدخل الشاعر في أبيانه بيتاً (أو أبياناً) مشهورة، وكأنه يستشهد بها، وعادة ما يضع ما ضمّن بين قوسين، كما أنه قد يضمن شعره الأمثال أو الحكم السائرة ليعطيه رونقاً وقوة وفق تصوره . ولكن هذا التضمين فى العصر المملوكى كان يعكس التقليد فى الحياة العلمية التى صارت ترديدا لما سبق وشرحا له وتلخيصا للشرح . أى عاش العصر المملوكى عالة على التراث العباسى فى الفقه والحديث والتفسير والتصوف ..وفى الشعر ايضا ، بل كانوا يضعون ما يقتبسونه من السابقين فى شعرهم دون مراعاة للتناسق فى المعنى أو وحدة الموضوع ، لأن الذى غلب عليهم هو التناسق اللفظى بين شعرهم و ما يضاهيه لفظا وقافية من أقوال السابقين أو من القرآن الكريم . والتعمق فى هذا الموضوع يخرج عن المنهج ، لذا نكتفى بالاشارة الى ديوان ابن نباته ( 686 : 768 ) ونعطى أمثلة : صفحات 392 ، 425 ، 462 ، 476 ، 477 . ولا بد من التأكيد على أن هذا التضمين فى الشعر يعكس الحالة الثقافية المتردية فى العصر المملوكى الذى عاش عالة على الانتاج الثقافى للعصر العباسى ، يقوم بشرحها وتلخيصها ثم شرح التلخيص وهكذا . هذا نوع من ( التضمين ) الشعرى لا يفترق كثيرا عن هذا . خصوصا إذا كان التضمين إقتباسا من فقرات من الشعر المشهور المحفوظ ، سواء كان جاهليا من المعلقات أو من العصرين الأموى والعباسى . وإذا كان شرح مؤلفات السابقين وتلخيص شرحها لم يأت بجديد سوى التقليد والجمود وضياع الوقت والمجهود فإن التضمين كان أسوأ وأضل سبيلا ، فما يقوله الشاعر فى العصر المملوكى أقل مما يقتبسه من جملة شعرية من العصور السابقة . لذا قام بعضهم بالتحايل على هذا النقص بما يمكن أن نسميه ب ( الفهلوة المصرية ) أى الاستظراف والاستخفاف .
3 ـ وأظهر الشعر المملوكى روعة الشخصية المصرية الساخرة الظريفة ، وننصح هنا بمراجعة ديوان ( البهاء زهير ) ، وكان اسلوب التورية أبرز مناحى السخرية الظريفة ، والتورية هى ذكر لفظ له معنيان أحدهما قريب غير مقصود والآخر بعيد مقصود . وهنا تكون الروعة . ومنها قول الشاعر ابن نباتة المصرى ( ابن نُباتة (686 – 768 هجرية )
أقولُ وقد شنوّا إلى الحربِ غارةً دعوني فإني آكلُ العيشَ بالجبْنِ
الشاهدُ فيه : العيشُ والجبنُ ، فالعيشُ يعني الخبز ويعني الحياة ، والجبنُ يعني المصنوع من اللبن ، ويعني الخوَرُ عكسُ الشجاعةِ.
كما إن بصمات التصوف واضحة في الشعر المصري بوجه عام وقد عدّ احمد امين من خصائص الشعر المصري العناية غالبا بالجناس اللفظي والذوبان في الحب وتسلط النغمة الحزينة )[5] . وتلك آثار صوفية ..
العقائد والتعبيرات الصوفية فى الشعر المملوكى
وقد تردد في الأشعار المملوكية عقائد وتعبيرات التصوف .
ففي ديوان البوصيري: [6]
واختفى منهم على قرب مرآه ومن شدة الظهور الخفاء
والكرامات منهم معجزات حازها عن نوالك الأولياء
وسلام على ضريحك تحصل به منه قربة وغناء .
وله :
توسل به في كل ما انت طالب فكم نلت بالتوسل مطالبا
على أننى ما زلت من بركاته غنيا وفى نعمائه متقلبا
وله
واستمطر البركات من دعواته حيث استقل سحاب راحته الندى
وله
معنى الوجود الذى قام الوجود به وهل بغير المعانى قامت الصور
وله
وما هو إلا كيمياء سعادة ووصفي لتلك الكيمياء شذور
وله:
ولم تفته من الأوراد ناشئة في ليلة قام يحييها ولا سحر
وله :
قرن الوزارة بالولاية فهو في حبل من التقوى ومن إحرام
وفي ديوان الشاب الظريف يقول فى تأليه أبيه الشيخ عفيف الدين التلمسانى [7]
يا حاضرا غابت عشاقه عن كل ماض في الزمان وآت
إلى أن يقول : وأرى الوجود بأسره رجع الصدى وأرى وجودك منشأ الأصوات
وفي ديوان االبهاء زهير : ) [8]
لك في الأرض دعاء سدّ آفاق السماء
يسّر الله للقياك سرور الأولياء
وله يُحاكى أسلوب الاتحاد الصوفى ولكن بطريقته الظريفة الخفيفة :
انا في الحقيقة انتمو وهذا اعتقادي فيكمو
فالحب منى فيّ والاعراض منكمو عنكمو
وفى ديوان ابن نباته )[9]
من له في طريق الزهد حال وفي المشكلات كشف
وله:
يا شيخ اهل العلم والزهد سادات أهل الرفق والرقعة
لي خوفة ضاعت وانت الذي نلبس من عرفانه الخرقة
قد وصف ابن الخيمس سبحة سوداء ) [10]
ويقول ابن كميل )[11]
قلت لما جاءنى صباحا يسئل عيني عن المنامات
يا سائل العين عن كراها صبحت بالخير والكرامات
وظهر أثر علم الحرف الصوفي بالشعر
وهذا في أواخر العصر خاصة وذلك بالتأريخ بحروف الجمل . فنظم الجعبرى قصيدة ذكر فيها الخلفاء كلا منهم بلقب وعمره ومدة خلافته بحروف الجمل )[12]
وقال آخر على سبيل المثال : )[13]
ان الرفاعي امام الاولياء لا ثم كف خير خلق الله
مولده وعمره وموته أرّخه غيبا بشير الله 578
ورقم 578 هو حساب جملة ( بشير الله ) وهو فى نفس الوقت تاريخ وفاة الشيخ الصوفى الرفاعى .
الرمز الصوفى :
ومن ناحية أخرى أدى شيوع الرمز الصوفي الى الجهل وظهور الشعراء الأميين الذين يسترون جهلهم بقول كلام مُبهم غريب ، يزعمونه رمزا صوفيا . ومن هؤلاء الشيخ ابي النجا الفوى الصوفي ، وقد كانت له موشحات غريبة منها (أيها النموس يطلع كاقادوس ملا واندق روس ..... الخ )[14] .
شعراء أميون
وذكر شعراء أميون من غير الصوفية كالأمير بيبرس الفارقاني وابن الربيع الخياط وابن أسد وغيرهم [15]...
أخيرا
الشعر إنعكاس لعصره ، يعبر عن ثقافة عصره والدين الواقعى السائد . والشعر فى العصر المملوكى خير شاهد . غير إن الشعر فى عصور الجاهلية والعصر الأموى والعباسى ( الأول ) كان تأثيره أقوى لأنه كان المُتعة والتسلية ، ووصل فيه الشعراء الى درجة عليا حتى فى الصراع السياسى ، وفى العصرين الأموى والعباسى الأول كان الشعراء نجوم المجتمع ومحل إهتمام المثقفين والخلفاء والحكام ، وجوائزهم المالية عالية . تغير هذا بغياب الحكام العرب وتحكم القواد والحكام غير العرب من الأتراك والدول المستقلة فى إطار الخلافة مثل ( الطولونية / الأخشيدية / البويهية / السلاجقة / الأيوبية ) ولم يتحسن الوضع فى الدولة الفاطمية . وضعف تأثير الشعر فى العصر المملوكى ، حتى إضطر بعض الشعراء الى ترك التكسب بالشعر والعمل فى حرفة أخرى ، وأشهرهم أبو الحسين الجزار ( جمال الدين يحيى بن عبد العظيم ) وهو القائل ـ وما أروعه ـ :
لا تـلمـنـي يـا سيدي شرَفَ الدِّينِ إذا مــا رأَيــتَــنــي قَــصَّاـبـاً
كـيـف لا أشـكـرُ الجزارةَ ما عشتُ حِـــفَـــاظــاً وأَرفــضُ الآدَابــا
وبِهـــا أضـــحَــتِ الكــلابُ تُــرَجِّيني وبالشِّعرِ كنت أرجو الكِلابا
[1]ــ ظهر الإسلام 4 / 237 ، على صافى حسين : ابن الصباغ القوصى 225
[2]ــ الدرر الكامنة 2 / 237
[3]ــ الدرر الكامنة 4 / 377
[4]ــ حمودة : صفحات من عصر السيوطى 135
[5]ــ قاموس العادات والتقاليد 249
[6]ــ ديوان البوصيري 5 ، 28 ، 29 ، 37 : 39 ، 49 ، 38 ، 80 ، 88 ، 100 ، 120
[7]ــ الديوان 76 : 77 وفيها تعبيرات أخرى
[8]ــ الديوان 10 ، 111 ، 87
[9]ــ الديوان 319 ، 329 ، 333 ، 355 ، 370 ، 161
[10]ــ التاريخ مخطوط 2 ــ 340
[11]ــ التبر المسبوك 111
[12]ــ العصر مخطوط 6 ــ 1 ــ 41 : 42
[13]ــ السيوطى : مخطوطة : نزول الرحمة في التحدث بالنعمة : ص 1
[14]ــ الشعرانى الطبقات الصغرى 15
[15]ــ رزق سليم مجلة الرسالة 825 ــ 777 : 778 سنة 17