خفايا التاريخ
المحتسب
لكي تحصل على السلعة بثمن مناسب وبميزان عادل فإن هناك أجهزة حكومية تسهر على ذلك ، منها مفتش التموين وشرطة التموين والمحاكم ، المفتش ممثلا لوزارة التموين والتجارة الداخلية يراقب صلاحية السلعة وتسعيرها والأوزان والمكاييل ، ومعه الشرطة للقبض على من يخفي السلعة أو يحتكرها أو يبيعها بأزيد من التسعيرة ، والمحاكم في انتظار المتهم لكي تحكم عليه بالجزاء المناسب .
هذه المهام كلها كان يقوم بها المحتسب في العصور الوسطي العباسية و المملوكية ، أى كان الشرطة و القاضى و الجلاد فى نفس الوقت ..
فى البداية كانت (الحسبة ) وظيفة تقوم على المبدأ الإسلامي في "الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ، وكان المسلمون في العصر الأول الذهبي يفعلون ذلك احتسابا أي تطوعا لوجه الله تعالى ، ثم صارت فى عصور الاستبداد و الفساد وظيفة ديوانية بأجر وسلطة رسمية ، واحتفظت بنفس الاسم " الحسبة " و " المحتسب " .
ثم توسعت وظيفة المحتسب فلم تعد مقصورة على الأسواق ، بل شملت الشوارع والأزقة والحارات بدعوى محاربة الفساد والمنكرات وفق ميزان الشرع . وبهذا الشعار الجميل كتب المؤلفون من الفقهاء فى وظيفة المحتسب من وجهة نظر حالمة تتحدث عما ينبغى ان يكون ، وتربط الحسبة ـ ليس بالقرآن الكريم ـ ولكن بالحديث الموضوع المشهور الذى لا يزال دستور التطرف ـ وهو حديث : ( من رأى منكم منكرا فليغيره .. ).
ومن هذه الأرضية الفقهية وبالتشابك مع الواقع القائم اساسا على الظلم فقد تحول المحتسب الى سوط عذاب على الضعفاء و وسيلة ارتزاق وفساد ، خصوصا مع سلطة المحتسب المطلقة فى الضبط والاحضار و تقرير العقوبة و تنفيذها حسبما يشاء.
فى العصر المملوكى ـ مثلا ـ كان بإمكان المحتسب معاقبة من يتهمهم بما يراه مناسبا ، وإذا كان المحتسب من الأمراء المماليك فإن سلطته في وظيفته تتناسب مع نفوذه السياسي ، ويبدو ذلك من تاريخ يشبك الجمالي محتسب القاهرة في سلطنة الأشرف قايتباي سنة 873 هـ والذي ظل في هذا المنصب إلى أن عزله قايتباي .
المحتسب يشبك الجمالى فى عصر قايتباى
كان لذلك المحتسب هواية غريبة في تعذيب ضحاياه فيضرب المتهم بنفسه على رأي المؤرخ ابن الصيرفي " ثلاث علقات : واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى على أكتافه ويشهرونه بلا طرطور بل يكشفون رأسه " .
كان التشهير من العقوبات السائدة وقتها بأن يطاف بالضحية في الشوارع ، وكانت تسمي " التجريس " أيضا ، وقد أضاف ذلك المحتسب الظالم عقوبة أخري وهي أن يطاف بالمتهم وهو عاري الرأس ، وكانت عقوبة كشف الرأس من أفظع العقوبات النفسية .
وفي يوم الثلاثاء 16 صفر سنة 875 رفض بائع تين غلبان في القاهرة أن يدفع الرشوة المعهودة لزبانية المحتسب فاحتملوه إلى ذلك الطاغية فضربه الثلاث علقات المعهودة ثم قام بتعليقه عاريا على باب دكانه في هيئة فظيعة ، إذ علقه من زراعه وربط ذراعه الأخرى في ظهره ، ثم لطخ جسده بالعسل وتركه في الشمس فتجمع عليه النحل والذباب .. يقول ابن الصيرفي " فقاسى من العقوبة مالا يوصف " !!
والغريب أن التجار في الأسواق كانوا يبيعون بأزيد من التسعيرة ولكنهم كانوا في أمن من عقاب المحتسب لأنهم كانوا يدفعون الرشوة لأتباع المحتسب الذين تضاعف ثراؤهم ، والأغرب من ذلك أن المحتسب الأحمق لم يكن يعرف بما يدور خلف ظهره .
وفي القرن التاسع الهجرى كان الأشياخ أبرز الأئمة والفقهاء وكانوا يتنافسون على وظائف الدولة المملوكية ومنها القضاء والحسبة وقد تولى المقريزي سنة 801 وظيفة الحسبة ثم عزل عنها .
سيطرة الفساد
وكان التغير في تولى تلك المناصب سريعا بسبب شراء المناصب وتدخل الوساطات وسوء الأحوال وكثرة الفساد ، إلا أن أولئك الفقهاء كانوا أرحم حالا من أغلبية الأمراء المماليك الذين تولوا منصب الحسبة ، والمقريزي يذكر في تاريخه أنه عزل نفسه من الحسبة سنة 802 لرفضه بيع القمح بأزيد من التسعيرة ، وجدير بالذكر أن وظيفة الحسبة ألقت بظلالها على نوعية التأريخ في " السلوك " للمقريزي فكان أكثر اهتماما بالنواحي الاقتصادية وتقلبات الأسعار وآثار المظالم المملوكية في نشر الكساد وتراجع الإنتاج ، كما أن معاناته من ظلم الناصر فرج وغيره من السلاطين جعله أكثر حدة في انتقاد المماليك وأكثر شفقة بالطبقات الشعبية ، والطريف أنه يذكر دائما سنة 806 على أنها بداية الانهيار الاقتصادي للدولة المملوكية ، وقد تولى الحسبة خمسة في ذلك العام وحده !!
فالأمير " منكلي بغا" ولاه السلطان المؤيد شيخ الحسبة بسبب تدينه وأعطاه لقب فقيه ، واشتهر منكلي بغا بمحاربة الفساد وتطهير الشوارع من الفواحش ، ومثله كان الأمير المملوكي " دولات خجا " الذي ولاه السلطان برسباي سنة 841 ، وقد طارد المفسدين حتى قالوا فيه " راحت دولة عمر " ابن الخطاب " وجت دولة خجا " .. وكلاهما كان تركيزه على الجانب الخلقي في وظيفة المحتسب .
وكان هناك صراع بين الفقهاء والأمراء المماليك حول منصب المحتسب ، كان الفقهاء يحتكرون منصب القضاء، كما كان الأمراء المماليك يحتكرون المناصب العسكرية ، على أن منصب المحتسب كان يجمع بين سلطات القضاء والعقوبات ، وبدأت الدولة المملوكية في تقليد منصب الحسبة لبعض المماليك المشهورين بالتدين والذين لهم إلمام بعلوم الفقه .
كان الفقهاء يرون – ومعهم الحق – أن المحتسب وظيفة تخص العلماء مثل القضاء والتدريس والإفتاء .. خصوصا أنها وظيفة دينية مدنية أسهم العلماء السابقون في تقعيدها والتصنيف فيها ، فكتب عنها " أبو حامد الغزالي " في " الأحياء " وكتب عنها " الماوردي " في " الأحكام السلطانية " وتعرض لها " القلقشندى " في " صبح الأعشى " و " النويري " في " نهاية الأرب "
على أن التقعيدات التي وضعها الفقهاء فيما ينبغي أن يكون عليه المحتسب لم تكن تنفذ ، ذلك أن وظيفة الحسبة كانت مثل غيرها من الوظائف تستجيب لما يحدث في المجتمع من تغيرات سياسية واجتماعية ..
ولذلك فإن التدهور الذي ساد في أواخر العصر المملوكي انعكس على الأداء الوظيفي لأرباب القلم والسيف معا ، كان تعيين الوظائف بالرشاوى والوساطات ، وكان فساد الحكم ينعكس على كل شيء . ولذلك كان المؤرخ ابن الصيرفي يتحسر عى عصرشيخيه ابن حجر والمقريزى في الربع الأول من القرن التاسع ، بينما كان المقريزي يتحسر على زمن شيخه ابن خلدون .. وهكذا كانت الأحوال تسير من سيء إلى أسوأ،إلى أن سقطت الدولة المملوكية صريعة أمام العثمانيين ، وفي ذلك الوقت كانت السلطات مركزه في يد المحتسب الزيني بركات الذي كان مجرد صبي من تابعي المحتسب الأحمق يشبك الجمالي .. وكان المؤرخ المصري ابن إياس الذي عاصر الغزو العثماني لمصر يتحدث عن الزيني بركات كما لو كان الحاكم الفعلي للقاهرة .. وقد استمر الزيني بركات في سلطانه حتى سنة 922 عندما سقطت الدولة المملوكية .
لقد كانت وظيفة الحسبة هي الميزان الحساس الذي يبين عدالة الدولة أو فسادها ، كما كانت أكثر الوظائف اتصالا بالناس واحتكاكا بهم وتأثيرا عليهم ، وكم كنا نود من المقريزي أن يكتب لنا يومياته حين عمل محتسبا لنعايش أكثر نبض الواقع المصري في عهده في الشارع وفي السوق .