معاقبة المبدع

آية محمد في الأحد ٠٩ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ عامين أو أكثر، قرأت رواية أمريكية لكاتب أمريكي، عنوانها "شفرة دافنشي"، وطبعا الرواية شبه معروفة للغالبية بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي والذي خرج إلى النور العام الماضي. الرواية أكثر من رائعة من الناحية الأدبية والحبكة الدرامية، وللكاتب رواية أخري سبقت رائعته "شفرة دافنشي" ويجهلها الغالبية وعنوانها "ملائكة وشياطين". و"ملائكة وشياطين" في روعتها تفوق روعة "شفرة دافنشي" وإن لم تحظى بنفس الشهرة وذلك لأنها لم تتحول إلى فيلم سينمائي وبقيت محفوظة داخل ك&Ecicirc;اب. "ملائكة وشياطين" هي الجزء الأول لشفرة دافنشي وتتحدث عن الكنيسة الكاثوليكية وسيطرتها الخفية على العالم، وكيفية استخدامها للمسلمين (خاصة) كدمي خشبية لتدمير العالم تحت مسمى الإرهاب الإسلامي، وتبقى الكنيسة في الآمان تدمر في الخفاء. ثم جاء "شفرة دافنشي" الجزء الثاني من "ملائكة وشياطين" ليتناول المسيح عليه السلام وإن كان إله أم بشر مثلنا؛ فيذهب نفس بطل الرواية الأولى إلى فرنسا وإنجلترا في رحلة للبحث عن سلالة المسيح بعد أن كان في الرواية الأولى داخل أسوار الفاتيكان في رحلة للبحث عن أسرار الكنيسة . هكذا تكلم الكاتب الأمريكي وهكذا خرجت روايته إلى النور.

ليس دان بروان أول من تعدى على الثوابت الدينية المسيحية وكتب عن الكنيسة الكاثوليكية وإنسانية المسيح، وليس أول من تخطى الخطوط الحمراء وأطلق العنان لعقله وإبداعه ليظهر معلومات قد تحتمل الصواب أو الخطأ، وإنما سبقه إلى ذلك الكاتب الأمريكي هنري لينكولن في الثمانينات من القرن الماضي بروايته "الكأس المقدس، الدم المقدس". وفي تلك الرواية خرج الكاتب عن المألوف أيضاً وضرب بالثوابت الدينية المسيحية عرض الحائط وقدم لجمهور العقول الحرة فكرة أن الكأس المقدس لا تعني الكأس التي شرب منها المسيح قبل "صلبه" ولكن تعني الكأس التي وضع فيها المسيح بذرة سلالته؛ ورحلة البحث عن الكأس المقدس لم تكن إلا رحلة للبحث عن نسل المسيح عليه السلام، وأن حراس المعبد هم من صانوا هذا السر بالرغم من مطاردة الكنيسة لهم وتعذيبهم وقتلهم في القرون الوسطى. وهذه الفكرة المجنونة تعتبر هرطقة وتجديف في المسيحية، وتدمير للعقيدة المسيحية من جذورها، ومع ذلك لم نجد من يمنع الكتاب أو يحرقه أو يرفع على الكاتب قضية حسبه للتفريق بينه وبين زوجه أو إباحة دمه لتفريقه عن الدنيا كلها. لم نجد من يرفض كتاباته أو يحذره بحجة إنه تعدى على الثوابت الدينية. وفي الحقيقة قد سبق الكاتبين في إبداعهم - أو تجديفهم إن شئتم تسميتها - الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس بروايته "الإغواء الأخير للمسيح" والتي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1988. وقد كان فيلما مثيرا جدا للجدل حيث أظهر وجود علاقة جنسية بين المسيح ومريم الماجدلية. ويشيرالفيلم إلى إنجيل مريم الماجدلية الغير معترف به من الكنيسة، ويروج لفكرة إنها كانت زوجه للمسيح عليه السلام وإنها هي الكأس المقدس التي كانوا يبحثون عنها.

الروايات الأربع والفيلمان كانوا بمثابة طعنات متتابعة في جسد الكنيسة الكاثوليكية والتي وقفت شامخة متعالية لا يضيرها من يعوي من حولها. فلم نسمع عن خطابات شجب وصراخ من رجال الكنيسة، لم نسمع عن دعوات قتل ونحر وإباحة دماء في مقابل حفنة من الدولارات لمن يأتي برأس الزنديق دان براون، لم نسمع أن سكان روما ودابلن ومدريد خرجوا في مظاهرات يحرقون فيها السيارات الخاصة ويهشمون أوجه المحلات والدكاكين الخاصة والعامة، لم نسمع عن حرق السفارة الأمريكية والعلم الأمريكي في شوارع المدن الكاثوليكية إنتقاماً لـ"الرب" الذي أهانه كاتب أمريكي يساوي الكثير في سوق الكُتاب. ولكن الكنيسة والمخلصين من الكاثوليك كانت لهم طريقتهم في الرد تتناسب مع المجتمع الإبداعي الراقي الذي ينعمون فيه. لقد قامت الكنيسة قبل عرض فيلم "دافنشي كود" وبحوالي شهر بتسجيل برنامج عن المسيح عليه السلام وعن رواية دافنشي كود وتم عرضه على مساحات واسعة وفى أوقات متفرقة على قناة ديسكفري. وهو البرنامج الذي قام بشبه تدمير للفيلم قبل ظهوره. وقد نجح البرنامج في سحق الفيلم وتكذيب فكرته بدون إستخدام العنف أو الحرق أو النسف أو التكفير كما يفعل إخواننا المسلمون. وكان هناك مبدعا آخر قرر أن يعطي للمسيح حقه من خلال إبداع فني ليجاهد بطريقته المتحضرة في تدعيم ثوابته الدينية بطريقة تناسب المجتمع الراقي الذي يعيش فيه. وهذا المبدع هو المخرج والممثل ميل جيبسون والذي قام بإنتاج وإخراج فيلم "آلام المسيح" ليكون بمثابة جهاداً فنياً من جانبه يكرم فيه مسيحه من وجهة نظره.

هذا هو الإبداع الغربي والحرية التي تعطي الحق لكل شخص أن يقول ما لديه وتعطي للآخر حق أن يرد عليه بنفس الوسيلة ونفس الأسلوب المتحضر والنصر لمن يستطيع التأثير على العقول بعلمه ومعرفته. ونلاحظ أن في حربهم الفكرية لا مجال للعنف أو الهمجية أو التدمير أو سفك دماء. دان براون وغيره قدموا إبداعاتهم التي تخالف الثوابت الدينية المسيحية، فقامت الكنيسة وأتباعها بدورهم في الجهاد المقدس وبدون صراخ أو توعد أو تهديد، بل بنفس طريقة دان براون، قام هذا بعمل فني ليهدم الثوابت، فقام الآخر بعمل أقوى منه يدعم الثوابت، وهكذا تزدهر العقول وترتقي الأخلاق ويعم الأمن والآمان ويحترم كل إنسان حق الآخر في التعبير عن الرأي والإيمان. أما نحن، فنقاوم العمل الفني الإبداعي الذي نظن إنه يمس الثوابت الدينية، بالتهديد والتنكيل والحسبة وتهمة ازدراء الأديان. وطبعا أي إنسان متحضر سيفضل الطريقة الغربية في التعامل مع المخالف وهذا ليس حبا في الحضارة الغربية الليبرالية ولكنه إتباعا لأوامر الله سبحانه وتعالى التي أمر بها المسلمين، الأوامر التي هجروها بحثا عن الهمجية والتخلف، إنها سنة الله ورسوله التي تخلوا عنها بعد أن إتبعوا فقهاء الظلام وشيوخ الجهل بالرغم من أن الله أعطانا كتابا مفصلا وحذرنا من الإتباع والإنسياق. يقول تعالى في سورة البقرة آية 194 "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، ويقول تعالى في سورة النحل آية 126: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ"، فهل اعتدينا نحن على من اعتدى علينا بالمثل، أم إننا أطلقنا العنان لحقدنا فاعتدينا على أنفسنا؟ هل عاقبنا المعتدين بمثل ما عاقبونا، أم إننا أنسقنا خلف شياطين الإنس المتأسلمة؟ ألم تتبع الكنيسة المسيحية أوامر الله التي أمر بها المسلمين في قرآنهم في حين تجاهلها المسلمين؟ ألم تعتدي الكنيسة على من اعتدى عليها مستخدمة نفس الأسلوب ونفس الطريقة بدون الحاجة إلى المبالغة في ردة الفعل والرياء لإظهار حبهم للمسيح؟! ألم تعاقب الكنيسة دان براون مستخدمة نفس السلاح الإعلامي الذي استخدمه وقدمت برنامجا أحرق فيلمه قبل أن يخرج إلى النور.

أين نحن من قرآن الله وأين نحن من الأخلاق الراقية التي أمرنا بها الله جل وعلا والتي تبناها الغرب الغير مسلم؟ كيف نواجه من يعتدي علينا؟ كيف نعاقبهم؟ هل نصبر كما نصحنا الله؟ لقد خرجنا على أوامر الله وأطلقنا العنان لحقدنا وغلنا وعطشنا للتخريب والتدمير وسفك الدماء. واجهنا عمل فني مسيء لرسول الله (ص) بتخريب ممتلكاتنا ولم نعاقب بمثل ما عوقبنا كما أمرنا الله. واجهنا رواية أدبية تسيء لرسول الله بإباحة الدماء والمظاهرات والصراخ والعويل ولم نطيع الله ونعاقب بمثل ما عوقبنا أو نصبر مع الصابرين. واجه الشيوخ أكثر من كاتب مصري بقانون الحسبة وازدراء الأديان للرد على كتاباتهم وإبداعاتهم بدلا من الرد عليهم بالمثل كما أمرهم الله. إن العالم الإسلامي يتجاهل أوامر الله التي تمهد لهم طريق الرقي والإزدهار وبدلا منها يفضلون أوامر الشيطان التي تجعل منهم أضحوكة العالم المتحضر والمتخلف معا. ألا تتشابه رواية "آيات شيطانية" مع "شفرة دافنشي" من حيث التحقير لشخصية مقدسة في عيون مقدسيها؟ كيف كان رد الكنيسة وكيف كان ردنا نحن؟ من منا اتبع أوامر الله ومنهاجه في التعامل مع المعتدي؟ لقد دفعت الكنيسة أموالا لتخرج برنامج يمحي الشفرة قبل أن تعرض، فأين كانت أموال دولة البترول الوهابية ودولة قناة السويس السنية ودولة النووي الشيعية؟ لماذا لم يدفعوا لمبدعيهم ورجال دينهم وإعلامهم ليخرجوا عملا إبداعيا يسمعه العالم كله بدلا من سماع نحيبنا و صراخنا وشعاراتنا الناعقة المطالبة برأس سلمان رشدي.

أين نحن من الإسلام الحق؟ ألم نتخذ بحق القرآن مهجورا! أصبح ديكورا على الأرفف في البيوت نقرأ صفحة أو اثنين قبل النوم وننهي الأجزاء في رمضان ولا نعي ما نقرأ ولا نعمل بما نقرأ، نعمل فقط بما نسمع من دعاة الكراهية يوم الجمعة. هل صعب علينا إتباع شرع الله الحق! هل صعب على شيوخنا مواجهة كاتب بالكلمة بدلا من مواجهته بقانون الحسبه! هل صعب علينا كمسلمين أن نرد على مبدع بإبداع أحسن منه بدلا من الاتهامات المفصلة! هل صعب علينا كأمة مسلمة أن نتحاور بنفس الأسلوب وبدون إرهاب للآخر! هل صعب علينا أن نتبع سبيل الله في التعامل مع خلقه المعتدي منهم والمسالم! متى سنعود إلى كتاب الله وسنته؟ متى سندرك أن أفعالنا تسيء لله ولرسوله وتستعدي علينا شعوب الأرض. متى سنحب ديننا بدون نفاق ونتبع رسولنا بعيدا عن الرياء؟ هل سيأتي اليوم الذي يتصف فيه المسلمون العرب برقي الأخلاق؟ مؤكد سيأتي هذا اليوم إذا اتبعوا سنة الله ورسوله الحقيقية الموجودة بين دفتي المصحف الشريف، سيأتي إذا تأسوا بأخلاق الرسول الحميدة التي هي تطبيق عملي للقرآن والمدونة داخل كتب التاريخ الإسلامي، سيأتي هذا اليوم عندما يكون الدين الإسلامي دين أعمال وأفعال لا دين مظاهر وشعارات.

مؤخرا، قام لورد بريطاني غير مسلم بإنتاج فيلم تسجيلي عن المسيح من وجهة النظر الإسلامية؛ إنني حقا أنحني احتراما لتلك الشعوب التي كل ما يشغل بالها هو العلم والحرية (الإسلام) وليس الجهل والقمع (الطاغوت). قام البريطاني بإنتاج عمل إبداعي بحثا عن المعرفة والمكسب المادي، ومن لا يعجبه العمل سيرد عليه بعمل أحسن منه... وهكذا تسير الحياة عندهم. ولما لا وهو (اللورد) متأكد أن كهنة كانتربري ليسوا له بالمرصاد، ولن يهددوه بازدراء الدين المسيحي، ولن يرهبوه ولن يجبروه على جمع أغراضه والرحيل من البلاد بحثا عن حق التنفس الفكري في مكان آخر. ولا ننسى أن نقول أن الأصوات القمعية علت داخل الكنائس المصرية لتحذر من عرض الفيلم، ويا ليت الكنائس المصرية تصرفت بطريقة حضارية مثل شقيقتها في أوروبا، ولكن للأسف، لما لا تعلو أصواتهم بقمع الحرية الفكرية وقد تعملوا من نظرائهم المسلمين كيفية قمع الفكر والأدب والعلم.القمع حجة الضعيف سواء كان مسلما أو مسيحيا، من يثق في دينه وفى ثوابته لا يخاف شيئا ومن كانت حجته قوية لا يهاب مبدع مسكين يحاول أن يخرج ما في صدره. أطالب بحق عرض فيلم المسيح في عيون إسلامية، وأطالب بعرض أي فيلم أو إبداع عن الإسلام أو نبي الإسلام (ص) ومن لا يعجبه الإبداع فليرد بإبداع أحسن منه لا بالإرهاب والتدمير، ومن يعتدي علينا بالفن فلنرد عليه بفن أحسن منه، ومن يعتدي علينا إعلاميا فلنرد ببرنامج أقوى منه، ومن يعتدي علينا عسكريا، فلنعد له ما استطعنا من قوة لنرهب عدونا ولنخرجه من حيث أخرجنا، وإن لم نستطع فلنصبر. ولكن الصبر عند أمة الإسلام فرصة للنوم في العسل، الصبر الحقيقي يصاحبه الكد والعمل بإخلاص للنهوض بمستوانا العلمي والفكري والعسكري.

اجمالي القراءات 15237