ب 3 / ف 1 / ج 3 : رمضان بين سطور التاريخ : ( أربع مقالات )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٣ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

ب 3 / ف 1 / ج 3 : رمضان بين سطور التاريخ : ( أربع مقالات )

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الثالث ( أربع مقالات )

 

 المقال التاسع

حفل ليلة القدر فى الحرم المكى عام 479 هـ

"ليلة القدر" وختم القرآن الكريم في الحرم الشريف بمكة سنة 479 هـ

شهد ابن جبير الحفل المقام في الحرم بمكة بمناسبة ختم القرآن الكريم وسجل ذلك فى رحلته ( رحلة ابن جبير ) في أحداث سنة 479 هـ.
كانت ليلة جمعة "27رمضان"

ويعبر ابن حبير عن تأثره بحضور تلك الليلة في الحرم فيقول "كانت الليلة الغراء والختمة الزهراء ،والهيبة الموقرة الكهلاء والحالة التي تمكن عند الله في القبول والرجاء ،  وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم  وتجاه البيت العظيم،  وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم .   
وقد بدأ الاستعداد لهذه الليلة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة،  فأقيمت إزاء حطيم أمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم الأول ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة ، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات ، فكانت الطبقة العليا منها خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الاطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر السهم , نصب عليها الشمع والطبقتان تحتها ألواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها ، وتدلت من جوانب الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغاروتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر ، قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية،  لا يزيد منها أنبوب عن الآخر في الحجم ،  وأوقدت فيها المصابيح ، فجاءت كأنها موائد ذات أرجل كثيرة تشتعل نوراً ، ووصلت تلك بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الضفة الأولى المذكورة سابقاً واتصلت إلى الركن الجنوبي وأوقد المشعل الذي في رأس القبة وصففت شباكها شمعاً مما يقابل البيت المكرم . وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجية المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف بنفس الكيفية وقد علاها الشمع ، نصب على يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم في أتوار "شمع دانات" تناسابها كبراً, وصفت تلك الأتوار "الشمعدانات" على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد ، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في أتوار من الصفر فجاءت دائرة نور ساطع واحدقت بالحرم المشاعيل وأوقد جميع ما ذكر.   
وبعد ذلك الوصف التفصيلي للتجهيزات التي تمت في الحرم بدأ ابن جبير يتحدث عن وقائع الاحتفال بليلة القدر وختم القرآن . وقد تجمع صبيان مكة وأحدقوا بشرفات الحرم ، وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة وقوداً،  فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات ، وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع ، وأخذت كل طائفة من الصبيان تتبارى مع الأخرى في سرعة إيقادها ، فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة لخفاء أشخاص الصبيان وراء الضوء ، وفي أثناء عملهم يرفعون أصوات قائلين :"يا رب يا رب" على لسان واحد فيرتج الحرم لأصواتهم . فلما تكامل إيقاد الجميع يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار فلا تقع لمحة طرف إلا على نور تشغل حاسة البصرعند استمالة النظرة، فيتوهم المتوهم – لهول ما يعانيه من ذلك – إن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.!! 
وتقدم قاضي الحرم فصلّى فريضة العشاء الأخيرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها، وسكت أئمة الحرم عن القراءة في تلك الليلة تعظيما لختمة المقام وحضروا متبركين بمشاهدتها . 
وكان المقام المطهر قد أخرجوه ووضع في محله الكريم مصلى مستور بقبته التي يصلي الناس خلفها ، فختم القاضي بتسليمتين , وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق ، فلم يتمكن من سماع الخطبة أحد بسبب الازدحام وضوضاء العوام . ( فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة التراويح وانفض الجميع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً وأعينهم قد سالت دموعا ،  وشعر الجميع بالقبول من الله وأن تلك الليلة هىّ ليلة القدر . ).!!..

 

المقال العاشر

مجاعة فى رمضان سنة 595هـ في مصر الأيوبية

 1 ـ هذه مقالة تبعث على التألم لأنها تصف تاريخاً وقع، ولكن في التألم عبرة وعظة . ولذا نكتب التاريخ.

  في هذه السنة يئس الناس من زيادة النيل فارتفعت الأسعار وانتشر القحط فهرب الفلاحون للمدن ، وهرب كثيرون إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن وتفرقوا في البلاد ، ودخل القاهرة كثيرون اشتد بهم الجوع حتى إذا جاء رمضان سنة 595هـ كانت المجاعة على أشدها والمآسي التي تحدث بسببها لايصدقها عقل،ولولا أن فيلسوفاً حكيماً كان في القاهرة في ذ لك الوقت وقص ما شاهده وهو معروف بصدقه واتزانه ــ لولا ذلك ــ ما صدق القارئ ما كان يحدث في رمضان 595هـ وما بعده .    

 تصادف أن كان في القاهرة الفيلسوف الطبيب / عبد اللطيف البغدادي وشهد تلك المجاعة ،فكتب عنها وعن مشاهداته في مصر كتابه القيم "الإفادة والإعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" وكما يدل العنوان فقد استقى الحوادث مما رأى ومما سمع فكان كتابه وثيقة حية تنبض بالصدق المُرّ والواقعية المفجعة ...
 2 ـ يقول " واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث ،ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم ، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون ، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل ، ورأيت صغيراً مشوياً في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وإمرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما " 
3 ـ ثم يأخذ عبد اللطيف البغدادي في وصف مشاهداته المروعة فيقول " ووجد في رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم فأكل، وبقى قفصاً كما يفعل الطباخون بالغنم.. ولقد رأيت إمراة يسحبها الرعاع في السوق ظفروا معها بصغير مشوي تأكل منه ،وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره ، فعاد تعجبي منهم أشد ، وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه، ورأيت قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً وقد أخذ به شابان أقرَا بقتله وشيِّه وأكل ْ بعضه .

4 ـ ويحكي عبد اللطيف البغدادي أقاصيص مزعجة في هذا السياق ، وكلها تدور حول فقراء جوعى من رجال ونساء وقد انتشروا في شوارع القاهرة يخطفون الصغار ويأكلونهم ، وقد أصابهم الجوع بالسعاروالجنون، وأنه إذا عوقب أحدهم بالحرق ما لبث أن يأكله الآخرون . ويقول تلك العبارة المؤلمة " ثم فشا فيهم أكل بعضهم بعضاً حتى تفانى أكثرهم ، ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير، منهم من يفعله احتياجاً ومنه من يفعله استطابة ."!!

5 ـ ثم يحكي عن الحيل التي كان يخترعها بعضهم للإيقاع بالناس وأكلهم . ويقول أن الوالي حكي له أن إمراة دعيت إلى وليمة فوجدت لحماً كثيراً فاسترابت في الأمر وسألت بنتاً صغيرة من المنزل سراً عن ذلك اللحم فقالت:إنها فلانة السمينة دخلت لتزورنا فذبحها أبي وهاهي معلقة.. فهربت السيدة إلى الوالي فهجم على المنزل ولكن هرب صاحب البيت . ويروي من الغرائب أن إحدى النسوة الأثرياء كانت حاملاً وكان جيرانها من الصعاليك فكانت تشم عندهم رائحة طبيخ فاشتهت منه كما هي عادة الحبالى فأكلت منه وأحبته وعرفت منهم أنه لحم آدمي فأدمنته وصاروا يتصيدون لها ، وغلبها السعار ، واكتشف أمرها في النهاية فحبست وأرجئ قتلها احتراماً لزوجها الغائب حتى تضع حملها.
6 ـ ويقول عبد اللطيف البغدادي أنه يحكي ما يشاهده دون قصد، وأن ما رآه أكثر مما يحكيه وأنه كثيراً ما كان يفر مما يرى من بشاعته .  ويقول إن المضبوطات في بيت الوالي كانت تشتمل على كوارع ورءوس آدمية وأطراف مطبوخة في القمح وغيره، ويقول وكثيراً ما يدعي بعضهم أنه يأكل ولده او زوجه أو حفيده ولئن يأكله هو خير من أن يأكله غيره . ويقول ومما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم، وهذه البلية وجدت في جميع بلاد مصر من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والاسكندرية ودمياط وسائر النواحي .

7 ـ وتحدث عن قطع الطريق وقتل المسافرين وعن موت الفقراء في الطرقات والجثث العائمة في النيل ، وخلو القرى والمدن من السكان ، وتحدث عن بيع الأولاد والبنات بدراهم معدودة ،حتى تباع الفتاة الحسناء بدراهم ، ويقول أنهم عرضوا عليه فتاتين مراهقتين بدينار واحد ، وأنه رأى فتاتين إحداهما بكر يُنادى عليهما باحدى عشر درهماً ، وقد سألته إمرأة ان يشتري إبنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فقال لهم إن ذلك حرام فقالت له: خذها هدية .!! ويقول إن كثيراً من النساء والولدان أصحاب الجمال كانوا يترامون على الميسورين ليشتروهم أو يبيعوهم . ووصل بعضهم إلى إيران . وفي هذه المحنة برز بعض الفجرة الأغنياء اشتروا الأحرار الجوعى واسترقوا النساء الحرائر بأقل الأثمان ويحكي البغدادي أن بعضهم كان يفتخر بأنه اشترى خمسين بكراً أو سبعين .
8 ـ ومن الطبيعي أن القارئ قد يغضب إذا قرأ هذا التاريخ الذي وقع بأرض مصر ، ولكن لابد من معرفته لنتأكد إلى أي حد كنا في حاجة للتحكم في الفيضان حتى لا يأتى الجفاف وتحدث المجاعات التي كانت تتكرر في دورات متتابعة في تاريخ مصر القديم والوسيط . ولكن ـ وآه من لكن هذه ـ فبعد بناء السد العالى واختفاء دورة المجاعات والأوبئة التى كانت تحدث بسبب جفاف او طغيان الفيضان ، فان العسكر الذى استبد بمصر طيلة اكثر من نصف قرن قد وصل بها الان فى رمضان 1429 الى حافة المجاعة ، فالأخبار تاتى بالاقتتال حول رغيف الخبز وشهداء الكفاح من أجل الحصول على رغيف من الخبز لا يخلو من المسامير و الحشرات الميتة .. هذا فى الوقت الذى يلعب فيه أبناء المترفين بالملايين ينفقونها فى المخدرات والمجون . نحن هنا أمام كارثة يصنعها عن عمد واصرار حكام خانوا الأمانة ، ونسوا قوله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ )( ابراهيم 42).
اللهم جنّب مصر الكارثة القادمة .. فيكفى ما عانته فى تاريخها القديم والمتوسط.!!..

 

 

المقال الحادى عشر

أوبئة حدثت في رمضان 

مقدمة :

1 ـ كانت الأوبئة والمجاعات من المعالم الأساس في تاريخ العصور الوسطى والقديمة ، وإن كان العصر الحالى قد تمكّن من القضاء على معظم الأوبئة وحصر المجاعات في أضيق حدود فإن علينا أن نسترجع ذكريات التاريخ المؤلمة لنرى ما أنعم الله علينا من نعمة التقدم ، ولنكون أحرص على استمرار تلك الحرب المقدسة ضد الجوع والمرض لتكون الكرة الأرضية في المستقبل القريب وطناً للرخاء والشفاء .

2 ـ وكانت المجاعة تحدث في مصر على فترات دورية مرتبطة بجفاف النيل الذي لم يستطع أجدادنا السيطرة عليه، وبعد المجاعة يأتي الوباء غالباً بعد أن تمتلئ الأرض بالجثث والعفن، وقد يأتي الوباء منفرداً ، وله هو الآخر دورته الخاصة إذ ينتشر سريعاً ثم يهدأ وينكشف بعد أن يكون قد أباد مئات الألوف ، خصوصاً من الأطفال الذين لم تكن لديهم حصانة من قبل .  ولم يكن رمضان بعيداً عن الأوبئة والمجاعات ، إذ كان له فيهما نصيب مثل باقي الأشهر.   

 2 ـ وقد أدرك المقريزي وهو طفل تلك المجاعة التي حدثت قبل شهر رمضان سنة 776هـ واستمرت إلى آخر شوال، وجاء بعدها وباء أهلك الكثيرين ممن نجوا من المجاعة, يقول المقريزي " إبتدأ الوباء في نصف جمادى الآخرة،  وكثر موت الفقراء والمساكين بالجوع ، فكنت أسمع الفقير يصرخ بأعلى صوته :لله لبابة ــ أي كسرة خبز ــ قدر شحمة أذني أشمها وخذوها "  فلا يزال كذلك حتى يموت ."
  ويتحدث المقريزي عن الكساد الذي ساد بسبب هذه المجاعة: " هذا وقد توقفت أحوال الناس من قلة المكاسب لشدة الغلاء وعدم وجود ما يُقتات به ، وشُحّ الأغنياء وقلة رحمتهم ، ومع ذلك لم يزدد اجر العمال من البنائين والفعلة والحمالين ونحوهم من أرباب الصنائع ، بل استقرت على ما كانت عليه قبل الغلاء، فمن كان يكتسب في اليوم درهماً يقوم بحاله ويفضل له منه شيئ صار الدرهم لا يجدي شيئاً، فمات ، ومات أمثاله من الأجراء والعمال والصناعين .." أى دفع الفقراء والعمال و الحرفيون الثمن جوعا وموتا .
3 ـ ثم يتحدث المقريزي عن الغلاء فيقول " وفي شهرى رجب وشعبان اشتد الغلاء، فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة وعشرون درهما ،ًوالأردب الشعير تسعين درهماً ،والأردب الفول ثمانين درهماً ، والبطة الدقيق زنة خمسين رطلاً بأربعة وثلاثين درهماً ، وشنع الموت في الفقراء من شدة البرد والجوع والعرى وهم يستغيثون فلا يغاثون، وأكل الناس خبز الفول والنخالة عجزاً عن خبز القمح، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم، وكثر خطف الفقراء له ما قدروا عليه من أيدي الناس ."..!!.. والمصريون يتقاتلون اليوم ليس فى سبيل الله جل وعلا ولكن فى سبيل الخبز .. فهل تقترب مصر اليوم من هذه الحالة . نرجو من الله تعالى السلامة..!!
4 ـ ويقول المقريزي أن المساجين كانوا أشد الناس جوعاً ، وقد حدث أن أقيم بالسجن حائط من طين فأكله المساجين من شدة جوعهم!! وقد أصبحت الدواب نادرة لموتها بالجوع .

5 ـ وفي يوم 24 شعبان قررت السلطات المملوكية أن تفرق الفقراء على الأمراء والميسورين ليطعموهم فجمعوا الفقراء وفرقوهم عليهم ، كل حسب حاجته ، ثم نودي بالقاهرة بألا يتصدق أحد على حرفوش ( الحرافيش هم العوام )، وإن أى حرفوش تسول شيئاً فجزاؤه الصلب .! . وبذلك التزم كل واحد بمن معه من الفقراء [الحرافيش] فخفت الصراعات التي كانت تحدث في الشوراع ، إلا أن الوباء انتشر وزداد عدد الموتى خصوصاً في شهر رمضان مع نفاذ الأقوات حتى بلغ الموتى في القاهرة يومياً حوالي 500 . ولم يعد بوسع أحد أن يدفن كل هذا العدد فشوهدت الكلاب تأكل الجثث ، وهنا تدخلت السلطات المملوكية فأعلنت أن من أتى بميت أعطوه درهما فأتاهم الناس بالموتى ، فقامت السلطات بتغسيلهم وتكفينهم ودفنهم ، فلما أفنى الوباء الفقراء بدأ عمله في الأغنياء فازداد سعر الأدوية ، وفي نفس الوقت أصبحت الفراريج نادرة حتى كان السلطان يبعث في طلبها من الأقاليم.. وهكذا كان الفقير قبل موته يتمنى ان يشم كسرة خبز، أما الغني فقد كان يعاني في مرضه لا من الجوع بل من غلاء سعر الدواء.! 
6 ـ وكان الوباء ينتقل من بلد إلى آخر ، وفي موسم الحج كان يجد الفرصة للإنتشاروفي رمضان سنة 837هـ تناقص الوباء بمكة بعد ان أخذ دورته، وفي رمضان 839هـ ظهر الوباء بمدينة تعز في بلاد اليمن وشمل سائر نواحيها . وفي سنة 841هـ بدأ الوباء في الصعيد ودمشق وحلب في شهر رجب فأظهر أهلها التوبة على حد قول المقريزي ــ وأغلقوا حانات الخمر ومنعوا البغايا من الوقوف بالشوارع ( وكان البغاء حرفة مصرحا بها فى معظم فترات العصر المملوكى للزنا والشذوذ، وكانت الدولة تجبى منه الضرائب ) ، فتناقص الموت وخف الوباء حتى كاد يرتفع ، يقول المقريزي " وجعلوا شكر النعمة أن فتحوا الخمارات وأوقفوا البغايا والأحداث (أى الصبيان ) للفساد ، وضربوا عليهم الضرائب فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة انسان ، واستمر الوباء في ازدياد في شعبان ووصل القاهرة في رمضان.
  وفي يوم الثلاثاء أول رمضان وصل عدد الموتى بالقاهرة 18فرداً  ، ثم تزايد العدد حتى فشا الطاعون في القاهرة ومصر خصوصاً في الأطفال والعبيد والجواري ، ووصل إلى أطراف مصر في الواحات بينما تضاءل في الصعيد

7 ـ هذا الغضب الالهى سببه الفساد العقيدى و السلوكى من الظلم الى انتشار الفواحش مع رفع راية الالتزام بتطبيق الشريعة ( السنية وحكم قضاة الشرع الشريف ) على حد قولهم ، فقد كان من العادة أن يقام حفل لختم البخاري في القلعة ، ويحضره السلطان وكبار العلماء والقضاة ، وفي هذا العام كان الحديث مع السلطان حول الوباء الذي يصرع الناس وكيفية الخلاص منه . وقال العلماء ان السبب في الطاعون هو انتشار الزنا وخروج المراة متبرجة فأمر السلطان برسباي بمنع خروج النساء جميعهن من بيوتهن ومن خرجت فعقوبتها القتل . فامتنعت النساء من الخروج ، وتتبع والي القاهرة من تخرج منهن وكان يضربهن ، فلم تعد إمرأة تخرج من بيتها , فثرتب على ذلك تعطل أحوال النساء الأرامل والعاملات والساعيات في الرزق ، وتعطل البيع والشراء وكسدت الأحوال فاضطرت الدولة في 27رمضان للسماح بخروج الجواري للأسواق لقضاء الحوائج ولكن لا يتنقبن،وأن تخرج العجائز لقضاء مصالحهن ، وسمح للنساء بالخروج إلى الحمامات ولكن لايقمن بها إلى الليل، يقول المقريزي فكان في ذلك نوع من الفرج.
8 ـ  وجدير بالذكر أن رمضان كان دافعا في حد ذاته للتقليل من خروج المراة المملوكية للشارع بدون أزمة الوباء الذي حدث 841هـ ، ففي 28رمضان سنة 825هـ نودى بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب والمقابر في أيام العيد وهددن بالعقوبة إن خرجن، فامتنعت نساء كثيرة من الخروج ، وفي رمضان 835هـ كان دولات قجا والي القاهرة ( أى مدير الأمن ) مشهورا بعنفه وقسوته ، وكان يكثر من الخروج بفرسانه للتفتيش على الشوارع ، وأمر الناس بكنس الشوارع ورشها بالماء ويعاقب من لايفعل ، وهو الذي منع النساء من الخروج للترب والمقابر في أيام الجمعة.. 
9 ـ ونعود إلى تاريخ الأوبئة في رمضان ،  ونذكر الوباء الذي حدث في رمضان سنة 843هـ في الطائف وعامة بلاد الحجاز،وهلك فيه من قبائل ثقيف وغيرهم عالم لا يحصيه إلا خالقهم بحيث صارت أنعامهم هملاً وأخذها من ظفر بها ، وامتد الوباء إلى نخلة وهي على مسيرة يوم من مكة.
*
وفي رمضان 841 انتشر الطاعون في العراق ، وفي نفس الوقت انتشر الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها.
10 ـ وبعض الأوبئة كان يصيب المواشي ، ففي رمضان 691هـ كثر موت الجمال في الشام حتى حمل الأمراء المسافرون أثقالهم على الخيل وذلك في سلطنة الأشرف خليل.وبعدها بحوالي قرن أى فى رمضان 794هـ وقع وباء فى البقر حتى بيعت البقرة في مصر بعشرين درهماً بعد ما كانت بخمسمائة درهم ، ثم ازداد انتشار الموت فيها فأصبحت البقرة تباع بخمس دراهم، وترك الناس أكل البقر استقذاراً له وعم الوباء في البقر في مصر كلها وأفنى الجزء الأكبر منها.
11 ـ  وفي أول رمضان{ يوم الأربعاء} سنة 873هـ الموافق 15 مارس 1468 م كانت بداية الطاعون في مصر والشام ومات فيه ابن صغير للسلطان قايتباي ، وانتشر المرض في هذا الشهر وما بعده ووصل سائر المدن والقرى المصرية.
12 ـ وقد تحدث بعض الأمراض الموسمية فيزداد غلاء الأدوية  ،  كما حدث في رمضان سنة807هـ وفيه كانت أسعار الأدوية كالآتي:بذر الرجلة من 60 إلى 80 درهماً القدح ، وقنطار الشيرخشك من 1400 : 30 ألف درهم، قتطارالترنجبين من 400 : 15 ألف درهم وهو دواء ملين وينفع مع السعال والصفراء ، ووصف طبيب دواء لمريض فبلغ ثمن الدواء 120 درهماً... 
وأخيرا

واليوم فان الوباء الأساس والمرض المتوطن فى نفس المناطق هو نفس ما توارثناه من العصرين المملوكى و العباسى ،أى الفساد والاستبداد . وبينما ينعم الغرب بالديمقراطية وحقوق الانسان فان الانسان العربى والمسلم لا يزال يعانى من الظلم والقهر والتضييق فى الرزق . صحيح أن التقدم العلمى المستورد من الغرب و المساعدات التى تأتى من الغرب قد أفلحت فى الحد من خطورة الأوبئة والأمراض المتوطنة ولكن أخطر الأمراض المتوطنة وأخطر الأوبئة لا تزال تلتهم الناس ، ليس بالموت السريع المريح ولكن بالموت البطىء المؤلم المخيف ؛ مرض الاستبداد والفساد ، وهو المسئول عن خسارة المسلمين للدنيا والآخرة معا.
على هامش الاستبداد والفساد نشأت تلك الأديان الأرضية للمسلمين لتشرع الخنوع للحاكم ولتنشر ثقافة العبيد ، وبها يعانون العذاب المؤقت فى الدنيا والعذاب الخالد فى الآخرة ..فهل بعد ذلك خسران ؟.
 فى الدنيا يعانى المصريون العرب والمسلمون من التلوث البيئى والتلوث الأخلاقى والتلوث العقيدى ..وقد يتجمع كل ذلك فى مولد أحد الأولياء وحول ضريحه المقدس..
ونضع كلمة ( الفساد ) مكان كلمة التلوث ، ونقرأ قوله تعالى يصف عصرنا : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم 41 )
ونتدبر قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ونسأل أنفسنا : هل هناك أمل فى أن نرجع لكتاب الله جل وعلا نحتكم اليه فيما وجدنا عليه آباءنا من أديان أرضية وثقافات عباسية ومملوكية وعثمانية ؟
لعل .. وعسى..!!

 

المقال الثانى عشر

 الغلاء في أسعـــار رمضان

 

1 ـ في رمضان سنة 755هـ كان الرخاء كثيراً بمكة المكرمة، فثمن غرارة القمح 80درهماً، والغرارة سبع ويبات مصرية، وهىّ قريبة من (الشوال) أو الكيس المستعمل في الريف المصري الآن، وكان ثمن غرارة الشعير 50 درهماً ، إلا أن الماء كان قليلاً بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جدبان فأغاثهم الله تعالى بمطر عظيم .. هذا ما ينقله المقريزي عن أحوال مكة في رمضان سنة 755هـ ضمن أحداث أخرى منها رجوع إمام الزيدية اليمني عن مذهب الزيدية، وتفاصيل تلك الأخبار يوحي بأن المقريزي ينقل عن شاهد كان حاضراً في مكة في ذلك الوقت .

 2 ـ والغلاء في مصر المملوكية كان مرتبطاً بفيضان النيل كما كان مرتبطاً بالسياسة الاقتصادية المملوكية، وحين يتناقص الفيضان يرتفع ترمومتر الأسعار ويبدأ التخزين في الحبوب تحسباً لمجاعة قادمة محتملة، وينقطع ورود الغلال من الصعيد، ويقوم تجار الغلال في ساحل بولاق بإخفاء ما لديهم، وتثور الإشاعات وتبلغ القلوب الحناجر، كان ذلك يحدث في رمضان وفي غير رمضان، وفي رمضان سنة 827هـ في سلطنة الأشرف برسباي حدث أن زاد النيل إصبعين، وكان قياس النيل يتم يومياً في ذلك الوقت من السنة القبطيةـ ثم قاسوه في اليوم التالي فوجدوه قد نقص، يقول المقريزي وكان يعيش ذلك الوقت " زاد النيل إصبعين ثم نقص، فأصبح الناس في قلق وطلبوا القمح ليشتروه وبدأ بعضهم في تخزينه خوف الغلاء إلا أن النيل زاد الأحد 18رمضان في الليل ونودي يوم الاثنين 19رمضان بتلك الزيادة فسُرِّ الناس ."
3 ـ وقد يأتي الفيضان بالمطلوب ولكن تأتي المشكلة من تقصير الدولة المملوكية في إصلاحات الجسور والكباري، والمماليك البرجية انهمكوا في امتصاص دم الشعب دون رعاية للمرافق النيلية، ولهذا كان يحدث الغلاء أحيانا مع وفرة المياه في الفضيان، وكان يحدث ذلك في رمضان، يقول المقريزي في حوادث يوم11 رمضان سنة 825هـ أن النيل بلغ 19 ذراعاً و6 أصابع وأن النفع عم بهذه الزيادة في الفيضان وكان منتظراً أن يعم الرخاء إلا أن الذي كان يتولى صيانة الجسور لم يعتن بها مما أدى لأن غمر ماء النيل الزراعات الصيفية وأفسدها، وضاع محصول السمسم ومحصول البطيخ، وكان زيت السيرج يستخرج من السمسم لذا ارتفعت أسعار السيرج في أسواق القاهرة يوم 28 رمضان من ذلك العام حتى وصل الرطل منه إلى 18درهماً من الفلوس لأن محصول السمسم غرق فقلَّ المحصول، يقول المقريزي "ولم يعهد مثل هذا  ".
  4 ـ وعموماً كان الغلاء أرحم في دولة المماليك البحرية منه في دولة المماليك البرجية، و المقريزي سجل أحوال مصر في الدولة المملوكية البحرية نقلاً عمّن سبقه من المؤرخين السابقين الذين عاشوا وقت هذه الدولة أمثال النويري وابن الفرات وبيبرس الداودار، ثم سجل أحوال الدولة المملوكية البرجية التي عاشها من مواقع المشاهدة والمعاصرة، وكان أحيانا ينقل أحوال الناس في الدولة البحرية ثم يعلق عليها بالحسرة من أحوال الناس في عصره . وكانت سنة 783هـ هي آخر سنة في الحكم الرسمي للدولة المملوكية البحرية إذ أسس السلطان برقوق الدولة المملوكية البرجية بدءاً من سنة 874هـ بعد سنوات من التحكم في ذرية بني قلاوون بوصفه الأمير الكبير. 
5 ـ والمقريزي ينقل أحوال الناس في رمضان 783هـ حين ارتفعت الأسعار ثم يقارن بين هذا الغلاء وسوء الأحوال في عصره بعد ذلك بثلاثين عاماً. يقول المقريزي عن رمضان 783هـ " وكانت الأسعار قد ارتفعت في شهر رمضان حتى بلغ الأردب القمح إلى أربعين درهماً وتزايد حتى بلغ في ذي القعدة ستين درهماً وعزَّ وجوده وارتفعت أسعار الحبوب كلها، وتعذر وجود الخبز بالأسواق، واختطفه الناس من الأفران !! ويقول المقريزي : ـ أن الناس في ذلك الوقت بدءوا في الشكوى من غلاء الأسعار، ولم يكن ذلك معروفاً من قبل، إذ كانت العادة أن يستنكف المستوردون من الشكوى من الغلاء، وإذا اضطر أحدهم للشكوى حسبوها عليه عيباً، يقول المقريزي عن أحوال الناس قبل شهور من قيام الدولة المملوكية البرجية "وكثرت الشكاية في الناس جميعهم، فكانت الشكاية مما تجدد ولم يكن يعرف بل أدركنا الناس إذا شكا أحد من الناس حاله عُدَّ عليه ذلك، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو، وتزايد أمرهم في ذلك حتى صار أمر الناس بمصر في أيام الناصر فرج (ابن برقوق) وما بعدها إلى فاقة وضعة " أي فقر ومذلة.!! 
* 6 ـ وفي عصر المقريزي كان الغلاء شيئاً عادياً، بل كانت المجاعات خبراً عادياً، يقول المقريزي في رمضان 818هـ " وفي هذه السنة حدث غلاء عظيم بديار مصر."

 وفي رمضان 828هـ في سلطنة الأشرف برسباي يقول المقريزي "عَزَّ وجود اللحم بالأسواق.." .

وقد يحدث نوع من الفرج فيفرح به الناس وسط ذلك الضنك كما حدث في رمضان سنة 796هـ حين زاد محصول البطيخ العبدلاوي فرخص سعره حتى بيع المائة رطل منه بدرهم !!، وقد يحدث فرج أكبر فتهبط الأسعار في القمح والغلال، ففي سنة 828هـ التي أصبح العثور على اللحم فيها عسيراً هبطت أسعار الحبوب فيقول المقريزي عن رمضان 828هـ أن سعر الغلال انحل مع بداية رمضان وأنها كثرت في الشون وفي ساحل بولاق" من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولاً ثم في انحطاطها،إن الله على كل شيء قدير!! أي ارتفعت الأسعار ثم هبطت، وبدون سبب مفهوم، وقد عهدنا المقريزي خبيراً بالاقتصاد في تعليقاته، ولكنه يعجز عن حل هذه الفزورة، وربما كان هذا بداية فوازير رمضان.! 
  7 ـ وبسبب تدهور الأحوال في عصر المقريزي فإن الغلاء الذي كان يتضرر منه الناس قبل خمسين عاماً يكون رحمة ورفاهية بالنسبة للضنك الذي كان يعيشه أحفادهم في القرن التاسع.. ونتأمل ذلك الخبر، يقول المقريزي في أخبار يوم 11رمضان سنة 825هـ أن الأسعار للغلال نزلت فبلغ سعر أردب القمح 150درهماً، والشعير 85درهماً، والفول80درهماً.. كان ذلك يعد هبوطاً للأسعار، وإذا رجعنا إلى أسعار سنة 783هـ قبيل الدولة البرجية وجدنا الناس يتضررون من الغلاء لأن أردب القمح وصل أربعين درهماً ... وذلك يشبه عصرنا .. فقد كان أجدادنا في العشرينات يتضررون إذا وصل ثمن أردب القمح إلى جنيه واحد ، وإذا انخفض سعر الأردب في عصرنا إلى مائة جنية اعتبرنا ذلك رحمة ورفاهية .

8 ـ ودخلت الأسعار في دوامة الغلاء والتضخم مع تردي الأحوال في الدولة الملوكية البرجية، ونلقي عليها نظرة سريعة فيما يخص شهر رمضان بالذات :  :
في رمضان سنة 825هـ كانت الأسعار كالآتي : أردب القمح 150 درهماً ، الشعير85درهماً..

وفي رمضان في سنة 831هـ، كان القمح 260درهماً، الشعير فوق200درهماً، والبطة من الدقيق 80درهماً (والبطة من الدقيق تساوي50رطلاً )

وفي رمضان 843هـ وصل القمح إلى 330 درهماً، والبطة من الدقيق إلى110درهماً . وأورد المقريزي تفصيلات أخرى عن أسعار هذا الشهر(رمضان843): فدان البرسيم أكثر من ألفي درهم، وتناقص لحم الضأن بالأسواق عدة أيام، ولم يكد يوجد السمن وعسل النحل هذا مع علو النيل، وطول مكثه، وحدث نقص في عدة زروع مثل اللفت والفجل والكزبرة. والسبب هو السياسة المملوكية وظلمها وعسفها وسوء تدبيرها.   
9 ـ ثم إذا تركنا عصر المقريزي وجئنا إلى عصر قايتباي وجدنا غلاءاً باهظاً في أول رمضان 873هـ (الموافق 15مارس 1468م). ثم جاء غلاء آخر في رمضان التالي 874هـ حيث وصل ثمن أردب القمح إلى 1300درهماً، أي ارتفع ثمن أردب القمح في نصف قرن من 150 درهماً إلى 1300درهماً، وذلك من سنة 783هـ إلى سنة 874هـ، ولم يكن في طاقة الناس تحمل ذلك الغلاء في عصر قايتباي لذلك اشتكوا إلى المحتسب وهو الذي يراقب الأسواق والأوزان والتسعيرة، واشتكى المحتسب إلى السلطان فأمر قايتباي بأن ينخفض السعر إلى ألف درهم وأمر بفتح المخازن السلطانية وبيع ما فيها بسعر ألف درهم للأردب، فهرع الناس إلى مخازن السلطان واشتروا منها بهذا السعر وهم يدعون للسلطان، وترتب على ذلك انخفاض ثمن الخبز، وكان الخبز يباع وقتها بالرطل، وقد وصل ثمن الرطل إلى تسعة دراهم، وبعد انخفاض سعر القمح نزل سعره إلى ستة دراهم للرطل، وكان أردب الشعير قد بلغ 900 درهم للأردب فنزل سعره إلى أقل من 600 درهم.
وأخيرا 
من قال إن الدولة المملوكية قد انتهت ؟
انتهى اسمها ولكن بقيت فلسفة الحكم العسكرى الاستبدادى قائمة .. الحكم العسكرى الذى يجثم على قلب مصر من عام 1952 وحتى الان يكرر كل فظائع المماليك من استبداد وفساد وتعذيب وقهر للشعب ، واستخدام القوة المفرطة ضد الشعب الأعزل.! 
الفارق أن العسكر المماليك كانوا أجانب جىء بهم بالشراء ليكونوا جنودا ليدافعوا عن مصر الوطن والانسان فوجهوا سلاحهم ضد مصر الوطن والانسان مستبدين بالحكم ومستاثرين بالثروة ، ولكن العسكر المصرى (مصرى) ولكن بدلا من أن يترفق بأهله سامهم خسفا و ذلا وقهرا ، فاق ظلم المماليك.   
والفارق أن العسكر المملوكى كانت ثقافته متسقة مع العصور الوسطى ، فالاستبداد الدينى و العسكرى كان هو السائد ، ولم يعرف العصر الوسيط وقتها معنى الديمقراطية وحقوق الانسان .. ولكن العسكر ( المصرى ) هو الذى صادر الديمقراطية و الليبرالية التى سبقت بها مصر كل العرب و المسلمين منذ أن أنشأ الخديوى اسماعيل أول مجلس نيابى فى مصر فى العقد السابع من القرن 19 ..ثم سارت مصر فى تطور ليبرالى ديمقراطى أسفر عن دستور 1923 . صادر العسكر المصريون كل هذا التطور ، ووصلوا باهلهم المصريين الى أحط درجات القهر. أين مصر الان من ديمقراطيات أفريقية وآسيوية ؟
الفارق إن المماليك العسكر أحرزوا انتصارات يحق لهم الفخر بها ، المماليك هم الذين اوقفوا الزحف المغولى فى عين جالوت ، وهم الذين دمروا الامارات الصليبية وطردوا الصليبيين من آخر معقل لهم فى عكا.. وفى عصر المقريزى غزا السلطان برسباى جزيرة قبرص وفتحها ،ووصل نفوذ مصر المملوكية الى جزر أخرى فى البحر المتوسط ، ولا ننسى أن الدولة المملوكية هى التى جعلت القاهرة عاصمة الخلافة العباسية وأهم عاصمة للمسلمين وقتها، وهى التى سيطرت على الشام واجزاء من العراق وآسيا الصغرى ، مع الحجاز ..اين هذا من هزائم العسكر المصريين فى اعوام 1956 ، و1967 ، وفى الثغرة 1973 .. إذا كان من حق المماليك الفخر بأنهم وصلوا بحدود مصر الى جنوب تركيا وغرب العراق وشمال اليمن فان من حق العسكر المصريين أن يشعروا بالخزى و العار وهم الذين أضاعوا سيناء واستعادوها منقوصة السيادة بعد حرب لم تسمن ولم تغن من جوع ..بل جاء بعدها الجوع .  ..
وبمناسبة الجوع فقد كانت الأوبئة و المجاعات قدرا متكررا لا حيلة للمماليك فيه بسبب قلة أو زيادة فيضان النيل فى العصر المملوكى ، فما هو العذر الذى يتحجج به العسكر المصريون فى الجوع الذى يعانى منه المصريون الان ؟ .. انه ليس مجرد غلاء ..بل هو اقتتال على رغيف الخبز فى وطن أصبح النيل فيه خادما وديعا للزراعة ؟!..
أن كل ما سبق نشره فى موقعنا ( أهل القرآن ) من هذه الحلقات عن رمضان بين سطور التاريخ أصبح مؤلما لى ـ ليس فى إعدادها من بين سطور التاريخ ، وهو عمل بحثى متعب ومرهق ـ ولكن الألم الحقيقى حين أضطر لعقد المقارنة بين مصر الآن ومصر المملوكية .   
ولكن هذه المقارنة ضرورية لنتعرف على الوهدة التى أوصلنا اليها العسكر( المصرى ) ..والتى تجعلنا نترحم على العسكر المملوكى الغريب الذى كان ارحم بالمصريين والذى رفع اسم مصر عاليا فى وقته .
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..جل وعلا .!

اجمالي القراءات 2506