نظرات في رِسَالَةٌ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ

رضا البطاوى البطاوى في الثلاثاء ١٩ - مارس - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

نظرات في رِسَالَةٌ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ
المؤلف هو ابن تيمية والرسالة تدور حول اجابة عدة أسئلة عن الفقراء وهى كلمة كانت تطلق على الصوفية في القديم وهى :
سئل شيخ الإسلام عن " الصوفية " وأنهم أقسام " والفقراء " أقسام فما صفة كل قسم ؟ وما يجب عليه ؟ ويستحب له أن يسلكه "
فكان إجاباته كالتالى :
"أما لفظ " الصوفية " فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ : كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وغيرهما وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري وتنازعوا في " المعنى " الذي أضيف إليه الصوفي - فإنه من أسماء النسب : كالقرشي والمدني وأمثال ذلك فقيل : إنه نسبة إلى " أهل الصفة " وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفي وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضا غلط ؛ فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي وقيل نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفوي وقيل : نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن طانجة قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا ؛ لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى ولأن غالب من تكلم باسم " الصوفي " لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام وقيل : - وهو المعروف - إنه نسبة إلى لبس الصوف ؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد من أصحاب الحسن وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ولهذا كان يقال : فقه كوفي وعبادة بصرية وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال : إن قوما يتخيرون الصوف يقولون : إنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم وهدي نبينا أحب إلينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره أو كلاما نحوا من هذا "
ابن تيمية ضعف كل معانى نسبة الصوفية عدا النسبة للبس الصوف وحكى حكاية عن أن بعضهم نسب لبس الصوف للمسيح ونسب لبس القطن وغيره لمحمد(ص) والرسل(ص) يلبسون أى نوع حلال من اللبس ومن المعلوم أن الألبسة لا تتناسب مع كل الفصول المناخية ومن ثم تتغير الألبسة ولباس الصوف لا ينفع في الصيف لأن لا أحد يطيق ما يسببه من الحر والعرق ومن ثم فالحكاية كما يحكونها لم تحدق
وحكى ابن تيمية بعض حكايات الصوفية في سماع القرآن وموتهم عند السماع مضعفا ذلك ألأمر بأن محمد(ص) والمؤمنون به لم يكونوا يموتون من سماع القرآن فقال :
"ولهذا غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر : { فإذا نقر في الناقور } فخر ميتا وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ولم يكن في الصحابة من هذا حاله ؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين : كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم والمنكرون لهم مأخذان : منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال : ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه ؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود كما قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } وقال : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } وقال : { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } "
الرجل هنا يبين أن حال المؤمن هو الخشوع والبكاء والقشعريرة وزيادة الإيمان وكله معناه واحد وهو :
طاعة ما سمعوه من أحكام الله وليس الاغماء عليهم أو موتهم
وتحدث عن مراتب الناس فقال :
"وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها وكلا طرفي هذه الأمور ذميم بل المراتب ثلاث : ( أحدها حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود قال الله تعالى : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون } وقال تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }
و( الثانية ) حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها ؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلا نزاع بين المسلمين ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل : سكران : سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران وهذا مذموم لأن سببه محظور وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر وهذا أيضا مذموم فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله إذ إزالة العقل محرم ومتى أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل ولم يأذن لنا الله أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا ؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه كسماع لم يقصده يهيج قاطنه ويحرك ساكنه ونحو ذلك وهذا لا ملام عليه فيه وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور ؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم كالمغمى عليه والمجنون ونحوهما ومن زال عقله بالخمر فهل هو مكلف حال زوال عقله ؟ فيه قولان مشهوران وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور ومن زال عقله بالبنج يلحق به كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وقيل يفرق بينه وبين الخمر ؛ لأن هذا يشتهى وهذا لا يشتهى ؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونا إما بسبب خلط يغلب عليه وإما بغير ذلك ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك وقد يسمون المولهين
قال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا ؛ فسلب عقولهم وأسقط ما فرض بما سلب فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة : لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل والمقصود : أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة وذلك لشدة الخوف فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء وهو حال الصحابة رضي الله عنهم وقد روي : أن عطاء السليمي رئي بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : قال لي : يا عطاء أما استحيت مني أن تخافني كل هذا أما بلغك أني غفور رحيم وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس وخيار الناس من " أهل الفقه والرأي " في أولئك الكوفيين على طرفين قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة وهذا باب يفترق فيه الناس "
ومما سبق يتبين أن الرجل يلتمس العذر لبعض السامعين ممن ليست لديهم سيطرة على أنفسهم بالسكر والاغماء وما شابه وهم ليس لديهم أى عذر في تلك ألأفعال طالما كانوا لديهم إرادة كما قال تعالى :
ط فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "

وتحدث عن الصواب وهو اتباع ما كان يصنع محمد(ص) وصحابته فقال :
"والصواب : للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخير القرون القرن الذي بعث فيهم وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم كما قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة فيتقي الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده فلا بد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم ؛ فإن الله تعالى قال : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } - إلى قوله - { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله تعالى : قد فعلت "
وبالطبع ما طلبه الله من السامعين هو الطاعة وهى الاستسلام لكلام الله باتباعه كما قال :
" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه "
وأما البكاء خوفا والقشعريرة والذهول فكفر بكلام الله لأن من يفعل ذلك لا يطيع كلام الله وهو ما نهى الله عنه فقال :
"ولا تكونوا من الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون"

فما هى الفائدة من سماع الكلام وعد تنفيذ ه بحجة اذرف الدموع او الذهول ؟
وخطأ ابن تيمية من جعل طريقه غر طريق الصحابة والتابعين فقال :
"فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه أحب الرجل مطلقا وأعرض عن سيئاته وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا وأعرض عن حسناته محاط ( ؟ وحال من يقول بالتحافظ ( ؟ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه وما يحمد عليه وما يذم عليه وما يحب منه وما يبغض منه فهذا هذا"
قطعا المطلوب هو اتباع الوحى المنزل من الله وليس اتباع الصحابة لأنهم يخطئون ويصيبون كما قال تعالى :
" اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم "
وتحدث عن أن التصوف ولد في البصرة وتحدث عن تعريفه كما قالوا فقال :
"وإذا عرف أن منشأ " التصوف " كان من البصرة وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد مما له فيه اجتهاد كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم : " صوفي " وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال ثم " التصوف " عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه كقول بعضهم : " الصوفي " من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر التصوف كتمان المعاني وترك الدعاوى وأشباه ذلك : وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون كما قال الله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي ؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه فكان الصديق من أهل هذه الطريق كما يقال : صديقو العلماء وصديقو الأمراء فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة إنهم صديقون أيضا كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقي زمانهم والصديق في العصر الأول أكمل منهم والصديقون درجات وأنواع ؛ ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب عليه وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم ؛ فطائفة ذمت " الصوفية والتصوف " وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم و " الصواب " أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج مثلا ؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل : الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ؛ في " طبقات الصوفية " وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد فهذا أصل التصوف ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع وصارت الصوفية " ثلاثة أصناف " صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم فأما " صوفية الحقائق " : فهم الذين وصفناهم وأما " صوفية الأرزاق " فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك ؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط : ( أحدها العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم و ( الثاني التأدب بآداب أهل الطريق وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها و ( الثالث أن لا يكون أحدهم متمسكا بفضول الدنيا فأما من كان جماعا للمال أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة ولا يتأدب بالآداب الشرعية أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك وأما " صوفية الرسم " فهم المقتصرون على النسبة فهمهم في اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم "
وكل هذا الحديث مخالف لكتاب الله فلا وجود إلا لمرتبتين :
الأولى المجاهدون في سبيل الله
والثانية القاعدين عن الجهاد والأولى أفضل من الثانية في درجة الجنة كما قال تعالى :
" فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"

وكلمة الصديق والشهيد وأمثالها كلمات تطلق على كل المسلمين فكل مسلم لابد أن مصدق بالوحى ومنه صدقه كما قال تعالى " والذى جاء بالصدق وصدق به" وكل منهم لابد أن يكون شهيدا على الكفار في القيامة كما قال تعالى" لتكونوا شهداء على الناس"
وتحدث عن اسم الفقير فقال :
"وأما اسم " الفقير " فإنه موجود في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ؟ " والفقراء والفقر " أنواع : فمنه المسوغ لأخذ الزكاة وضده الغنى المانع لأخذ الزكاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب } والغنى الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة والله سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع ؛ لكن ذكر الله الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية فقال في الأولى : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } - إلى قوله - { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } وقال في الثانية : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } - الآية إلى قوله - { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } وهؤلاء " الفقراء " قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم وقد تنازع الناس أيما أفضل : الفقير الصابر أو الغني الشاكر ؟ والصحيح : أن أفضلهما أتقاهما ؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم ثم الأغنياء يحاسبون فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير كانت درجته في الجنة أعلى وإن تأخر عنه في الدخول ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه ؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في اصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد وهو من جنس التصوف فإذا قيل : هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق والآداب ونحو ذلك وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل : الفقير أو الصوفي ؟ فذهب طائفة إلى ترجيح الصوفي كأبي جعفر السهروردي ونحوه وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير - كطوائف كثيرين - وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك وأكثر الناس قد رجحوا الفقير والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما فإن كان الصوفي أتقى لله كان أفضل منه وهو أن يكون أعمل بما يحبه الله وأترك لما لا يحبه فهو أفضل من الفقير وإن كان الفقير أعمل بما يحبه الله وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة و " أولياء الله " هم المؤمنون المتقون سواء سمي أحدهم فقيرا أو صوفيا أو فقيها أو عالما أو تاجرا أو جنديا أو صانعا أو أميرا أو حاكما أو غير ذلك قال الله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } وهذا الحديث قد بين فيه أولياء الله المقتصدين أصحاب اليمين والمقربين السابقين فالصنف الأول : الذين تقربوا إلى الله بالفرائض والصنف الثاني الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم كما قال تعالى وهذان الصنفان قد ذكرهم الله في غير موضع من كتابه كما قال : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } وكما قال الله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } { على الأرائك ينظرون } { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } { يسقون من رحيق مختوم } { ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } { ومزاجه من تسنيم } { عينا يشرب بها المقربون } قال ابن عباس : يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا وقال تعالى : { ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا } { عينا فيها تسمى سلسبيلا } وقال تعالى : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } { وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } { والسابقون السابقون } { أولئك المقربون } وقال تعالى : { فأما إن كان من المقربين } { فروح وريحان وجنة نعيم } { وأما إن كان من أصحاب اليمين } { فسلام لك من أصحاب اليمين } وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع والله أعلم "
والفقير كما بين ابن تيمية كلمة تطلق على الفقير بمعنى المحتاج للمال كما قال تعالى { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"كما تطلق على المجاهدين الذين أصيبوا بعجز حركى ولا يقدرون على ممارسة مهنة ما كما قال تعالى " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض }
وأما أولياء الله فكلمة عامة فكل مؤمن ولى لله كما تعالى " "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون"
ومن ثم فهو تعبير لا يختص بطائفة من المسلمين والأفضلية كما سبق التوضيح هى في التصنيف مجاهد وقاعد وليس هناك أى تصنيف أخر يبين الفضل إلا هو

اجمالي القراءات 1139