كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الخامس : كيف نقيم دولة اسلامية علمانية
إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية : ( 2 ): الايمان بحتميات القضاء والقدر

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٩ - يناير - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية : ( 2 ): الايمان بحتميات القضاء والقدر

كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الخامس : كيف نقيم دولة اسلامية علمانية:

 الفصل الرابع : إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية : ( 2 ): الايمان بحتميات القضاء والقدر

أولا  

 1 ـ تأهبت للحصول على درجة استاذ مساعد عام 1985 بتأليف خمسة كتب : ( الأنبياء فى القرآن الكريم / حركات إنفصالية فى تاريخ المسلمين / العالم الاسلامى بين عصرى الخلفاء الراشدين والخلفاء العباسيين / غارات المغول والصليبين / تاريخ التربية والفكر فى الحضارة الاسلامية ) ، قررتها على طلبة جامعة الأزهر ، حيث كنت أدرّس فى 11 كلية فى القاهرة والأقاليم ، ولم يكن يبقى لى سوى يوم واحد فى الاسبوع أتابع فيه طبع الكتب الخمسة.

2 ـ فى مارس 1985 كانت الكتب مع الطلاب . وفيها إنكار شفاعة النبى وإنكار عصمته ورفض تفضيله على الأنبياء . إنتشر هذا داخل محيط الطلبة فى الجامعة ، ووصلت أصداؤه الى شيوخ السنيين والصوفية فى القاهرة . كان اشهرهم الشيخ محمد زكى ابراهيم ( قائد العشيرة المحمدية ) الذى أرسل بلاغات الى شيخ الأزهر ورئيس الجامعة يطالبهم بفصلى من الجامعة ، وأرسل الى رئيس الوزراء وقتها كمال حسن على ( تولى الوزارة فى 16 يولية 1984 ) ، يهدد فيها بتسيير مظاهرات عارمة فى القاهرة ، كان كمال حسن على يعانى صعوبات فلم يكن محتاجا للمزيد ، لذا أرسل رسالة حازمة لرئيس الجامعة محمد السعدى فرهود مفادها لماذا تسكتون على هذا الرجل ؟ إن كان ما يقوله صحيحا إعلنوه ، وإن كان باطلا عاقبوه . ( وقد تم عزل كمال حسن على سريعا فى 4 سبتمبر 1985، وعاش مغمورا نسيا منسيا الى أن مات فى 27 مارس 1993 !. )

3 ـ فوجئت فى ليلة 5 مايو 1985 بوفد من أساتذة قسم التاريخ الذى أعمل فيه يطرقون باب شقتى المتواضعة فى حىّ المطرية ، واخبرونى بأن قرار رئيس الجامعة قد صدر باحالتى للتحقيق ووقفى عن العمل ومصادرة مسحقاتى المالية ومنعى من السفر والترقية لأستاذ مساعد . وإن موعد محاكمتى صباح الغد . ولكى أنجو فلا بد أن أعترف بالخطأ وأعتذر عنه ، وينتهى الأمر . رفضت ، قالوا إنك ( صاحب عيال فلا تعرضهم للفقر ، وإنا لم نصل الى هذه المكانة بسهولة ) ، قلت لهم : لو كان رزقى ورزق أولادى فى الأزهر لاتخذته إلاها من دون الله ؟

4 ـ بعدها بدأت المحاكمة ، وأخبرت زوجتى فأيدتنى فى موقفى مستعدة للتضحية . كنا وقتها فى شهر رمضان ، ولم أكن مستعدا لقطع المرتب . كان عندى أربعة أطفال ، وعلىّ إلتزامات عائلية .

5 ـ أيقنت أننى دخلت فى صراع تعدّى الأزهر الى نظام الحكم نفسه ، وتدخلت فيه السعودية خصوصا بعد عودة العلاقات معها ، وقبلها كانت (رابطة العالم الاسلامى ) تؤازر الأزهر ضدى ، وأسّسوا مركز السيرة والسُنّة بميزانية هائلة ، وعقدوا مؤتمرات تدعو لقتلى بتهمة الردة ، منها مؤتمر فى اسلام أباد تحت رعاية الرئيس ضياء الحق ، وقد لقى مصرعه فى 17 أغسطس عام 1988 ، ثم مؤتمر أخر فى جدة بالسعودية . أثناء ذلك كنت أتحدّاهم بالخطب فى المساجد وإذاعة ما جاء فى كتبى ، ثم كان إصدارى كتاب ( المسلم العاصى : هل يخرج من النار ليدخل الجنة ) فأصدر مبارك قرارا بسجنى مع أول مجموعة من أهل القرآن فى نوفمبر 1987 .

6 ـ دخلت فى جدال مع النفس إستمر من وقتها حتى تركت مصر 2001 . كان هذا الجدل يتكرر مع كل إستدعاء لأمن الدولة ، وكل خطبة جمعة فى المساجد السنية المحيطة بالعمارة التى أسكن فيها ، ومع كل تهديد من المتطرفين من حولى . تركز الجدل مع الحتميات والقضاء والقدر، فهم يخيفوننى بالفقر وبالموت وبالسجن والتعذيب وبتضييع أولادى تبعا لذلك . فهل هذا فى يدهم ؟ أم هى أقدار مكتوبة سلفا وحتميات لا مهرب منها ؟ معايشة القرآن الكريم تدبرا وذكرا أراحت القلب ، وأزالت الخوف .

7 ـ ما أذكره هنا هو وعظ لمن يتصدى للتغيير الى الأفضل مقتلعا الخوف فى نفسه .

ثانيا :

الحتميات :

الموت

  يتصرف الانسان كأنه لن يموت . فى جنازة الآخرين يبدو متأثرا ، ثم  ينسى ، وقد يخطط للزواج بأرملة المتوفى أو أكل ميراثه . عرفت من القرآن الكريم الإيمان أن :

1 ـ لا مهرب من الموت ، فهو يطاردنا . قال جل وعلا : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(78) النساء )، وهو يواجهنا . قال جل وعلا : ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) (8) الجمعة ). وأن موعد الموت مكتوب محدد فى أجله ووقته ، وكله بإذن الرحمن جل وعلا . قال جل وعلا : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (145) آل عمران ). ولو كان مقدرا لى القتل فى مكان محدد لذهبت اليه فى نفس الموعد . قال جل وعلا : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) آل عمران ).

2 ـ بالتالى :

2 / 1 : لا يمكن لأى بشر أن يميتنى قبل موعد موتى ، ولا أن يؤجّل موعد موتى .

2 / 2 : يسرى هذا علىّ وعلى خصومى . تكرّر قوله جل وعلا : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) آل عمران 185 ) ( الأنبياء 35 ) ( العنكبوت 57 ) .

2 / 3 : أمتاز عن خصومى :

2 / 3 / 1 : بأننى أدافع عن الاسلام والقرآن الكريم متمسكا بقوله جل وعلا : ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(الاعراف  185)( المرسلات 50) ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).

2 / 3 / 2 : لو قتلونى سيحققون لى أعظم أمنية ، أكون بفضل الرحمن جل وعلا ممّن قال عنهم رب العزة جل وعلا :

2 / 3 / 2 / 1 : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) البقرة )  

2 / 3 / 2 / 2 : (  وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)آل عمران )

المصائب المؤلمة

التعذيب :

لم أتعرض للتعذيب البدنى فى مصر. ولكنه كان إحتمالا قائما فإتّخذت عهدا على نفسى ألّا أستسلم للتعذيب ، سأقاوم حتى الموت ، وإذا قتلونى فقد فُزت . بالاضافة لذلك :

1 ـ هناك حدُّ أقصى من الألم يتحمله الانسان ، بعده يدخل فى الإغماء .  

2 ـ كل آلام الدنيا لكل البشر لو إجتمعت على فرد واحد فلن تساوى شيئا فى لحظة عذاب فى جهنم. فكيف بالخلود فيها ؟

المصائب عموما :

1 ـ هى بإذن الله جل وعلا ، ومن يؤمن بهذا يستريح نفسيا . قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (11) التغابن ).

2 ـ هى إبتلاء وإختبار يبدو شرا أو خيرا . قال جل وعلا : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (35) الانبياء ). الخير أو الشّر فيه حسب موقف الفرد ، إذا صبر وشكر فاز ، وإذا كفر وطغى خسر .

3 ـ الايمان مرتبط بهذا الابتلاء ليتبين صدقّ الايمان أو كذبه . قال جل وعلا : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت ).

4 ـ فى النهاية فكلها أقدار مكتوبة سلفا ولا مهرب منها. قال جل وعلا :( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (23) الحديد ). بهذا تستريح قلب المؤمن ، إذا يتخذ موقفا وسطا من حتميات المصائب .

الرزق :

أنواع الرزق

  الرزق الحقيقى المضمون ، ضمنه الله جل وعلا لكل كائن حىّ ، . قال جل وعلا :( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) (6 ) هود ) ،  ( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) ( 60 ) العنكبوت ) .أنه ما يدخل فى جسدك من هواء وطعام وشراب ـ وما يغطى جسدك من ثياب . والمكان الذى يحتله جسدك . هو يقوم على الاحتياج و الضرورة ، ومن رحمة الله جل وعلا أن جعل أشد الضروريات مجانا بلا ثمن ، ثم يوجد ثمن ضئيل لكل نوعية من الضروريات على حسب درجة الضرورة فيها ، ويرتفع الثمن  كلما قلّ حتياج لها ، فاذا لم تكن ضمن الاحتياجات أصلا أصبحت باهظة الثمن. أنت لا تستغنى بضع دقائق عن الهواء ( ألاكسجين ) لذا جعله الله تعالى مجانيا و باعد بينه و بين سيطرة الناس عليه. وتخيل مستبدا   يتحكم فى الهواء و تنفس الناس .. تخيل هذا وقل : الحمد لله تعالى رب العالمين .!!

 بعد الهواء المجانى لا يستطيع الانسان العيش بدون ماء أكثر من يوم أو يومين. ولهذا فالماء ـ تقريبا ، مجانى.  وإذا كان عزيز الوجود ـ كالصحراء ـ فان التكلفة فى الحصول عليه قد توازى القدرة على احتمال العطش. ثم يأتى الطعام ثالث الضروريات فتجد أرخصه هو أشده ضروره ؛ ملح الطعام مثلا هو أرخص مواد الطعام لأنه لا يستغنى عنه الجسد البشرى..أغلى أنواع الطعام هى الكماليات الضارة غالبا و التى يستحسن الابتعاد عنها. وهكذا فى اللباس ـ الى أن تصل الى الكماليات الحقيقية كالجواهر والأحجار الكريمة.. هى باهظة الثمن ، ومع ذلك تستطيع العيش بدونها ، بل ربما كنت الحياة أفضل بدونها.

المؤمن بالقرآن الكريم وحده يستريح لقول ربه جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)  يونس ).

الأولاد

1 ـ لستّ أنا الذى أرزق أولادى . أنا سبب فى رزقهم كما إنهم سبب فى رزقى . قال جل وعلا : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ  (31 ) الاسراء ) (  نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (151)  الأنعام ).

2 ـ وجود الأب فى حياة بنيه لا يعنى فلاحا لهم ، كما أن موته وتركهم أيتاما لا يستلزم ضياعا لهم . هناك أيتام كبروا وسط المحن وصنعوا لأنفسهم مجدا ، وهناك إبناء عاشوا عالة على ذويهم فإزدادوا بهم خمولا . المؤمن بالقرآن الكريم وحده حديثا يدعو ربه : ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) الفرقان )، ويتمنى أن يكونوا معا فى الجنة . قال جل وعلا : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ )  (23) الرعد )( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)  الطور )

أخيرا

هى وصفة قرآنية . قال جل وعلا : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء ).

ودائما : صدق الله العظيم ، ولو كره الكافرون .!

اجمالي القراءات 2025