كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الخامس : كيف نقيم دولة اسلامية علمانية
فى إقامة القسط أساسا للاسلام والدولة الاسلامية

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٨ - يناير - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

فى إقامة القسط  أساسا للاسلام والدولة الاسلامية

 كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الخامس  : كيف نقيم دولة اسلامية علمانية  

الفصل الأول : فى إقامة القسط  أساسا للاسلام والدولة الاسلامية

أولا :

1 ـ كان التغيير فى كوكب المحمديين يأتى من بريطانيا التى كانت لا تغيب عن أملاكها الشمس . هى التى قضت على الامبراطورية العثمانية وكانت الوريث الأكبر لها ، وهى التى أعادت تشكيل كوكب المحمديين . بعد الحرب العالمية الثانية تراجعت بريطانيا وحلّت محلها أمريكا. وتسلمت مفتاح السيطرة على كوكب المحمديين . مثلا : أمريكا ( جهزت) صدام حسين لحكم العراق ، وأوصلته الى حكم العراق ثم هى التى ( أجهزت ) عليه . ونفس الحال مع القذافى وصولا للحكم ثم قتلا .

2 ـ الاستعمار الحديث لم يعد يحتل الشعوب الأخرى بجنوده ينتشرون فيها يواجهون الشعوب المحتلة ، بل أصبح له مفهوم مختلف ، يكتفى بالقواعد العسكرية ، وتعيين مستبد من نفس الشعب ، ينهب الشعب ويقهره ، ويقوم بتهريب ثروة الشعب الى خزائن الغرب ، وبعد مقتل المستبد تضيع ثروة الشعب المنهوبة ، وبهذا تستولى أمريكا وحلفاؤها على ثروات المحمديين بسهولة . غير هذا تنهب بترولهم لتبيع لهم أسلحة يتقاتلون بها ، ومنها أسلحة انتهى عصرها ، وأسلحة فى طور التجريب والتدريب ، وكلها تحتاج الى حروب تشتعل فوق أجساد المحمديين وبأموالهم . هل هناك خيبة أقسى من هذه ؟

3 ـ أمريكا مطمئنة ، لأن الشعوب مجرد أصفار على الشمال لا وزن لها . تتجرّع الذّل والهوان راضية مستكينة ، والذى يعيش محنى الظهر لا بد أن يركبه راكب ، وهذا الراكب من نفس الشعب ، ولكن يستعين بقوة خارجية ، وبعد ركوبه وإستوائه على ظهر المركوب يستمر فى الاستقواء بمن أركبه ، يستورد منه السلاح وألات التعذيب والتنصت .

4 ـ وقد يصل الشعب الى خطر الجوع فتشتعل ثورة شعبية عاطفية ، وقد ينتج عنها إنفلات أمنى . هنا تسارع القوة الخارجية للتدخل عن طريق الجيش الذى تسيطر علي قادته ، فيقوم الجيش ( الوطنى الذى حتل ويحكم الوطن ) بتغيير رأس السلطة ، وربما يسمح لمعارضة المستبد لأن تحكم ، مدركا أنها لن تنجح لأسباب كثيرة ، منها الجهل والغباء وعدم الخبرة وأن الدولة العميقة ضدها ، فتفشل وتأخذ طريقها الى السجن ، ويعود الجيش للحكم أكثر إنصياعا لأمريكا ، وهذه خُلاصة التجربة المصرية فى الثورة على مبارك ، ووصول الاخوان المسلمين للحكم ، ثم إسقاطهم ليتولى مكانهم السيسى .

5 ـ بعد الحرب العالمية الثانية وبعد إستقلال مزعوم فى بلاد المحمديين إشتعلت المنطقة بانقلابات عسكرية تقوم بها جماعات حزبية أو تنظيمات سرية أو تشكيلات عسكرية. هذه الانقلابات هى الأسوأ ، فهى تحكم بالحديد والنار لأنها تتوقع تآمرا وتتحسّب له ، وتتسع سجونها لكل مشتبه فى ولائه ، ولا بد للمواطن المقهور أن يتفانى فى إعلان ولائه للمستبد ليأمن السجن والتعذيب والقتل . وحتى إذا هرب بحياته فأجهزة المستبد خلفه ، وتتخذ أهله رهائن . والأمثلة كثيرة ومن المعلوم فى تاريخهم وفى دينهم بالضرورة .

5 ـ الذى نتمناه فى أحلام اليقظة أن يقوم الشعب كله عن بكرة أبيه ـ من رجال ونساء ـ بوقفة تطلب القسط للجميع بلا إستثناء ، وتكون لهذا الشعب الواعى رؤية لدولة ديمقراطية حقوقية حُرّة تؤكد حرية الدين والرأى والتعبير ، وتعبر عن كل المواطنين ، تحميهم وتخدمهم . بإيجاز ( دولة إسلامية ) تطبق الاسلام السلوكى ، بما أسلفنا شرحه . هذا يستلزم تغييرا فى عقلية الناس ، يصل الى الجميع ويؤثّر فيهم بما يجعلهم يقومون وينهضون الى تحقيقه مهما إستلزم من تضحيات . هذا هو معنى أن يقوم الناس بالقسط .

ثانيا :   

 1 ـ إن الله جل وعلا أرسل كل الأنبياء وأنزل كل الرسالات الالهية ليقوم الناس بالقسط ، أى إن العدل أو القسط هو فرض الاهى يجب على الناس الجهاد لإقامته بينهم بالسلم أو بالقتال .  إن لم تنجح الرسالة الالهية فى جعل الناس يقيمون القسط ، وإن تحكّم الظلم وأضاع القسط  فإن الله جل وعلا انزل شيئا آخر من السماء هو الحديد ذو البأس الشديد ، وهو رمز السلاح والقتال . أى أنزل الله تعالى من السماء شيئين: الرسالات الالهية والحديد. الحديد لا ينتمى لكوكب الارض وانما هبط اليها وتركز فيها ليكون العنصر الأساس فى السلاح والقوة.  الرسالات الالهية نزلت أيضا من السماء لاصلاح أهل الارض باقامة العدل أو القسط بينهم . وبالقتال بالحديد يكون الجهاد ونصرة العدل والقسط ،أى نصرة الرسالات الالهية ، أى نصرة الله جل وعلا ، وهو جل وعلا الأعلم بأولئك المجاهدين الأبطال الذين ينصرونه بالغيب . هذا هو معنى قوله جل وعلا (  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحديد 25 ). هذا هو التنظير الاسلامى لاقامة القسط ، فالرسالات الالهية للبشر جميعا هدفها أن يقوم الناس بالقسط والعدل .فان لم يتحقق العدل والقسط بالطرق السلمية فلا مفر من اللجوء للحديد أى القوة لنصرة الرسالات الالهية وإقامة العدل والقسط.  

2 ـ لا يتعارض هذا مع القتال الدفاعى فى الاسلام . إن الله جل وعلا القوى العزيز شرع القتال ليس للاعتداء ولكن لدفع الظلم . ورد الاعتداء يكون بعد استنفاد كل الوسائل السلمية والممكنة لحقن الدماء ، فإذا ظل المعتدى الظالم سادرا فى القتل والتعذيب والسلب والنهب  متحديا رب العزة فقد تحتمت مواجهته بالحديد والنار بقدر المستطاع .  وعندما يموت المناضلون قتلا يكون ذلك فى سبيل الله جل وعلا.

3 ـ إن ( إقامة القسط ) تمر بمرحلتين :

3 / 1 : المرحلة الأولى :  الدعوة السلمية للظالم المستبد لكى يعتدل أو يعتزل ، ولا يستطيع الظالم العريق فى الظلم أن يتراجع عن ظلمه لأنه فى العادة يكون قد تعود على طاعة الناس وخضوعهم له وإستمرأ سفك دمائهم ، وأدمن ترويعهم وتعذيبهم .  ثم هو مغرور بقوته ولا يتصور نفسه يعود شخصا عاديا مثل الناس الذين يحتقرهم ويستعبدهم . ولا يستطيع المستبد المفسد أن يقيم إصلاحا فالله جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين . والمستبد الفاسد حتى النُّخاع حتى لو أعلن عزمه على الاصلاح فلن يكون سوى التخلص من بعض المغضوب عليهم من حاشيته ، ويبقى هو رأس الفساد ، والذى يجتمع حوله أعوانه المفسدون . الاصلاح الحقيقى يعنى محاصرة وقطع دابر المفسدين ومحاسبتهم ومعاقبتهم ، فكيف يعاقب المفسد نفسه . لذلك فإن الدعوة السلمية لاقامة القسط لا بد أن يقابلها المستبد الظالم بالعنف والقتل والسجن والتعذيب . وهذا يعنى تعرض المسالمين العزّل الى حرب وقتل وقتال ليسوا مؤهلين لمواجهته ، ولو واجهوه فالنتيجة فى كل حال هو القتل .

3 / 2 :

المرحلة التالية : هى الدفاع الشرعى عن النفس لارغام المستبد على الرحيل ، والنتيجة أيضا على كل حال هى القتل من الجانبين ، والقتلى من جانب دعاة الحق والقسط هم فى سبيل الله جل وعلا .

4 ـ نحن هنا نحكم على الظاهر طبقا للاسلام السلوكى ، وهو من يقف داعيا للقسط وإقامة القسط ومواجهة الظلم والاستبداد ، ثم يلقى حتفه بسبب دعوته السلمية أو بسبب وقوفه سلميا فى مظاهرات تدعو للقسط ومواجهة الظلم ، أو أن يقاتل فى سبيل إقامة القسط . أما عقيدته فمرجعها الى الله جل وعلا . ومن الطبيعى ان يظن كل انسان ان عقيدته هى الحق المطلق . ولكن المهم لدينا هنا اننا نتحدث عن داعية او ناشط او مقاتل لا يفرض رأيه على أحد ، بل هو يؤمن بالحرية المطلقة فى الدين للجميع ، أى لا إكراه فى الدين ولا اضطهاد فى الدين. وهو يعتبر الحرية الدينية ضمن العدل والقسط ، لأننا خصوم فى العقائد،ومن الظلم أن يكون الخصم حكما على خصمه ، بل إن العدل أن يؤجل الحكم فى الاختلافات العقيدية بين البشر الى صاحب الشأن ، وهو الله جل وعلا الذى خصّص للدين يوما هو يوم الدين أو يوم الحساب ليحكم فيه وحده بين البشر فيما كانوا فيه يخنلفون فى الدنيا . قال جل وعلا : (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر 46 ). هذا الداعية او الناشط او المقاتل يؤمن بأن العدل ودفع الظلم هو أساس الدين الحق ، وبالتالى لا يبيح لنفسه أن يظلم أحدا أو أن يعتدى ظالما على أحد ، ولا أن يسعى لكى يصل الى السلطة أو أن يعلو فى الأرض ظلما وفسادا واستبدادا . هو يريد العدل لنفسه وللجميع والحرية السياسية والدينية لنفسه وللجميع . يعلن هذا ويتمسك به . ولومات قتيلا بسبب هذا فقد مات قتلا فى سبيل الله حسب الظاهر لدينا.

5 ـ هذا لا يسرى على من يقاتل أو من يسعى للوصول الى السلطة لكى يحلّ محل المستبد الظالم ، أو من يخدع الناس بالشعارات الدينية يستغل إسم الله جل وعلا ودينه يتلاعب بالشعارات البراقة من العدل وتطبيق الشريعة وعينه على العرش والكرسى . أولئك لا يقلون ظلما وحقارة عن المستبد القائم فى السلطة . أولئك إن دخلوا فى الحركة المطالبة بالعدل أفسدوها وجرّوها الى خلافات سياسية وجدالات مذهبية تفسد الحركة وتفشلها، ولو نجحت الحركة المطالبة بالعدل فسرعان ما يركبون موجتها ويصلون بها الى الحكم ، فتستمر بهم مسيرة الاستبداد والفساد أشدّ وأقسى . وبسبب هذا الصنف من البشر يتم إفساد البشر ، وتنتهى الحركات المطالبة بالعدل الى نظم استبدادية ويسكن الثوار الجدد مساكن الذين ظلموا ويحتلون قصور السلاطين ويتشبهون بهم فى الظلم والقهر بحيث يتحسر الناس المظلومون على العهود السابقة ، ويحتاج المظاليم الى ثورة جديدة ..وتتكرر المأساة . والأمثلة كثيرة ، بل هى تشكّل معظم التاريخ (الثورى ) فى العالم شرقا وغربا .

أخيرا

1ـ هى دعوة للفرد المصرى والعربى أن يهب مخلصا لله جل وعلا مطالبا بالعدل والحرية موقنا أنه لو مات قتلا فهو فى سبيل الله جل وعلا. هى أيضا دعوة للاصلاح السلمى قبل ان يغرق العرب والمسلمون فى حمامات دم .

2 ـ نعيش الآن عصر القرية الكونية وثورة الاتصالات والمعلومات حيث يعلم الناس الأخبار العالمية وقت حدوثها ، بهذا ينبغى أن يبدأ عهد الحرية والديمقراطية والعدل وحقوق الانسان ، ويبدأ الفرد العربى يغيّر من نفسه ويطالب بحقه وينزع الخوف من قلبه .  

3 ـ ولكن هذا يستلزم تغييرا ثقافيا متعمقا ينبع من الاسلام نفسه . 

اجمالي القراءات 2373