كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الرابع : علمانية الشريعة فى الدولة الاسلامية
حدود تدخل الدولة الاسلامية فى حياة المواطنين

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٢ - يناير - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

حدود تدخل الدولة الاسلامية فى حياة المواطنين

 كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الرابع : علمانية الشريعة فى الدولة الاسلامية 

الفصل العاشر : حدود تدخل الدولة الاسلامية  فى حياة المواطنين

أولا :

 لمجرد التذكير

1 ـ الشورى الاسلامية / الديمقراطية المباشرة هى أساس هيكل الدولة وشكلها ، إذ تعنى وجود جمعية عمومية تجتمع ضمن نظام متكامل للادارة المحلية أو الحكم المحلى اللامركزى الذي يصل الى كل قرية وضاحية وحى فى المدن الكبرى ، فكل مجتمع صغير يدير ويباشر شئونه بنفسه ، فى جمعية عمومية تتكون من كل افراده البالغين من الذكور والاناث ، لهم سجل حضور وغياب ، وتوقيع بالحضور ، وتسجيل للمناقشات ، وحفظ لها لتكون مستندا . وهناك من يقوم على هذا ، وهناك من تعينهم الجمعية العمومية فى الوظائف الادارية والأمنية ، وفى الوظائف التى تستلزم خبرة وتخصصا ، أو ( أولو الأمر ) ولا بد من شخص مسئول يدير المشهد ، ليس حاكما بالمنصب المعروف المألوف ، ولكن يدير ويشرف ، وهو تحت رقابة الجمعية العمومية تملك محاسبته وعزله ، شأن باقى الموظفين . أما الشئون العامة للدولة من العلاقات الخارجية والدفاع عن الدولة فهو مقسوم بين أهل التخصص " أهل الذكر أولو الأمر " وبين المشاركة الشعبية بالرأى ، أى ترسل قرية او كل ( حى ) بالرأى الذي ترتضيه في الأمور المطروحة للمشورة الجماعية فيما يخص الوطن كله .

2 ـ ولا ريب ان التقدم التكنولوجى في وسائل الاتصال والاعلام المرئى والمسموع والمقروء قد الغى المسافات بين الدول وليس فقط بين بلاد الوطن الواحد ، وعليه فان عصرنا الراهن هو انسب العصور للمشاركة الشعبية الكاملة ، حيث أصبح من الصعب اخفاء الحقائق عن الشعب ، وحيث اصبح من السهولة بمكان معرفة اتجاهات الرأى العام في اسرع وقت ، واذا تدخلت وسائل الاتصال الحديثة في اجراءات الشورى الكاملة لكل ابناء الوطن فسيكون ذلك سهلا وميسورا ومتاحا في نفس الوقت لكل بلد . اذن فالشورى الاسلامية التى لا تقبل التمثيل النيابي هى التى توافق عصرنا الراهن المفتوح ، عصر الفرد العادى وحقوق الانسان الذي لم يعد فيه مقبولا أن يفكر أو يتحدث شخص او جماعة بالنيابة عن الشعب.

3 ـ مع هذا فإن تدخل الدولة الاسلامية محدد ، ويتيح مشاركة فعّالة للأفراد والجمعيات الأهلية . خصوصا مع محدودية إلزام الدولة للافراد . وهذا هو موضوعنا .

 ثانيا :

مدى إلزام السلطة الاجتماعية للمواطنين

1 ـ السلطة الاجتماعية هى التى تقوم بإدارة شئون الدولة الاسلامية ، وليس الحكم، لأن الحاكم هو الشعب الذي يعين موظفين ينفذون ما يريده الناس.   

2 ـ نظام الحكم في الدولة الاسلامية حقوقي، يضمن تحقيق :

2 / 1 : العدل بأعلى مستوى بشري ممكن بين الأفراد، لذا فإن منصب القاضى هو الأهم ، لأنه الذى يقيم القسط ، وهو الأساس فى الشرائع الالهية كلها .

2 / 2 : الحرية المطلقة في الدين لجميع الأفراد: (عقيدة وعبادة ودعوة).

2 / 3 : العدل السياسي بالديمقراطية المباشرة بدءاً من القرى إلى المدن الكبرى.

2 / 4 : أمن المواطنين وأمن الوطن . والوطن هنا ليس مجرد الأرض بل كل المواطنين على قاعدة المساواة الكاملة والتامة.

3 ـ والدولة الاسلامية ـ في نظام الحكم والشعب ـ هي التي تملك الأرض ومواردها الاقتصادية وما فيها من ثروات ، ولكنها لا تقوم بالانتاج، فالانتاج هو مهمة الأفراد، فلكل فرد حق السعي في الارض والتملك والانتاج طبقاً لتكافؤ الفرص، ويدفع ضرائب للدولة . وللورثة حق طالما يحسن الوريث إستغلال حقه، فلو تبين سفهه وعجزه تعود ثروتهم للسلطة لتديرها له وتعطيه ما يكفيه. وعلى الدولة ممثلة في نظام الحكم تيسير الاستثمار وسبل التملك وضمان الحقوق الاقتصادية وضبط المكاييل والموازين ومنع كل وسائل الفساد، ولها أن تسنّ القوانين التي تؤكد الشفافية وتطارد الفساد، وتضمن بالضرائب كفالة العدل الاجتماعي بإعطاء حقوق الفقراء والمساكين وابناء السبيل واليتامى والارامل والسائلين والمحتاجين. وجهاز الدولة الإداري ضئيل، ومسئوليته في الاشراف والتيسير والأمن والعدل ومكافحة الفساد، وسلطته في الالزام هي فيما يخص حماية الناس وحقوقهم ويخدم مصالحهم الشرعية. ويقوم بهذه السلطة مسئولو الأمن والقضاء والهيئات التنفيذية ..وغيرها . ومن المستحسن الاستفادة من التشريعات الغربية التى لا تتناقض مع القرآن الكريم وشريعته القائمة على التيسير والتخفيف ومنع الضرر .

4 ـ تتشكل السلطة الاجتماعية من هيئات يختارها المواطنون ــ وفق  نظام الشورى ـ من أهل الاختصاص، قاضياً أو ناظراً أو مديراً أو مفتشاً في الاسواق أو جندياً أو قائداً ، كل في مجال تخصصه ، سواء بتقدير الأمر أو بإصداره، أو بتنفيذه، وهو مساءل أمام الشعب في الجمعية العمومية التي تم أفراد القرية أو المدينة أو الحي. هذا بالاضافة إلى المسئولين على مستوى الأمّة والمجتمع كله في الدفاع والأمن العام والعلاقات الخارجية والاجراءات المالية والاقتصادبة العامة والقومية والوطنية مثل سك العملة والتعليم ومواجهة الأخطار والري والصرف على مستوى الوطن.

ثالثا :

إلزام السلطة الاجتماعية

1 ـ  بالإجراءات العقابية الايجابية :

 وهذه تشمل عقوبة الزنا وقذف المحصنات وعقوبة قتل النفس وقطع الطريق والسرقة والشذوذ الجنسي. وتشديد التحريم فى الزنا يوجب  منع المواخير وبيوت الدعارة .

وتسقط العقوبة بتوبة الجاني، وبالاضافة إلى التوبة تستلزم جريمة القتل تقديم الدية بديلا عن القصاص. ومن لوازم التوبة إرجاع المظالم والاعتذار للمظلوم ودفع الغرامات المترتبة على جريمته. وذلك ما يدخل في إطار التقدير البشري، أما صدق التوبة والعزم على عدم العودة للمعصية وتصحيح الإيمان فهي أمور قلبية تخرج عن تقدير البشر، ويترتب عليها الغفران يوم القيامة أو الخلود في النار.

2 ـ بالعقاب السلبي بالمنع والتفريق:

2 / 1 : قد يشاع عن امراة بأنها سيئة السلوك ولكن يتعذر ضبطها متلبسة، ولكن القرائن والشواهد تؤكد احترافها أو إدمانها للفاحشة، وتصل بشأنها عريضة للقاضى المختص ، فيكون له أن يطلب شهادة أربعة شهود على سوء سلوكها فإذا شهدوا أمامه يأمر بالتحفظ عليها مخصص لمنعها من إشاعة الفاحشة وتظل كذلك إلى أن تتوب و تتزوج أو تموت . (النساء 15).

2 / 2 : وقد يرمي الزوج زوجته بالزنا ولم يكن معه شهود يثبتون عليها التهمة، وحينئذٍ يكون التلاعن بين الزوجين أمام القاضى ، وبعده يتم التفريق بينهما وتسقط عقوبة القذف عن الزوج وعقوبة الزنا عن الزوجة.  (النور6: 9).

3 ـ إلزامها بالإجراءات الاقتصادية:

3 / 1 : اليتيم :

3 / 1 / 1 : تلتزم برعاية اليتيم عموما تنفيذا لأوامر قرآنية كثيرة : منها: (البقرة  220)، وتلتزم برعاية مال اليتيم  ( الأنعام  ( 152 )( الاسراء 34 )( النساء ( 2 )،( 10 )    

3 / 1 / 2 :  الحجر على مال اليتيم إذا ظهر أنه سفيه ،لأن المال حينئذٍ يكون حقاً للمجتمع. فى البداية فعلى السلطة الاجتماعية مراقبة موضوعات الميراث ، وفى حالة وجود يتيم وارث يعين القاضى المختص لجنة لحفظ ورث اليتيم وتعيين وصى لتنميتها ، تحت الاشراف والمتابعة . فإذا بلغ اليتيم الحُلُم يعقد له لجنة لاختباره راشدا أو سفيها ، فإذا تبين رشده تسلم إرثه ، وإذا ظهرت سفاهته عيّن القاضى وصياً على مال السفيه ، ويكون للسفيه حق الربح من تشغيل المال ، ويقرر القاضى المختص محاسبة الوصي وتقدير أجره عن الوصاية إذا كان محتاجاً للأجر، وإذا تم تسليم اليتيم ماله كان ذلك على يد شهود : ( النساء 5 : 6).

 3 / 2 ـ وتلتزم بإقامة المكاييل والموازين بالقسط ، تنفيذا لأوامر الله جل وعلا :   (الانعام 152). ( الاسراء35)، (المطففين :1 : 3 )، (الرحمن 8: 9).

3 / 3 : إلزامها بالتدخل في الحالات الزوجية الشخصية:

3 / 3 / 1 : إذا خيف حدوث شقاق بين الزوجين تدخل القاضى لمنع ذلك الشقاق بإختيار حكم من أهل الزوج وحكم آخر من أهل الزوجة ليتعاونا في تقريب وجهات النظر والصلح بين الزوجين : (النساء 35).

3 / 3 / 2 : والمطلقة في فترة العدة يتدخل القاضى في تقدير حقها في النفقة والسكن بالمعروف ، (الطلاق6: 7).

3 / 3 / 3 : يشمل هذا منع القاضى للعضل أو منع الأرملة أو المطلقة البائن من الزواج ( البقرة 232 ) ( النساء  19 )، كما يشمل سائر حقوق المرأة . وهذا موضوع شرحه يطول .

رابعا :

هل للسلطة الاجتماعية أن تُلزم الناس باجتناب الخمر:

1 ـ مالم يصدر قانون يعبر عن رأي الأغلبية ويكون تنفيذه ملزماً للجميع فليس من حقها إلزام الناس باجتناب الخمر. ولكن يبقى العلاج القرآني هو الأمثل.

ليس في القرآن عقوبة دنيوية على تناول الخمر وإن كان تحريمها جاء في صورة التغليظ والأمر بالاجتناب: ( المائدة 90: 91.) والأمر بالاجتناب والنهي عن الاقتراب هما أشد أنواع التحريم. لقد قرن تشريع القرآن الخمر والميسر بلوازم الشرك من الأنصاب والأزلام واعتبر الجميع رجساً من عمل الشيطان وأمر المؤمنين باجتنابه والابتعاد عنه إذا أرادوا الفلاح، وأوضح أن هدف الشيطان من نشر إدمان الخمر والميسر هو إيقاع العداوة بين المؤمنين وصدهم عن ذكر الله والصلاة. ومن  المتوقع أن يكون علاج القرآن لإدمان الخمر والميسر بنفس المنطلق العقلي الذي أرساه في موضوع اتخاذ القبور المقدسة، ليس بإلزام السلطة وعقابها ولكن بتوضيح خطورتها لينأى الإنسان عنها بدافع ذاتي.

2 ـ والواقع ان التربية السليمة هي الأسلوب الأمثل في إبعاد النشء عن هذا الرجس، أما العقاب فلا يُسهم الا في انتشاره خلسة بين الناس ، فالممنوع محبوب . وطالما تتعلق الخمر والميسر بصناعة الشيطان فهو الذي يزين للناس تناولها في غيبة القوانين التي تعاقب عليها، ولكن إذا تربي المؤمن على تقوى الله وطاعته في السر والعلن كان في مأمن من غواية الشيطان وصناعته، وهكذا فمهما تكاثرت  قوانين العقوبات في موضوع الخمر وملحقاتها فلن تزيدها إلا انتشاراً طالما غفل الناس عن حكمة القرآن في ترك قضية التحريم في إطار علاقة الإنسان بربه  وإذا كان يخشى الله حقاً فيكفيه أن الخمر والميسر من عمل الشيطان شأنهما شأن الأنصاب والأزلام، وإن فلاح المؤمن في الدنيا والآخرة مرتبط  باجتنابه هذه الصناعة الشيطانية . والاجتناب من أشد تعبيرات التحريم إذ يعني الابتعاد عن كل ما له صلة بالخمر والميسر لقطع الطريق بينها وبين حواس المؤمن، ويبدأ اجتناب الخمر والميسر بقطع الطريق على الشيطان  حين يوسوس للإنسان أن يذوق التجربة الأولى أو أن يحضر مجالس الأنس، وغالباً ما يبدأ الإدمان بهذه الخطوة البسيطة ويظل الإنسان يدفع الثمن من صحته وكرامته وأمواله وسعادة أسرته طيلة حياته. إن الخمر والميسر والأنصب والأزلام من أشد أعداء العقل. وكل منها يحاول تغييب العقل وتدميره بطريقة مختلفة وبنفس القدر يحاول القرآن حماية العقل ويوجه المؤمن لاحترامه.. ومن هذا المنطلق كان تحريم الخمر والميسر بتلك الصورة التي تحترم الإنسان وعقله، إذ نجعله حارساً على عقله دون إلزام من حاكم قد يكون هو نفسه من السكارى في غير أوقات العمل الرسمية.

أخيرا

1 ـ في إطار مقاصد التشريع في حفظ الحقوق والتيسير والتسهيل يمكن للهيئة التشريعية أن تسنّ القوانين، مثل منع التدخين في بعض المناطق ومنع المخدرات، وتنظيم تعاطيها للعلاج مثلا .. كما يمكن أن تنشىء وتستحدث وظائف لتتمكن من خدمة الفرد والأفراد .

2 ـ ولا شك أن مجتمعا حيويا متفاعلا بالتعاون على البر والتقوى والتواصى بالحق والصبر جدير بتحقيق هذا .

اجمالي القراءات 1785