الحق فى الأمن بين المجتمع والفرد
كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الثالث : الدولة الاسلامية وحقوق المواطن
الفصل الخامس : الحق فى الأمن بين المجتمع والفرد
أولا :القاعدة الأساس : ( الأمن المطلق يعنى الخوف المطلق )
تجربة شخصية :
1 ـ فى أوائل نوفمبر 1987 وقبيل الفجر جاء جيش من الأمن المركزى توقف فى أول شارع المعاهدة بالمطرية بالقاهرة وحتى آخر الشارع عند كوبرى مسطرد . والغرض هو عمارة قرب كوبرى مسطرد ، يسكن فى الشقة الأرضية بها كاتب مسالم لا يملك سوى قلمه ، فى حياته لم يلمس بيده مسدسا أو رصاصة . إحتل الجنود العمارة ، ووقف أمام كل شقة مجموعة يحذرون سكانها من الخروج . إقتحم بعضهم شقتى ومدافعهم الرشاشة فى وجهى ، ووجهوها الى أولادى الصغار النائمين ، عبثوا بمكتبتى وأوراقى وأخذوا منها عشوائيا ما أرادوا . واصطحبونى الى المجهول . كانت سيارة الأمن المركزى التى أركبها تسبقها سيارات وبعدها سيارات . كان الفرعون حسنى مبارك يحكم بمنطق الأمن المطلق . يملك الجيش وأجهزة المخابرات والشرطة ويحتكر السلاح وإستعماله . أورثه هذا الأمن المطلق الخوف المطلق ، بحيث إنه إرتعب من كاتب مثلى مسالم قليل الحيلة يدعو بكل أدب الى الاصلاح . رأى حسنى مبارك دعوة الاصلاح خطرا محققا على أمنه المطلق . لأن الخوف المطلق قرين إحتكار الأمن مطلقا . وأنا فى سيارة الترحيل للسجن كنت أستعين ضد الخوف بقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الأنعام ) .
2 ـ خرجت من السجن لأجد حملة صحفية تدعو لقتلى ، بدأت قبل السجن وإستمرت ضارية بعده . هربت بحياتى الى أمريكا ، ولبثت فيها تائها عشرة أشهر ، ثم عدت عارفا بأنهم سيقبضون علىّ فى المطار . لم يخيبوا ظنى . ورأيت نفسى فى سيارة الترحيلات للسجن الأسوا فى ( أمن الدولة ) ، موكب من السيارات قبل وخلف السيارة التى أركبها . قلت لنفسى ضاحكا : نفس ( التشريفة ) . مثل موكب حسنى مبارك وحراسته . أنا سجين وهو أيضا سجين . إحتكاره للأمن المطلق جعله سجين الخوف المطلق . ولأنى كنت أتوقع السجن فكنت وأنا فى سيارة الترحيل أستعين ضد الخوف بقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الأنعام ) .
فرعون موسى إمام المستبدين
1 ـ هو النموذج الكلاسيكى للمستبد الذى يحتكر الأمن المطلق لنفسه والملأ التابع له ، وأورثه هذا خوفا مطلقا . أجبر بنى إسرائيل على عبادته ( الشعراء 22 )، ومع ذلك لم يثق فيهم ، وخافهم وهم عبيد سلطانه وتحت قهره ، أو كما قال له الملأ ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف ). قبلها ووقت مولد موسى كان هذا الفرعون يذبح الأطفال الذكور من بنى إسرائيل ، جواسيسه يرقبون أى مولود ، وزبانيته يذبحونه . إمتلاكه الأمن المطلق جعله فى خوف مطلق على سلطانه وخوف مطلق من طرده من البلد الذى يملكه ، وعندما رأى وقومه معجزة موسى كان تفسيرهم أنه : ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) الاعراف ) ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) طه ). وقالها له فرعون : ( أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) طه ). هنا التناغم بين فرعون والملأ .
وحين آمن السحرة إعتبر فرعون هذا تآمرا ، وعاقبهم أفظع عقوبة : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) الأعراف ).
أوصله خوفه المطلق الى أنه رفض السماح لهم بمغادرة مصر ، وطاردهم وهم يهربون . وغرق وقومه نتيجة الخوف المطلق الذى جاء نتيجة إحتكاره الأمن المطلق .
2 ـ كوكب المحمديين ملىء بفراعنة لا شك أنهم يعرفون ما جاء فى القرآن عن فرعون موسى ، ولكنهم يكفرون بالقرآن ، ولا عذر لهم . هناك مستبدون لا علم لهم بالقرآن فى كوريا الشمالية والصين وروسيا .. ولكن ماذا عمّن يزعم الاسلام والايمان بالقرآن ؟
فى الديمقراطية الرأسمالية
لأنها ديمقراطية نسبية فليس فيها أمن مطلق للحكام ، بل أمن نسبى ، لهذا فالعدالة نسبية وكذا الأمن والسلام . والشعار الأمريكى للمتظاهرين المحتجين هو ( No justice , no peace). أى حيث لا توجد عدالة فلا وجود للسلام . وهى حكمة بليغة لو كنتم تفقهون .!
فى الديمقراطية الاجتماعية
1 ـ هذه توجد فى شمال أوربا وشمالها الغربى ( إسكندنافيا ). حيث :
1 / 1ـ الجمع بين الديموقراطية وأكبر قدر من العدالة الاجتماعية فى مجتمعات متماسكة من عرق وإثنية واحدة .
1 / 2 ـ لا تعرف إسم الحاكم ، لأن الحاكم هو الشعب . والمسئول يسير آمنا فى الشارع ، يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، ويركب المواصلات العامة بلا حراسة .
1 / 3 ـ قلة السجون والمساجين مع ضخامة الانتاج بالنسبة لعدد الأفراد .
2 ـ إختلف الحال فيها بعد كثرة هجرة المحمديين الى هذه البلاد ، وهم يحملون أوزار أديانهم الأرضية . ومع ذلك تبقى هذه الدول الأقرب الى الدولة الاسلامية .
ثانيا : فى الدولة الاسلامية :
1 ـ الوظيفة الأساس للدولة الإسلامية نحو أفرادها هى إقامة القسط وضمان حرية العقيدة وحمايتهم داخليا وخارجيا بتوفير الأمن الداخلى والخارجى. الأمن ضد الخطر الخارجى يعنى أن يكون للمجتمع جيش قوى يرهب الأعداء من الاعتداء عليه . نتذكر قوله جل وعلا : ﴿وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ﴾ (الأنفال 60) وهذا الاستعداد لإرهاب العدو يعنى ردعه عن التفكير فى الاعتداء وبالتالى حقن الدماء ـ دماء العدو ودماء أبناء الدولة الاسلامية ـ وهذا يقع ضمن مشروعية القتال فى الدولة الإسلامية. انها دولة تعتنق السلام كفريضة دينية فى تعاملها الدولى، اذ لا مجال فى شريعة الاسلام للاعتداء على أحد بل مجرد رد العدوان بمثله. وشان الدولة المسالمة أن يتشجع المعتدون على الاعتداء عليها اذا اقترن السلام عندها بالضعف، ولذا كان لا بد من أن يقترن السلام بالقوة الحربية لتخويف المعتدين وردعهم. وبذلك فان القرآن الكريم فى تشريعاته قد سبق سياسة الردع النووى التى استعملها المعسكران الغربى والشيوعى فى النصف الثانى من القرن السابق. و العدل والقسط هما أساس التعامل مع العدو الخارجى ويكون بتكوين دولة قوية بجيشها وأهلها، لتؤكد حق المجتمع المطلق فى الأمن.
2 ـ كما أن من حق الأفراد أن يعيش كل منهم آمناً وعلى أساس التساوى وبحيث لا يستأثر فرد واحد بالحماية دون الآخر، حتى لو كان ذلك الفرد هو رئيس الدولة، وفى الدولة الدينية والدولة المستبدة العلمانية والعسكرية ، وحتى فى الدولة الديمقراطية التمثيلية نرى نصيب الحاكم فى الأمن يفوق ما للفرد العادى من الحماية. بل ان الدول المستبدة ـ علمانية أو دينية ـ تنفق على الأمن السياسى الذى يعنى أمن الفرد الحاكم وزمرته أضعاف ما تنفق على الأمن الجنائى الذى يحمى المجتمع كله.
3 ـ ان الأمن هو مقياس لمدى ما يتمتع به الحاكم من سلطات. فى دول الديمقراطية المباشرة يكون الحاكم أجيرا حقيقيا للمجتمع لا يتميز عن الشخص العادى بشىء ، وهكذا كان النبى محمد عليه السلام فى حياته فى مكة والمدينة ، يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق بدون حراسة، شأن كل شخص عادى. وكانت بيوته مفتوحة للضيوف بدون حراسة ، يأتون يأكلون بلا إستئذان ويتكلمون مع زوجاته بلا تكلف ، وكان يستحى من منعهم فنزل قوله جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الأحزاب ) . وكان الأعراب من خارج المدينة يأتون الى بيوته يدقون الأبواب وينادونه لا ينتظرون خروجه لهم ، فقال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات ).
ثالثا :
بإيجاز :
1 ـ عندما يزداد نفوذ الحاكم فى الديمقراطية التمثيلية يكون ذلك على حساب الشعب الذى تنازل عن جزء من سلطته للحاكم وأعوانه، وبالتالى يحتاج الى حماية أمنية وحراسة بوليسية ظاهرة ومستترة تتساوى وما أخذه من حقوق الناس بالرضا أو بالظلم.
2 ـ اذا وصلنا الى الحاكم المستبد الذى يسرق حقوق شعبه الاقتصادية والسياسية والانسانية نجده فى حالة رعب من الناس اعترافا منه بما ارتكبه فى حقهم . لا بد له من ارهابهم وتعذيبهم ليسكتوا عن المطالبة بحقوقهم خوفا من هيبة الدولة التى هى هيبة الحاكم الفرد نفسه. وبزيادة الظلم والتعذيب يزداد خوف الحاكم أكثر من انتقام قادم لا محالة وتطارده صرخات ضحاياه ، فيحاول التخلص من تلك الكوابيس بالمزيد من اجراءات الأمن فيزداد الارهاب على المواطنين ويزداد بالتالى هلع الحاكم من انتقام أفظع على أعتاب بابه ، وهكذا يدور المستبد فى حلقة مفرغة متزايدة من الظلم والارهاب والخوف من الانتقام القادم أو احتمال الثورة بحيث لا تكفى قوى الجيش والبوليس وأجهزة الأمن المختلفة فى أن تجعل المستبد المذعور الملعون يحس بالأمن.
ولو أنصف لأعطى الناس حقوقهم بالعدل والمساواة وتمتع معهم بالأمن والحرية ، وعاش حياته بين الناس متنمتعا بالحب والاحترام أثناء فترة عمله رئيسا وبعد تركه العمل يعيش آمنا بين الناس متمتعا بحبهم وإحترامهم ، شأن كل خادم للشعب أو حاكم فى نظام الديمقراطية المباشرة حيث لا يمتاز عن غيره من المواطنين فى الحراسة والأمن.
أخيرا :
نرجو تدبر قوله جل وعلا :
1 ـ ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران )
2 ـ ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران ).
ودائما : صدق الله العظيم .!