الحق فى القسط والحرية بين المجتمع والفرد
كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ). الباب الثالث : الدولة الاسلامية وحقوق المواطن
الفصل الرابع : الحق فى القسط والحرية بين الجتمع والفرد
مقدمة
1 ـ المستبد يملك الوطن ومن يعيش فيه ، وهو أيضا المتحكم فى أفكار الناس ومعتقداتهم ، ومن يخرج عن رأيه يراه تهديدا لفرعونيته وحاكميته ، ومأواه السجن أو القتل . وفى دولة المستبد لا وجود للقسط ولا وجود للحرية الدينية وغيرها ، والدولة الدينية أشدُّ ظلما من الدولة المستبدة العادية .
فى دول الديمقراطية الغربية يتحكم فى الثروة المجلس التشريعى . الكونجرس الأمريكى هو الذى يوزع المستحقات المالية ، وهو الذى يراقب صرفها ، ويناقش المسئولين . بل إختيار المسئولين فى السلطتين التنفيذية والقضائية تكون بموافقته . هذا فى الوقت الذى لا يملك مخلوق فى مصر أن يناقش ميزانية الجيش أو شركاته أو أن يقول لأى مسئول : من أين لك هذا ؟!.
2 ـ الشورى بإيجاز هى ( فنُّ ) القوة .
2 / 1 : المستبد يتحكم فى الشورى . الملأ التابع له يفكر له فيما يرضيه . لأنه الذى يحتكر القوة . نرى هذا فى التناغم بين فرعون موسى والملأ التابع له ، وبين ملكة سبأ والملأ التابع لها . أما الشعب فهو صفر على الشمال ، أو ملايين الأصفار على الشمال. لا تقل إن عدد البشر فى كوكب المحمديين بليون ونصف . العدد الفعلى هو عدد الفراعنة .
إذا ناضل الشعب وحصل على بعض مكاسب يقتطعها من المستبد فإن نصيبه من الشورى أو الحكم والقوة هو بقدر مكاسبه. قد يقيّد الملكية لتكون ملكية دستورية تتقاسم الحكم مع ممثلى الشعب ، ويتأرجح الأمر بمن يحصل بالنضال على المزيد . والأمثلة كثيرة ـ ودامية ـ فى الصراع من أجل الديمقراطية فى أوربا ، والذى استمر قرونا . وفرنسا خير مثال على ذلك ، منذ ثورتها ( 1790 : 1792 )، والتقلبات التى حدثت الى عودة الملكية البوربونية ثم الجمهوريات المتلاحقة .
2 / 2 : فى الديمقراطية الغربية التمثيلية تجد لُعبة الانتخاب ومموليها فى إعلاء أتباع البليونيرات ، ضمن ثوابت الدولة العميقة . ولكن الذى يخفّف الوضع هو الحرية للصحافة والاعلام وحرية التعبير فى نقد المسئولين مهما كانوا ، فهم ( خدم الشعب ) وفق التعبير الأمريكى الشائع ( Public services) ، مع عدم المساس بالمواطن العادى ( المواطن الخاص ) ، أى الشخص العادى . لو هاجمته بالقول يمكن أن يرفع عليك قضية تشهير. أما لو هاجمت الرئيس الأمريكى فلا يملك لك شيئا. ( قارن هذا بما يحدث فى كوكب المحمديين ).
2 / 3 : الوضع فريد فى الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة . فالثروة ملكية مطلقة للمواطنين ، وللافراد حسبما شرحنا من قبل ، والشورة هنا تعنى أن لهم الحكم المطلق ، ولهم أن يستخدموا أولى الأمر أصحاب الاختصاص تحت المساءلة . وأساس الحكم هنا هو القسط والعدل بين المواطنين بلا أدنى تفرقة ، ومع الحرية الدينية المطلقة للأفراد والجماعات . أما حرية الكلمة فهى مقيدة فيما يخص حقوق الأفراد .
ونعطى تفصيلا .
أولا :
حق الفرد المطلق فى القسط:
1 ـ لن نتوقف بالتفصيل مع الآيات القرآنية التى توجب إقامة العدل والقسط فى التعامل مع العدو أو الصديق مثل قوله جل وعلا : ﴿إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ (النحل 90) ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152) ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ﴾ (النساء 135)
﴿يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة 8).
2 ـ لن نتوقف مع هذه الآيات الكريمة إلا فى تقرير حقيقة قرآنية واحدة، وهى أن الحكم المقصود فى الآيات هو الحكم القضائى، أو الحكم بين الناس، وإقامة ذلك الحكم بالقسط يعنى أن الوظيفة الأساس للدولة الإسلامية هى إقامة العدل والقسط، أو الحكم بين الناس بالعدل، وليس حكم الناس أو التحكم فيهم. والمعنى المقصود أن يكون واجب الدولة الأساس هو إقامة القسط بين الناس .
3 ـ ولكن إلى أى حد؟
نقول إلى حد القسط المطلق بحسب إمكانية القاضى . وتتعرف على ذلك من التفرقة الدقيقة بين كلمتين قرآنيتين وهما "المقسطين"، و"القاسطون" والمقسط هو تعبير مبالغة يفيد تحرى القسط دائماً، بقدر المستطاع . ويتكرر فى القرآن قوله سبحانه وتعالى ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة 42، الحجرات 9، الممتحنة 8) فهذا المسقط يحبه الله جل وعلا .
أما القاسط فهو الذى يتحكم فى القسط حسب الهوى ، أى الذى لا يراعى العدل ، ومصيره جهنم، يقول جل وعلا : ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15).
4 ـ على أن القاضى ــ مهما كان مخلصا فى تحرّى العدل ـ فهو بشر لا يعلم الغيب ، ومن الممكن خداعه ، بالتالى فإن تحقيق العدل المطلق يستحيل فى هذه الدنيا . هو فقط فى الآخرة أمام الله جل وعلا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور . قال جل وعلا :
4 / 1 : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء ).
4 / 2 : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) غافر ).
يكفى القاضى المسلم تحرّى العدل فى أحكامه عالما أنه سيؤاخذ يوم القيامة لو أهمل أو ظلم . ونتذكر أن الله جل وعلا لا يؤاخذنا إذا نسينا أو أخطأنا بلا قصد ، ولا يكلفنا إلا وسعنا . قال جل وعلا : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة ).
ثانيا :
حق الفرد المطلق فى الدين ( عقيدة وعبادة ودعوة ) :
1 ـ قلنا إن فى القرآن الكريم أكثر من ألف آية قرآنية تؤكد حرية العقيدة وحرية التعبير عنها وحرية الفعل العقيدى إيماناً وكفراً وإرجاع الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة، وأن ذلك يسرى على النبى نفسه. ونكتفى من مئات الآيات القرآنية التى تؤكد حرية العقيدة ببضع آيات قلما يستشهد بها الناس.
1 / 1 : فالله سبحانه وتعالى يقول للبشر : ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ﴾ (الزمر 7) إذن هى حرية مطلقة فى الإيمان والكفر، ومسئولية شخصية والحساب عليها أمام الله تعالى يوم القيامة.
1 / 2 : والله جل وعلا يقرر أيضاً حرية الفعل الإلحادى مع آيات الله، ويجعل العقوبة عليه يوم القيامة، ويؤكد حفظ كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول سبحانه وتعالى : ﴿إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.) ( إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت 40: 42).
1 / 3 : يوم القيامة يكون البشر قسمين حسب تصوراتهم عن الله جل وعلا وعقائدهم فيه ، كل منهما خصم للآخر، وأحدهما فى النار والآخر فى الجنة، والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ ﴾ (الحج 19) والملفت للنظر أن القرآن الكريم ساوى بينهما فى وصف الخصومة، ولم يجعل أحد الخصمين حكماً على الآخر، إذ كيف يكون الشخص خصماً وحكماً فى نفس الوقت، هذا مع أن أحد الخصمين سيكون ناجحا وفائزا يوم القيامة، بل أن النبى محمدا نفسه عليه السلام سيكون يوم القيامة خصماً لأعدائه الذين اضطهدوه فى مكة وماتوا على كفرهم وبغيهم دون توبة ، والله سبحانه وتعالى يقول للنبى محمد وخصومه ﴿إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ. ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ (الزمر 30: 31) فالنبى محمد عليه السلام سيختصم معهم أمام الله تعالى، والآية تساوى بين النبى وبينهم فى الخصومة واستحقاق الموت.
2 ـ حرية الفرد الدينية تشمل الاعتقاد والعبادة والدعوة . وليس مألوفا أو مسموحا فى كوكب المحمديين أن تدعو أقلية دينية الى دينها خارج محيطها ، ليس على مستوى الاختلاف الدينى ( محمديين ومسيحيين ) بل على المستوى المذهبى ( سنة وشيعة ) . القوانين فى كوكب المحمديين تحرّم وتجرّم الدعوة لغير الدين المسيطر ، ولأتباعه تكفير غيرهم وإضطهادهم بل والاعتداء المادى عليهم وعلى بيوت عبادتهم . لا تجد هذا فى أمريكا حيث يمكن أن تشترى كنيسة وتحولها الى مسجد . حرية الدعوة الدينية والتبشير به بين الآخرين هى قمة الحرية الدينية ، وهى فى الدولة الاسلامية حق متاح للأشخاص والجماعات على قدم المساواة . حساسية هذا فى أن الدعوة لدين أو مذهب تعنى تكفير ما عداه ، ولا بأس بهذا إسلاميا . بل هو لصالح الاسلام . ففى ظل الحرية الدينية وإحترام حق الاختلاف الدينى تكون النتيجة :
2 / 1 : تآكل سلطة الكهنوت الدينى إذ لا يستطيع أن يصمد فى أى نقاش عقلى ، لذا لا بد له من سُلطة تحمله على كاهلها تقيه شرّ النقاش ، ولهذا لا وجود لنفوذ الكهنوت فى الدولة الاسلامية ، لم يكن النبى محمد عليه السلام كهنوتا ، فقد كان لا يملك لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ نفعا ولا ضرا . وحتى فى الحرية الدينية فى الديمقراطية الغربية لا وجود للنفوذ السياسى للكنيسة ، مجرد خدمات إجتماعية تطوعية .
2 / 2 : الفائز فى أى حوار عقلى هو الاسلام ، والقرآن هو حجة الله البالغة . قال جل وعلا : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (149) الأنعام ).والكثير من الآيات القرآنية تدعو للتعقل والتفكر والتفقه وتطرح أسئلة وتجيب على أسئلة ببراهين عقلية . أما الكهنوت فليس إلا خُرافات تتطلب الإيمان الأعمى .
3 ـ وهناك حق مصون للأفراد ومن ينتهكه فعليه عقوبة القذف . ونستشهد بقوله جل وعلا : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ، ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور ) .
مع تعلقها بالنساء العفيفات فالذكور لهم فيها نصيب ، لأنّ من يسُبُّ أم شخص أو إخته أو زوجته يكون من حقه الشكوى وإحالة القاذف للمحكمة .